ما الذي حدث مع المخرج الأكثر نجاحًا في هوليوود على الصعيد التجاري، ستيفن سبيلبرغ، حين قدّم فيلمه "حرب العوالم" عام 2005 في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001؟ فقد كان يريد أن يُعبّر عن إنسانية المجتمع الأميركي، وكيف يمكن بالحب الانتصار على قوى الشر، لكن بسبب حالة الهيجان، والتوتر، والانفعال التي كانت تُصيب المجتمع بسبب ما حدث، وتحت تأثير صدمة ما جرى، فقد خرج الفيلم عن سياقه ليقول حقائق أخرى.
قال الفيلم، قبل ما يزيد على عقدين، ما يتجسّد اليوم علانية على أرض الواقع: إن أميركا لا تحتكم إلا للقوة. هي الوحيدة التي تدّعي القدرة على التهديد بالجحيم لكل من يتعارض مع مصالحها، حتى لو كان المعترضون من أبناء جلدتها. وما طريقة قمع المتظاهرين في بعض الولايات الأميركية إلا دليل على ذلك. وهي الباحثة عن عدو وهمي لتبرير تملّكها الزائد لأسلحة جهنمية. هي الدولة العميقة التي لا تُعبّر أقوالها عن أفعالها. هي التي تُضمر ولا تُعلن، والتي لا يُؤتمَن جانبها، وتدّعي امتلاك "الحل" لمشاكل العالم قاطبة، وهي العاجزة عن حل مشاكلها الداخلية.
لعل المدخل الأنسب للتعامل مع هذا الفيلم يتجسد فيما صرّح به المخرج في أعقاب الإعلان عن عرضه، فلولا ربط المخرج ما بين أحداث الفيلم وأحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، لما أدرك المشاهد بسهولة هذا الربط، وهذا شكل من أشكال الاستعلاء الأميركي الذي لا يريد مجرد الاعتراف بأنه كان ضحية اختراق أدّى إلى هجوم عليه لم يكن في الحسبان، أو هو تعبير عن السياسة الأميركية التي تجنح إلى الهروب إلى الأمام كلما واجهتها مشكلة راهنة.
يقول المخرج في تصريحاته التي سبقت عرض الفيلم إنه لا يستطيع نسيان الرعب والهلع اللذين أصابا الأميركيين في أعقاب الهجوم الذي تعرّضت له الولايات المتحدة الأميركية في أيلول/ سبتمبر 2001، وخاصة مشهد هروبهم الجماعي وكلٌّ منهم ينشد السلامة لنفسه. كأنه يريد إعادة الاعتبار للتواصل والعلاقات الإنسانية أمام آلة الموت، رافضًا أن يتقبل فكرة أننا أمام سطوة الموت نهرب فرادى، كلٌّ منا يبتغي السلامة لنفسه، حتى لو داس، أثناء ذلك، على جثث وحياة الآخرين، بما في ذلك حياة أقرب المقرّبين إليه.
يبدو السؤال المفترض، حسب ما صرّح به المخرج، منطقيًا: ماذا لو واجهك الموت وأنت في حضن حبيبتك، أو بمعية أسرتك، أو بصحبة أقرب المقرّبين إليك؟ هل تنسحب من بينهم وتنشد السلامة لنفسك؟ أو بالأحرى، هل تفطن لحياة من يهمّك أمرهم إذا كانت حياتك نفسها مستهدفة؟
يستند سبيلبرغ في فيلمه إلى رواية تحمل نفس اسم الفيلم "The War of the Worlds" صدرت عام 1898 للكاتب البريطاني هربرت جورج. تحكي عن غزو كائنات من كوكب آخر غير الأرض. ويستعرض الفيلم قصة شخص يُدعى راي، قام بدوره توم كروز، مطلّق، ولديه من زوجته السابقة ابن في سن المراهقة وابنة في ريعان الطفولة، يعيشان مع أمهما وزوجها. ويضعنا الفيلم دون تمهيد مطوّل أمام راي وهو يتسلّم ابنيه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معًا، حيث إن طليقته وزوجها سيمضيان العطلة في بيت أهلها في بوسطن. ونلاحظ كيف أن العلاقة سيئة بين راي وابنيه، فهو لا يحفل بهما، وهما لا يحترمانه لسوء عنايته، حتى إنهما يتهكمان على الفوضى التي تعمّ بيته، وكيف أن ابنه المراهق يتحاشى النظر إليه، بل حتى مناداته بكلمة "أبي". ويبدو الأمر، كما يقول راي: "عطلة نهاية أسبوع وتنتهي بعودة أمهما".
في ظل هذا الواقع لأسرة أميركية صغيرة يحدث ما لم يكن في الحسبان، بل ما لا يمكن أن يتخيله أحد، إذ تسود المدينة سحب منخفضة يليها برق عنيف ورياح عاتية تُقطع بسببها الكهرباء عن البيوت والسيارات والأجهزة والهواتف، وتخرج من باطن الأرض كائنات غريبة تمشي على ثلاثة أرجل وتبدأ بتدمير المدينة وكلّ من عليها. هنا، تصبح مهمة راي أن ينجو بابنيه ويعيدهما سالمين لأمهما، وهو ما يركّز عليه الفيلم على مدار مدته التي تصل إلى ساعتين، ويتمكن راي أخيرًا من العودة بابنته إلى أمها في بوسطن، ويكون ابنه قد سبقهما إلى هناك، طبعًا بعد أن يكونوا قد تعرّضوا إلى جحيم الموت ومخاطر جسام.
