}

"شحرور الوادي": من تأسيس منبر الزجل إلى ترسيخه تراثًا

ميشلين مبارك ميشلين مبارك 1 يوليه 2025
استعادات "شحرور الوادي": من تأسيس منبر الزجل إلى ترسيخه تراثًا
شحرور الوادي

لطالما سمعنا باسم "شحرور الوادي" وعرفنا أنه شاعر زجلي مهم، غير أنّ المصادر والمراجع التي تتحدث عنه نادرة، ولعلّ بعضها لم يستكشف عمق قصائده ويحللّها، ويستعرض بالتالي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت عصره، كما فعل الكتاب البحثي الموسع "شحرور الوادي- أسعد الخوري الفغالي- مؤسّس المنبر ورائد النهضة الزجلية في لبنان" الصادر عام 2023 عن دار النهار في بيروت، للباحث والمسرحي اللبناني الدكتور نبيل أبو مراد.

يتناول الكتاب بداية النبوغ الشعري عند والد الشحرور خليل سمعان، ثم يكشف عن مغامرات الشحرور وتنقّله في عدة وظائف بين عدد من البلدان، وصولًا إلى تأسيس المنبر الزجلي مع رفاقه، وما حملت هذه التجربة من نتائج، وكيف استولدت الجوقات الجديدة من بعده. كما نتبين علاقة القربى بين "شحرور الوادي" و"شحرورة الوادي" أي المطربة صباح. ولا شك في أنّ القارئ سيستمتع بقراءة قصائد الشحرور المميزة، خصوصًا عندما يدقق في معانيها مع ما تحمله من تحدِّ وجمال. تجربة استطاعت أن تحافظ على استمرارية الفنّ الزجلي وتنهض به عبر الأجيال حتى أصبح الزجل قيمة تراثية مقدّرة وموثقة من قبل منظمة اليونسكو العالمية.  

في أول الكلام يعبّر أبو مراد: "لقد حالت الرهبة من ولوج عالم الشاعر الذائع الصيت على مدى عقود في تأجيل وضع هذه الدراسة الموسعة". ونحن إذ نضيف إنه العمل المتقن والتحقيق العميق والبحث المتعدد الاتجاهات مع المراجع والمصادر العربية والأجنبية المحققة، أمور أجادها أبو مراد، وبالتالي نجح في وضعها وحفظها وإيصال الرسالة التراثية البحثية من هذا الكتاب. كلّ ذلك بأسلوب مرن، معتمدًا عدة مناهج للبحث من التحليل الموضوعي والتأريخي في الحديث عن بدايات الزجل وأهم المراحل التي مرّ بها. ثم نحا الكاتب إلى ملامسة المنهج الاستقرائي في الظاهرة موضوع البحث وخصوصًا في تحليل بعض قصائد الشحرور، وأبرزها في الرثاء والشعر الوجداني والغزل، مع المنهج المقارن عندما لزم الأمر في مقارنة بعض قصائده بشعراء آخرين. وصولًا لمنهجية تحليل القصيدة نفسها نظرًا لأهمية العلاقة التي تربط الشاعر مع القارئ، أو الزجل مع الحضور لما من تواصل أثناء الاستماع المباشر وبالتالي تأثير الزجل على عقول وقلوب السامع.

فما هو الزجل؟

في القسم الأول من الكتاب، يعود أبو مراد إلى بدايات الزجل، حوافزه، ثم التأسيس والشروط، يقول في الصفحة 15: "إن الزجل باب من أبواب الشعر العاميّ، وهو فنّ شعبي وتراثي بامتياز، بل هو من أهم التراث الشفاهي بعد الفولكلور، وقد تلاقى الزجل مع الفولكلور في الغنائية والإضاءة على العادات والتقاليد، وساعدا على التآزر الاجتماعي والروحي للشعب". إذًا خرج الزجل من رحم الطبيعة القروية، وانتقل من المناسبات الاحتفالية الشعبية - كالأعراس والأعياد الوطنية والتحدي بين الشعراء أنفسهم في مبارزات تظهر المقدرة الشعرية للشعراء وسرعة بديهتهم وسعة خيالهم- ثم تطور بالانفتاح على ثقافات متعدّدة، مواكبًا كل التحولات في الوصف والتشبيه والأوزان والمعاني، مما أجمع عليه القول أنّ هذا الشعر يدخل إلى القلب مباشرة.

