}

"الكوميديا الإلهية" لدانتي: رحلة الرُوح الإنسانية

آمال مختار 11 يوليه 2025
استعادات "الكوميديا الإلهية" لدانتي: رحلة الرُوح الإنسانية
دانتي أليغييري مدّ جسرًا بين الأرض والسماء (Getty)
تُعتبر من أعظم الأعمال الملحميّة في الأدب الإيطالي والعالمي، ومن أبرز وأهمّ النصوص التي أرست أسس اللغة الإيطالية الحديثة: "الكوميديا الإلهية" الملحمة الشعرية والرحلة الوجودية والفلسفية التي كتبها الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي.
في ذلك الزمنِ حيث كان الظلام يلفّ أوروبا من كل جانب: ظلام الفكر، والسلطة، والدين والانقسام الروحي، نهض رجل من فلورنسا في إيطاليا، اسمه دانتي أليغييري، ليمدّ جسرًا بين الأرض والسماء، بين العقل والإيمان، بين الإنسان والله. وكتب ملحمته الخالدة التي خلق فيها كونًا وجوديًا وفلسفيًا والمتمثل في رائعته "الكوميديا الإلهية".
كان ذلك بين عامي 1308 و1320، حين خطّ دانتي هذا الكتاب العظيم بلغة الشعب، بالعامية الإيطالية، لا بلغة اللاهوتيين (اللاتينية)، لأنه أراد أن يخاطب القلوب قبل أن يُرضي الكهنوت.
تبدأ الحكاية عندما يجد دانتي نفسه تائهًا في غابة مظلمة تمثل ضياعه الروحي والأخلاقي. يحاول الصعود إلى جبل النور، لكن ثلاثة وحوش (نمر، أسد، وذئب) تعترض طريقه.
عندما تظهر هذه الوحوش فإنها ترمز للشرّ بينما يرمز كل واحد منها إلى عقبة في سير الرحلة، رحلة التطهير والخلاص إلى النورانية حيث يشعر دانتي بالعجز والضياع.
في هذه اللحظة بالذات، يظهر له فيرجيل، الشاعر الروماني العظيم، الذي أرسله الله (عن طريق بياتريتشي، حب دانتي الروحي) ليقوده في رحلة عبر العالم السفلي.
يبدآن معًا النزول عبر الدوائر التسع للجحيم، حيث يرى دانتي أنواع الخطايا المختلفة، وكيف يُعاقب أصحابها بطريقة تتناسب مع خطاياهم، وفق مبدأ ما يُعرف باسم "العقاب المناسب للخطيئة". وعلى امتداد مائة نشيد، تنقّل فيها دانتي من هوّة الجحيم إلى قمة الفردوس، كتب رحلة الإنسان، وخريطةً للروح، تُرشد التائهين في غابة الحياة، كما كان هو تائهًا في مطلع نشيده الأول.
تنقسم هذه الرحلة العظمى إلى ثلاثة عوالم، كل واحد منها مرآة لوجه من وجوه الوجود الإنساني. في الجحيم، يرى دانتي الإنسان حين يخون جوهره، حين يضعف أمام الشهوة، أو يُفرط في حب المال، أو يُسخّر عقله للمكر والخداع بدلًا من الحكمة. إن الجحيم ليس حفرة نارية كما يتخيله البسطاء، بل هو تدرّج منطقي للعقاب، حيث تتجلّى العدالة الكونية: كل خطيئة، مهما كانت، تؤدي إلى مصيرها العادل، لا بالانتقام، بل بالتماثل.
ثم يرتقي إلى جبل المطهر، حيث لا العذاب فقط هو الذي يُطهّر، بل الأمل. الأرواح هناك تتألّم، نعم، لكنها تتجه صعودًا، نحو النور، نحو الحقيقة. المطهر هو مقام التوبة، حيث لا يُعاقب الإنسان لأنه أخطأ، بل يُهذَّب لأنه أراد أن يصير أفضل. وفي هذه الطبقات، يغوص دانتي في أعماق النفس البشرية، في صراعها بين الرغبة والتوبة، بين الأرض والسماء.
أما الفردوس، فليس عالمًا من الملائكة والغناء كما تصوّره الخرافات، بل هو اتساع الوعي، وانفتاح القلب على الحب المطلق. هناك تقوده بياتريتشي، حبيبته المثالية، كأنثى، ورمز للحكمة الإلهية المحبّة. وهناك، في سماءٍ تتجاوز الزمان والمكان، تذوب الذات في النور، ويصير دانتي عارفًا، لا شاعرًا فقط.
ما يميّز "الكوميديا الإلهية" ليس فقط براعتها الشعرية أو بناءها الثلاثي المحكم، بل رؤيتها الوجودية الجذرية. إنها عمل شعري فلسفي، يجمع بين علم المنطق، والمحبة الإلهية، والسياسة، والغضب الأخلاقي. دانتي لا يكتب من أجل الجمال فقط، بل من أجل الحقيقة. يُدين فساد رجال الدين، ويضع بعض أعدائه في الجحيم، لكنه لا يفعل ذلك بدافع الكراهية، بل باسم العدل.
