}

"مدام بوفاري": مرآة أكثر من زمان وعصر

آمال مختار 8 يونيو 2025
استعادات "مدام بوفاري": مرآة أكثر من زمان وعصر
نحو 170 عامًا على صدور "مدام بوفاري" (Getty)
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتطغى فيه الصور والمحتوى الفوري على كل شيء، تبدو العودة إلى رواية كلاسيكية نُشرت في القرن التاسع عشر وكأنها نوع من الترف الثقافي أو الحنين إلى زمن ولّى. ومع ذلك، تبقى بعض النصوص عصيّة على النسيان، لأنها ببساطة لم تُكتب لزمن واحد، بل ربما لتخاطب الإنسان في كل زمان. من بين هذه الأعمال، تبرز رواية "مدام بوفاري" للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير كواحدة من العلامات الفارقة في الأدب العالمي، بل كنصّ لا يزال ينبض بأسئلتنا وهواجسنا وتوقنا الدائم إلى شيء أكثر من الحياة اليومية.
حين صدرت الرواية، عام 1857، أثارت ضجة كبرى بسبب ما اعتُبر حينها "خدشًا للحياء العام"، ولكن هذه الضجة لم تمنعها من أن تصبح حجر أساس للرواية الحديثة. "مدام بوفاري" ليست فقط قصة امرأة تخون زوجها، بل هي مرآة لذات بشرية تحاول أن تخرج من قفص التكرار والواجب، نحو حياة أكثر امتلاءً بالشغف والمعنى.
إيما بوفاري، بطلة الرواية، هي فتاة ريفية تتزوج من طبيب بسيط بحثًا عن حياة راقية، ولكنها سرعان ما تكتشف أن زواجها خالٍ من الشغف، وأن الواقع لا يشبه الروايات التي قرأتها في مراهقتها. تبدأ رحلتها في البحث عن الحب والمغامرة، فتتورط في علاقات عاطفية، وتغرق في الديون، وتفقد توازنها بين الخيال والحقيقة. ومع كل محاولة للهرب من الواقع، تقع إيما في فخ جديد من الخيبة، إلى أن تنتهي قصتها بمأساة.
إن ما يجعل هذه الرواية خالدة ليس فقط سردها المتقن أو لغتها الدقيقة، بل نظرتها النفسية العميقة لشخصية إيما، التي تتجسد فيها الهشاشة البشرية بأوضح صورها. فلوبير لا يدينها، ولا يدافع عنها، بل يعرضها أمام القارئ ككائن مأزوم، ممزق بين الطموح والواقع، بين الجسد والروح، بين الرغبة والواجب. إيما ليست "الخائنة"، بل الإنسان الذي يشعر بأن الحياة الحقيقية تحدث في مكان آخر، بعيدًا عن الرتابة والواجبات اليومية.
ما يزيد من تعقيد الرواية هو قدرتها على نقد المجتمع بدون أن تصرخ، بل من خلال تفاصيل الحياة اليومية، ومن خلال رتابة المشهد الريفي الفرنسي الذي يعج بالملل والسطحية. إنه مجتمع يغلف الخيبة بورق السيلوفان - التغليف الاجتماعي الذي يليق بالواجهات - ولا يمنح الفرد، خصوصًا المرأة، مساحة حقيقية لتحقيق الذات. في هذا السياق، إيما ليست فقط ضحية أو مذنبة، بل حالة إنسانية بامتياز.
أسلوب فلوبير نفسه كان ثوريًا. لقد كتب بجمل دقيقة، وابتعد عن التهويل العاطفي والزخرفة المجانية، ليصنع واقعية أدبية جديدة، تكون فيها الرواية وسيلة لفهم النفس لا وسيلة للتسلية فقط. لقد أصر على أن تكون كل جملة في الرواية "في مكانها"، وهو ما جعله يعيد كتابة صفحات كاملة مرات عديدة لمدة خمس سنوات. هذه الصرامة الأسلوبية جعلت من الرواية تحفة فنية لا تقدم فقط حكاية، بل تجربة فنية متكاملة.
بالرغم من مرور نحو 170 عامًا على صدورها، لا تزال "مدام بوفاري" تُقرأ وتُدرّس وتُقتبس في السينما والمسرح. فما السر؟ لعل الإجابة تكمن في أنها تحاكي ذلك الصراع الأبدي في داخل كل إنسان: بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون. إنها رواية تسائل القارئ: ماذا لو كنا نحن في مكان إيما؟ هل كنا سنرضى بالقليل؟ أم كنا سنغرق في أحلام أكبر من أن تتحقق؟
في عالمنا المعاصر، حيث تُباع الأحلام على شكل إعلانات، وتُختزل الرغبات في منشورات قصيرة، تبدو "مدام بوفاري" بمثابة تذكير مؤلم بأن الإنسان ليس مجرد متلقٍّ لما هو معروض، بل هو كائن يبحث عن المعنى، حتى ولو دفع ثمنًا باهظًا لذلك. إن عذابات إيما ليست سوى أصداء لعذاباتنا نحن، حين نحاول أن نعيش بصورة تتجاوز حدود الممكن.
إذا كنت تبحث عن رواية تعرّي النفس بدون أن تحكم عليها، فإن "مدام بوفاري" ليست مجرد بداية جيدة، بل هي ضرورة. إنها لا تمنحك أجوبة جاهزة، لكنها تساعدك على طرح الأسئلة الأهم. وفي زمن يُقاس فيه النجاح بعدد الإعجابات، تذكّرك إيما بأن القيمة الحقيقية تبدأ من الداخل — من نظرتك لنفسك، من حُلم لم يتحقق، ومن خيبة لم تُنسَ.
فلوبير لم يكتب رواية ترفيهية، بل كتب وثيقة إنسانية، تروي الحيرة والتوق والتناقضات التي تعيشها الذات البشرية.
ويمكن القول إن "مدام بوفاري" ليست فقط نصًا أدبيًا، بل مرآة أمام قارئ قدم وسيأتي من كل الأزمنة والعصور مواصلًا رحلة البحث عن ذاته وسط ضجيج العالم. 

*روائية من تونس. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.