تمر في يونيو/ حزيران الجاري ذكرى 150 عامًا على ولادة توماس مان/ Thomas Mann، وهو أحد أبرز أعلام الأدب الألماني في القرن العشرين، إذ تجاوزت أعمال مان حدود اللغة الألمانية، وأصبحت جزءًا من التراث العالمي بفضل رواياته التي لاقت النجاح في ساحة الأدب العالمي بفضل تناولها اللافت للتحوّلات الاجتماعية والسياسية، ولأنّ الكاتب جمع فيها بين عمق التحليل النفسي، والوعي الأخلاقي، والتأمل الفلسفي. بالإضافة إلى طرحه أسئلة عميقة حول الموت والحياة، وحول معنى الهوية.
وُلد بول توماس مان في 6 يونيو/ حزيران عام 1875 في عائلة ثرية، وتلقى تعليمًا جيدًا في مدينة لوبيك في عصر الإمبراطورية الألمانية، فأصبح واحدًا من أبرز الأدباء في ألمانيا وأوروبا، حيث شكّلت أعماله انعكاسًا عميقًا للفكر الأوروبي في القرن العشرين، ورصدت آثار التحولات الاجتماعية والسياسية على الفرد والمجتمع.
ركز توماس مان في أعماله على التدهور الأخلاقي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي، وخاصة في أوساط الطبقة البرجوازية. مع كلّ كتاب جديد، راح نضجه الفني والفكري، وتفكيره الفلسفي العميق، يتكشّف أكثر فأكثر. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، ومع صعود النازية في ألمانيا، كان توماس مان من أبرز المعارضين لها، حتى اضطر تحت الضغوط المتزايدة، والخوف على حياته، إلى الهجرة إلى سويسرا، ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية، واستمر في الكتابة في مختلف الموضوعات الاجتماعية الشائكة.
توفي توماس مان في زيورخ تاركًا خلفه إرثًا أدبيًا عظيمًا، وأعمالًا لا تزال تدّرس حتى الآن باعتبارها مرجعًا من مراجع الفكر الإنساني.
أدب مان
والد توماس مان هو الابن الثاني لتوماس يوهان، تاجر الحبوب، وعضو مجلس الشيوخ، أما والدته فهي سيدة المجتمع جوليا دا سيلفا برونز، ذات الأصول البرتغالية ــ البرازيلية. في ما بعد، انتقلت عائلته إلى ميونيخ، حيث درس توماس في مدارسها، ليلتحق بالجامعة التقنية، ويدرس التاريخ، والاقتصاد، وتاريخ الفن والأدب، كي يصبح صحافيًا.
بدأ توماس مان مشواره الأدبي بالكتابة في الصحف والمجلات الأدبية في شبابه المبكر. وكانت أولى أعماله الروائية رواية "بودنبروك"، التي نُشرت في عام 1901، وحققت له شهرة واسعة، وعُدّت علامة فارقة في مسيرته الأدبية. تحكي الرواية قصة انحدار عائلة برجوازية على مدى أجيال، وتسلّط الضوء على التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها ألمانيا في ذلك الوقت.
قبل روايته الطويلة الأولى، ألف توماس عددًا من القصص القصيرة حقق بفضلها شهرة بسيطة. واصل توماس عمله بدون كلل، لتكلل جهوده بظهور روايات حققت نجاحًا كبيرًا، منها رواية "الموت في فينيسيا"، في عام 1924. وتوجّت مسيرة توماس مانّ الأدبية بحصوله على جائزة نوبل في الأدب عام 1929 عن روايته "الجبل السحري"، التي رأت لجنة التحكيم فيها عملًا رائدًا في الأدب الألماني والأوروبي.
من رواياته الشهيرة الأُخرى "يوسف وإخوته"، وهي رباعية روائية مستوحاة من القصة التوراتية ليوسف بأسلوب ملحمي وفلسفي. وكذلك روايات "لوته في فايمار"، و"الدكتور فاوستوس"، و"المختار"، و"اعترافات المحتال فيليكس كرول".
بالإضافة إلى ذلك، ألف توماس أيضًا عشرات القصص القصيرة والمسرحيات، ومنها "تونيو كروجر"، و"ماريو والساحر"، و"تريستان".
معارضته للنازية... والمنفى
لم تقتصر أنشطة توماس مان على الأدب، بل كان من أبرز المعارضين لهتلر والحزب النازي. ألقى عددًا من الخطابات المناهضة للنازية، ما تسبب في مواجهته مخاطر شديدة، بالاعتقال، أو القتل. اضطر مع عائلته، وبعض من أبنائه، إلى الهرب من ألمانيا إلى سويسرا. بعد ذلك بأسابيع، قامت السلطات النازية بسحب الجنسية الألمانية منه، ومن زوجته، وبنتيه جولو وإليزابيث، وابنه مايكل، وصودر منزله في ميونيخ، وسحبت الدكتوراه الفخرية منه (منحته إياها جامعة بون عام 1919).