يبدأ دانتي رحلته من حيث يبدأ الضياع: في غابة معتمة، حيث الطرق تلتبس، والوعي يتشظى، والإنسان يواجه نفسه في الظلال. من هذه اللحظة الأولى، تتجسّد الخطيئة كفعل وكتيهٍ وجودي. في قلب هذا الظلام، يظهر فيرجيل، رمز العقل، ليرافق دانتي نحو أولى العوالم: الجحيم. لكنه ليس جحيمًا عشوائيًا أو عبثيًا، بل بناء محكم، تسع دوائر تتعمّق كلما اشتدّ وزن الخطيئة، وكأنّ الهاوية تُحفر في القلب بقدر ما يستسلم الإنسان لرغباته من دون وعي أو توبة.
في الدوائر الأولى، يلتقي دانتي بأرواح لم تكن شريرة، لكنها حرمت النعمة؛ فالفلاسفة والشعراء الوثنيون يقيمون في اللمبوس، لا لأنهم آثمون، بل لأنهم لم يعرفوا المسيح. ومع التوغّل، تتجسّد الخطايا الكبرى: الشهوة، الشراهة، الجشع، الغضب… ثم تأتي الخيانات، في قاع الجحيم، حيث لا نار، بل جليد قاتل، لأن الخيانة، كما يرى دانتي، تُطفئ دفء الحبّ والعقل معًا.
ما يجعل الجحيم عند دانتي مرعبًا ليس فقط قسوته، بل عدالته. إنه لا يُعذّب لمجرد التعذيب، بل يُجسّد مبدأ "الكونتراباسو" – العقاب بالمماثلة – حيث يتحوّل الفعل الخاطئ إلى صورة دائمة، تتطابق مع جوهر الخطيئة. فالعشّاق الذين خضعوا للشهوة تتقاذفهم الرياح بلا قرار، كما كانت أهواؤهم تقتلعهم في الحياة. والمرابون يتصادمون بلا معنى، كما فعل جشعهم. والمنتحرون، وقد كرهوا أجسادهم، تُسجن أرواحهم في أشجار تنزف إن قُطعت، لأنهم تخلّوا عن حياتهم بإرادتهم.




في كل دائرة، تكشف "الكوميديا الإلهية" عن نظرة أخلاقية صارمة، لا مكان فيها للتبرير، لكنها في الوقت نفسه ليست نظرة حاقدة. دانتي يبكي على بعض المعذّبين، يُصغي لاعترافاتهم، ويتورط إنسانيًا في آلامهم، لأنه يدرك أن الخطيئة ليست دائمًا شرًا مطلقًا، بل نتيجة ضعف، جهل، أو حُبّ مضلّل.
في قاع الجحيم، يكتشف دانتي أقسى حقيقة: أن الشيطان، سيد الجحيم، لا يتكلم، لا يصرخ، بل صامت وجامد، محبوس في الجليد، يلتهم بخياناته من خانوا الله والإنسان. وهنا تبلغ الرحلة ذروتها: الجحيم ليس احتراقًا، بل جمود الروح، انطفاء الإرادة، واستسلام الكائن للفراغ الأخلاقي الكامل.
هكذا لا يُقدّم دانتي الجحيم كأداة ترهيب، بل كتحذير فلسفي- أخلاقي عميق: كل خطيئة تقود إلى موت روحي، وكل سقوط من دون ندم يُحفر في الوجود كقدر. إن الجحيم في "الكوميديا الإلهية" ليس نهاية، بل نقطة البداية لفهم الإنسان، وخطورة اختياره، وضرورة نهوضه من العتمة إلى النور.
بعد أن عبر دانتي هوّة الجحيم، وبعد أن رأى الإنسان في أقصى انحطاطه، تبدأ رحلته الثانية: الصعود. وهنا، يتحوّل اتجاه الحركة من الهبوط إلى الارتقاء، من العبء إلى الخفة، من اليأس إلى الرجاء. نحن الآن في جبل المطهر، ذلك البرزخ العظيم، حيث لا يُعاقب المرء لأنه خُلق ناقصًا، بل يُطهّر لأنه أراد الكمال. إنه المكان الذي تلتقي فيه العدالة بالرحمة، وتتجلّى فيه صورة الله الذي ينتظر نضج الإنسان كما ينتظر الربيع نضج الزهرة.