وقد قدّم القرن التاسع عشر مجموعة كبيرة من شعراء الزجل، ويقول أبو مراد (الصفحة 18) "هؤلاء انتشروا في كل قرية من قرى لبنان، حيث نادرًا ما تعدم قرية من وجود من يقرض الزجل فيها"، ومنهم من عرفوا شهرة أمثال خليل سمعان الفغالي والد الشاعر "شحرور الوادي".

شكلّ الشاعر خليل سمعان فرح الفغالي الشحروري الملهم الأول لابنه في دفعه إلى عالم الزجل وتدريبه على المواجهة مع الشعراء، وفي تحفيزه أيضًا على تأسيس جوقة الشحرور. يقول أبو مراد في الصفحة 30: "كان خليل مولعًا إلى درجة الهوس بالشعر الزجلي، وقد ساعدته موهبته الجيّاشة على تفتح مداركه الفكرية، فراح ينكبّ على تصفّح ما يقع بين يديه". وبالفعل قد يتفاجأ القارئ إيجابًا بحكمة الوالد في تأليف ونشر كتب عن الزجل وأولها "عزرائيل القوّالين الجهلاء" الذي صدر في جزأين في عام 1908. بالإضافة إلى سلسلة كتب "شمس المعنّى" الذي يتألف من أربعة أجزاء، ويشير غلاف الجزء الثالث منه (تأليف أسعد وجرجي الخوري لويس فرح الفغالي)، إلى القوّال المشهور المبرّز في هذه الصناعة المعروف بخليل سمعان قبل اتشاحه ثوب الكهنوت "فأسعد هو اسم شحرور الوادي، وجرجي هو ابنه الثاني الذي أنزله معه إلى بلدة بدادون حيث سكن مع عائلته، ومن بين أفرادها جانيت التي أصبحت فيما بعد الفنانة الكبيرة صباح أو ’شحرورة الوادي’".

نبيل أبو مراد


يشرح أبو مراد أنّ كتاب "شمس المعنّى" طُبع في عام 1911 تاريخ دخول خليل سلك الكهنوت. أمّا ابنه أسعد فساهم في تأليف الجزء الرابع وأصدره في عام 1922. الجدير بالملاحظة، أنّ أحد هذه الأجزاء يحتوي على تحفة شعرية عبارة عن تجربة ملحمية نادرة تتألف من حوالي 2000 بيت من الشعر الزجلي كرواية عن بطل لبناني شهير هو يوسف بك كرم. أمّا الكتاب الأخير الذي طبعه سمعان فهو بعنوان "زنبقة الشرق ووردة الغرب وتحفة البرّ ودرّة البحر"، وهو عبارة عن قصيدة طويلة مرفوعة إلى البطريرك عريضة في عام 1937. بذلك يظهر غزارة الإنتاج الشعري عند خليل على الرغم من تفجعه بموت ابنه باكرًا، وفي الواقع، نُذهل بالتدبير الحكيم في جمع قصائد الشحرور في ديوان من 880 صفحة، ولولا الأب لكانت ضاعت أشعار الابن واندثرت.