وصل توماس مان إلى الولايات المتحدة فقيرًا ومريضًا، وفي حاجة إلى دعم مادي. في تلك المرحلة العصيبة، وقف شقيقه الأكبر هاينريش إلى جانبه بقوّة. وفي عام 1944، حصل توماس مان على الجنسية الأميركية، وعاش في لوس أنجلس حتى عام 1952. من منفاه في الولايات المتحدة الأميركية، لم يتوقف مان عن معارضة للنظام النازي الجاثم على صدر ألمانيا والعالم، فكان يلقي الخطابات المناهضة للنازية عبر محطات البثّ الإذاعي في بريطانيا وألمانيا.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهزيمة ألمانيا النازية، بسبع سنوات، عاد توماس مان إلى أوروبا، ليستقرّ في مدينة كيلشيرغ، بالقرب من مدينة زيوريخ في سويسرا، حيث عاش هناك حتى عام 1954، وكان يسافر إلى ألمانيا بانتظام، ولكنّه لم يستقر فيها أبدًا بعد العودة من المنفى.
في تموز/ يوليو عام 1955، وفي عيد ميلاده الثمانين، بدأ مانّ يشعر بآلام في ساقه اليسرى، وتورم شديد، وتم تشخيصه بالتهاب الوريد الخثاري، وأخذت حالته الصحيّة تزداد سوءًا كلّ يومٍ حتى وفاته في 12 آب/ أغسطس عام 1955 في أحد المشافي السويسرية.
أسلوبه وأثره في الأدب
على خطى مؤسس الأدب الألماني الشهير، غوته، سار توماس مان. كان هذا الخيار السبب المباشر في تحوّل توماس مان إلى أحد أبرز الكتاب الكلاسيكيين في عصر الأدب الألماني الحديث، وتسابقت أشهر الجامعات العالمية على تكريمه واستضافته أستاذًا ضيفًا فيها، ومنحه درجات الدكتوراة الفخرية. ومن أعرق الجامعات التي كرمته جامعة برينستون، وجامعة أكسفورد. ورغم أن جسم الأديب كان بعيدًا عن وطنه، إلا أن روحه بقيت معلقة ببلاده وشعبه. وكانت عبارته في آخر عمل قدمه تحت عنوان "رجل وحيد رفع يده إلى السماء": "ربِّ! كن رحيمًا بروحي الفقيرة، وبصاحبي وببلدي".
يتميز أسلوب توماس مان الأدبي بالدقة والتفصيل، بالإضافة إلى العمق الفلسفي، مما أضفى عليه تفرّدًا مميزًا عن غيره. بالإضافة إلى ذلك، تتسم كتابات مان باستخدام كثير من المعاني المجازية التي تتطلب من القارئ التعمق والتفكر لفهم رسائلها بشكل كامل. على سبيل المثال، يلجأ مان في روايته "الجبل السحري"، بشكل مكثف، إلى الرمزية، ليجعل من المرض وعلاجه رموزًا لجوانب الطبيعة البشرية، وللصراعات الوجودية التي يمر بها الأفراد. كما تطرقت أعمال مان إلى مجموعة من المواضيع الثرية التي تمثل جزءًا أساسيًا من الأدب الأوروبي، مثل الفلسفة والديانات، والتوترات الاجتماعية والسياسية، والعلاقات بين الفرد والمجتمع.
كانت الفترات الزمنية المضطربة التي عاشها مان خلال الحروب العالمية، والحركات السياسية في أوروبا، بمثابة محفزات قوية لكتاباته. استخدم مان أعماله لرصد ونقد التناقضات في المجتمع البشري، إضافة إلى تسليط الضوء على الأزمات الأخلاقية والروحية التي تواجه الإنسان الحديث.
كغيره من الأدباء، تأثر فكر توماس مان وأسلوبه بعدد من الأدباء والفلاسفة، وخاصّة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، المعروف بفلسفته العدمية، وتصوراته العميقة عن الإرادة الحرة والجهد البشري. من جانبه، ترك توماس، بصفته مفكرًا وكاتبًا ومحللًا ثقافيًا، أثرًا كبيرًا في المجتمع الثقافي الألماني والأوروبي، وكان يسعى دائمًا للتفاعل مع القرّاء، ونقل رؤاه حول التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة. من خلال مقالاته وخطبه التي تناولت موضوعات سياسية وثقافية هامة، تمكّن مان من المساهمة بقوة في إثراء الفكر الثقافي، داعيًا إلى التفكير النقدي والحوار كأساس لبناء مجتمعات متطورة ومتحضرة، مؤكّدًا في الوقت نفسه على ضرورة الحفاظ على القيم الإنسانية في مواجهة كلّ ما يستجد من تحديات.