هذا هو السياق العام للفيلم، أما التفاصيل فإنها كثيرة، إذ يبدأ الفيلم بإشارة مكتوبة علت الشاشة وتشير إلى مخلوقات عجيبة هاجمت الأرض في عام 2001. وهذه الإشارة إلى أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ثم نتابع مشاهد هروب الأميركيين، وهي مشاهد قريبة من حالات الهلع التي أصابتهم في أعقاب تلك الأحداث، على النحو الذي يجسد رأي المخرج حين قال: "أكثر الصور التصاقًا بذاكرتي هي فرار الجميع من مانهاتن عبر جسر جورج واشنطن في أعقاب 11 أيلول/ سبتمبر. إنها صورة مؤلمة لم أنجح في إبعادها عن مخيلتي". ثم نأتي إلى الإشارات السياسية التي تضمنها الفيلم، حين تسأل الطفلة عن سبب الهجوم، وإن كان إرهابيًا، وعن مصدره: هل هي أوروبا؟ يسأل الابن، فيرد الأب بالنفي. ثم هناك إشارة نقدية للأجهزة الأمنية الأميركية حين يُشار إلى أن اليابانيين تمكنوا من القضاء على أحد تلك الكائنات الغريبة التي تغزوهم.
ثم نلاحظ الخلاف ما بين الابن وأبيه، الذي يحمل أكثر من معنى سياسي. ففي حين تنحصر مهمة الأب في تأمين سلامة ابنيه، يحاول الابن المراهق أن يشارك الجيش لمقاومة هذه الكائنات الغريبة، وهذا ما يتحقق له حين يفصل عن أبيه، ثم يلتقيان في النهاية في بوسطن.
أراد المخرج أن يُعبّر عن فرار الأميركيين للنجاة بأرواحهم وقد تعرّضوا لهجوم بلا مبرر، وليس لديهم أدنى فكرة عنه، أو عن مسببه، وأن يرد على الذعر الذي أصابهم من خلال قصة الأب الذي ينجو بابنيه من الموت المحقق. ولكن يبدو أن انفعال سبيلبرغ في التعامل مع فكرة الهلع دفعه لأن يُقدّم فيلمًا منفعلًا غير مترابط، فقد غلب الانفعال والمبالغة على أداء الممثلين، فأدّى ذلك إلى عدم الإقناع. فالطفلة التي أدّت دورها داكوتا فانينغ بدت أكبر من عمرها، فهي تتصرف وتحاور برزانة امرأة ناضجة، كما أن انفعالها ورعبها كانا مفتعلين، أما الكومبارس الذين أدّوا دور المجاميع الهاربة، فلقد أخفق المخرج في إضفاء لمسة واقعية على أدائهم، وكان واضحًا للمشاهد أن من يتعرّض لموقف مشابه لا يتصرف على هذا النحو، فلا يمكن أن يواصل النظر إلى مبعث الخطر ويستمر في الدوران حوله بأعين مشدودة وليست مرعوبة. ويأتي دور توم كروز الذي جعله الممثل الأعلى أجرًا، وأتساءل عن استثنائيته، فهو دور عادي كان يمكن أن يقوم به ممثل من الدرجة الثانية. ثم ما قصة اللمسات الرومانسية التي حرص المخرج على اقتحامها؟ هل يُعقل أن تغني الطفلة لأبيها أغنيتها المفضلة والكائنات المفترسة على بُعد خطوات منها؟!
ثمة مشهد لا يقل رعبًا عمّا تقترفه الكائنات الغريبة بالبشرية، بل لا يقل من حيث المبدأ عن بشاعة أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وذلك حين يهرب الأب وابنته إلى قبو يختبئ به رجل فقد أسرته وأُصيب بصدمة عصبية. يُقدّم الرجل لهما الطعام والشراب، ويدعوهما للبقاء في مخبئه، ولكن الأب يكتشف أن الرجل ليس سويًّا، فهو يصرخ ويثرثر ويريد أن يقاتل منفردًا الكائنات الغريبة، فيُقدّر الأب أن الرجل يُشكّل خطرًا عليه وعلى ابنته، فيُقرر أن يقتله، وهذا ما يحدث بالفعل حين يدعو ابنته لأن تُغمض عينيها، ويختلي بالرجل المسكين ويقتله: أية وحشية هذه؟!
ثم نأتي إلى انفراط الحبكة فيما يتصل بكيفية القضاء على الطائرات الغريبة، التي تأتي من الأب، الذي يُوعز للجنود أن يُوجّهوا مدفعيتهم إلى رؤوس تلك الكائنات بعد أن يُقدّر ذلك من خلال حركة الطيور.
حطام ودمار وكلف إنتاجية تتعدى الملايين ليُعيد ستيفن سبيلبرغ الثقة للأميركيين، حيث يفترض هجومًا أشد ضخامة تصدّى له إيمان أب بأبوّته، لكن الرسالة لم تصل، بل وصلت رسائل أخرى، ها نحن اليوم نعيشها على أرض الواقع بشكل واضح وصريح ومباشر.