في هذا القسم، نتعرف على شخصية أسعد الفغالي الفذّة وموهبته الطليعية وهو على الرغم من ولادته في بدادون (قرية قرب وادي شحرور) في عام 1884 إلاّ أنّه نسب إليه لقب شحرور الوادي (الذي سكن فيها ونقل نفوسه إليها بعد زواجه)، وعندما شبّ، تقدم لينال وظيفة في شركة سكة الحديد، ويُروى (على ما قاله ولده نبيل أسعد الفغالي)، أنه اشترط عليه المدير أن يحفظ الجدول الخاص بنظام العمل في الشركة ويعود إليه بعد ثلاثة أشهر، إلاّ أن "أسعد أخذ الجدول في الصباح وعاد إلى المدير في مساء اليوم نفسه وتلاه حرفًا حرفًا، فدهُش هذا الأخير أمام قوة ذاكرة أسعد وسلمه الوظيفة فورًا" (ص:41). وبحكم عمله تنقل بين حلب وحوران ومن ثم دول البلقان واليونان. كما عمل في التحري وعيّن في الحرب الكونية الأولى في حلب حيث كان يغتنم الفرص السانحة ويقيم السهرات الزجلية، وقد أصبح لديه أوائل المعجبين بنبوغه وفطرته. بعد زواجه في عام 1933 أصبح أسعد ذائع الصيت ويُعرف بـ "شحرور الوادي". 

ونرافق الكاتب أبو مراد في كتابه، فنتعرّف في هذا القسم على أنواع الزجل الأساسية التي احتفظ بها منبر الشحرور مع أمثلة عديدة، عنها: المعنّى الثنائي الأبيات، القرّادي، المعنّى القصير، والموشّح بالإضافة إلى الشروقي والعتابا أو الميجانا. وفيه نضطلع بالمنازلة الشعرية بين الشحرور ووالده، وبالمباريات الصاخبة التي كان يقيمها الوالد ويشارك فيها الشحرور ورفاقه، وموافقة المطران بولس شبلي بافتتاح "مرسح للقوالين من المعنّى والقرادي".

في كتاب "شحرور الوادي" نقلب صفحات حياة الشاعر عند استقالته من عمله، وتأسيسه للمنبر الزجلي الأول في لبنان، أي لجوقته الأولى سنة 1925 مع الشعراء أمين أيوب، إلياس القهوجي، يوسف عبد الله رزق الله، فنتعرف على ثقافة الشحرور الواسعة وحفلات جوقته، كل ذلك مدعمًا بمصادر ومقابلات أجراها أبو مراد أبرزها مع ابن الشحرور الدكتور نبيل الفغالي. كما نتعرف على جوقة الشحرور الثانية التي أسسها بين عامي 1927 و1928 مع الشعراء علي الحاج وأنيس روحانا وطانيوس عبده وإميل رزق الله. وكيفية وضع الشحرور أُسس توزيع القول بين الشعراء على المنبر، ناهيك عن تقسيم أفراد الجوقة إلى فريقين "خصمين" في جولات من التحدي. وبما أنّ قرى لبنان زاخرة بالشعراء، كان لا بدّ من كوكبة جديدة من الجوقات الزجلية بدأت تتسابق في الظهور. ويقول أبو مراد (ص: 61): "في حمأة هذا التنافس، بدأ الشعر الزجلي يفتش عن أمير له"، فبايع الشاعر رشيد نخلة إمارة الشعر الزجلي إلى أسعد الخوري الفغالي في عام 1933. عندها عمل أمير الشعر على تنقية الزجل من ترسبات الماضي، منوعًا بألوان القصائد، معتمدًا على البراعة في حبك المنظومات العامية والتلاعب بقوافيها وإعمال الفطنة والسليقة في توليد معانيها.

القسم الثاني من الكتاب هو بمثابة دراسة لشعر الشحرور منفردًا بعيدًا عن فنون التباري. فيتعرف القارئ على ميزة الشحرور كشاعر ومنتج بسخاء موظفًا إمكانياته الشعرية ليس من أجل المنبر فحسب، بل عبر العمل الذاتي وإطلاق العنان لمخيلته الشعرية مع عمق الإحساس والتميّز في التعبير. وقد سلط أبو مراد الضوء في هذا الجزء على قصائد ديوان الشحرور، منها الذي نظمها في مصر سواء الموجهة للملك فاروق الأول أو للملك فؤاد، فضلًا عن مجموعة من الأشعار التي أنشدها في حضرة السيدة أم كلثوم، ليخلص أبو مراد إلى التصوير البديع في قصائد الشحرور الذي رفع الزجل إلى مراتب الأمل مع عمق معانيه.

في القسم الثالث، طرح الكاتب بالتفصيل المواضيع الكبرى في شعر الشحرور خارج المنبر، أبرزها حبّ الوطن خصوصًا وأنّ الشحرور "شهد بأمّ عينيه مخاض نشوء لبنان الكبير في بداية العشرينيات من القرن الماضي، وتابع مراقبة العمل لنيل الاستقلال، لكن القدر لم يمهله لرؤية هذا الاستقلال" (ص: 108) فتوفي الشحرور عام 1937 عن إثنين وأربعين سنة. وفي الوطنية نقتبس من قصائده:

"لا فرق في حب الوطن عندي/ ما بين حنا ومصطفى وفندي
وما بين سِيد وعبد أو جندي/ والمبادي الطيبة بتكون
بمحبة الإنسان للإنسان
والمبادي الطيبة بتكون/ بقتل التعصّب بالحياة تهون
البغض كله جنون فوق جنون/ مهما لقيت الناس صاروا كتار
آدم أبونا وكلنا إخوان"

ومن شعر المناسبات في لبنان ومصر وسورية إلى الشعر الذي يلامس هموم الناس ومشاكلهم وأوضاعهم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية معتمدًا على الضبط في الوزن والإيقاع، وقد استفاض أبو مراد بأمثلة عديدة في كتابه القيّم، مثبّتًا كيف حمل الشحرور "دوره الخاص كمسؤولية في الترويج لحسن الأخلاق، وأن تكون حفلاته إلى جانب ما تقدمه من سرور وحبور كشعلة تجعل عتم الليل نور" (ص: 126)، وهو بذلك شكّل بالفعل رائدًا من رواد النهضة العربية.

خصص الدكتور نبيل أبو مراد القسم الرابع من كتابه إلى المهارات المنبرية التي كانت تتمتع بها جوقات الشحرور وشروط الشعر المحكومة بشروط المنبر، مسلطًا الضوء على المطلع أو الاستهلال، أي الأبيات الشعرية الأولى التي تبدأ بها القصيدة عادة. ثم تأتي صفات الفخر والمبالغة في التوصيف، ثم قوة الحجّة والحنكة في التملّص، وبالتالي أهمية سرعة البديهة والتماع الخاطر لشاعر المنبر، مقارنًا ما قبل الشحرور وما بعده. ومستشهدًا بقصائد شعراء كبار أمثال موسى زغيب، إدوار حرب، جورج أبو أنطون وغيرهم.

يسأل القسم الأخير من الكتاب عمّا حققته تجربة "شحرور الوادي" التي مرّت بتقلبات وتحوّلات مهمة، ويؤكد الكاتب أنّ هذه التجربة حملت منجزات كثيرة شكلت السبب في البقاء والصمود، بل وفي التطور، وفي وضع ثوابت نهائية في النظم وفي قانون الجوقات لا تزال قائمة حتى اليوم. وبالتوازي ساهمت الصحافة الزجلية في دور مثمر في نشر الزجل، وقد عرف لبنان جوقات زجلية عديدة بعد الشحرور وبرزت أسماء شعراء كان لهم الأثر المهم فيها أمثال خليل روكز، موسى زغيب، جوزف الهاشم، زين شعيب، خليل شحرور، جورج أبو أنطون وغيرهم... وتحولت إمارة الزجل إلى "نقابة شعراء الزجل اللبناني" في عام 1994.

إن "شحرور الوادي- أسعد الخوري الفغالي- مؤسّس المنبر ورائد النهضة الزجلية في لبنان" كتاب يستحق أن يُدرّس.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.