جبل المطهر ليس أفقيًا كالجحيم، بل عمودي، يُشبه الروح حين تتدرج في التخلّي، وتتسلّق نحو صفاء النور. على سفحه، يلتقي دانتي بأرواحٍ تائبة، لا تبكي عذابها بل تشدو بأملها، تعرف أنها خاطئة، لكنها تعرف أيضًا أنها محبوبة. وهنا الفارق: في الجحيم، تبتلع الخطايا الإنسان؛ أما في المطهر، فإن الإنسان يواجهها كي يتحرّر منها. الألم هنا ليس دينونة، بل شفاء.
يقسّم دانتي جبل المطهر إلى سبع مصاطب، كل منها تمثل واحدة من الخطايا السبع القاتلة: الكبرياء، الحسد، الغضب، الكسل، الطمع، الشراهة، والشهوة. لكن المفارقة أن العقاب في كل مصطبة ليس إذلالًا، بل تربية. فالمتكبرون يحملون أحمالًا ثقيلة، ليس لإهانتهم، بل ليحسّوا بثقل غرورهم وليسجدوا للاتضاع. الحسودون تحجب أعينهم بخيوط من نار، ليتعلّموا أن يروا النعمة في الآخرين دون ألم. وفي كل مستوى، تمر الأرواح بتحوّل عميق: يتطهّر العقل من أوهامه، والقلب من أهوائه، والجسد من سلطته القديمة.
والمطهر هو مكان لتطهير النفوس ممّا علق بها أثناء رحلة الحياة، وهو أيضًا مرآة لنا نحن الأحياء لنتعظ. هو دعوة لفهم أن الحياة نفسها هي جبل مطهر، وأن كل لحظة نمرّ بها هي فرصة للتزكية، للتخلي عن عبء الأنانية، والتحرر من العادات التي تمنعنا من الارتقاء. دانتي في هذا القسم يعلّمنا أن التوبة ليست لحظة ضعف، بل قمة القوة: أن تعترف، أن تتغير، أن تعلو.
في ذروة المطهر، يصل دانتي إلى حديقة عدن، حيث النقاء الأول، حيث لا خطيئة، وحيث تظهر بياتريتشي، كذكرى عاطفية، وكائن نوراني، مُرسلة من عند الله. هناك، ينتهي دور الشاعر فيرجيل كمرشد، باعتباره رمز العقل. فالعقل يوصل إلى الباب، لكن لا يمكن من العبور. وحده الحب النّقي، كما تمثّله بياتريتشي، قادر على المضيّ في الطريق نحو الله.
إن المطهر في "الكوميديا الإلهية" ليس مجرد مرحلة انتقالية بين الجحيم والفردوس، بل هو قلب العمل كلّه، القلب الذي ينبض بالتغيير، الذي يرفض السقوط كقدر، ويؤمن بالصعود كحقيقة. فيه تتحوّل الخطايا إلى دروس، والعذاب إلى تنقية، والإنسان – لا يُدان، بل يُعاد خلقه.
في نهاية الرحلة، وقد تخلّى دانتي عن أثقال الجسد، وعن ظلال الأرض، لم يعد ينظر إلى الأعلى من بعيد، بل صار يطير نحوه. يدخل الآن الفردوس، لا كغريب، بل كمشتاق عاد إلى موطنه الأول. لم تعد الأرض تطارده، ولم يعد الخوف يرسم حدوده. فالروح، وقد تطهّرت، تصبح خفيفة، شفافة، قابلة لأن تتّسع للنور الإلهي بدون أن تحترق.
الفردوس عند دانتي ليس "مكانًا" بقدر ما هو حالة وعي مطلقة. إنه درجات من النور، سبع سماوات ثم تسع، تصعد فيها النفس كما تصعد فكرة في ذهن نبيّ، حتى تلامس دائرة لا تحيط بها عيون، حيث يسكن الله: النور المحض، الحب المطلق، العقل الكامل. في هذه السماوات، يرى دانتي أرواح الأبرار، الحكماء، الشهداء، العشّاق الحقيقيين، أولئك الذين اجتمع فيهم العقل والإيمان، والعدل والمحبة. يرى توما الأكويني، فرنسيس الأسيزي، ويكتشف أن القداسة ليست في الزهد فقط، بل في الامتلاء بالله.
الآن، لم يعد دانتي بحاجة إلى رموز. بياتريتشي، التي قادته بحنان الحكمة، تتركه لكي يواجه الحقيقة عارية: دائرة من نور تتّقد حبًا، تدور بلا بداية ولا نهاية، وهناك يرى الله كما لم يره من قبل. لا كشخص، بل كمعنى. وفي لحظة خارج الزمان، يرى أن الكون كله متماسكٌ في الله كما تتماسك أوراق كتاب عظيم، وأن كل شيء – الجحيم والمطهر والفردوس – كان ضروريًا ليكتشف الإنسان ذاته.
في لحظةٍ أخيرة، يحاول دانتي أن يصف الله، لكنه يعجز. فتسقط اللغة، وتسكت القصيدة، لأنه حين يحضر المطلق، يغيب الوصف. لكنه لا ينهي رحلته بالحيرة، بل بالطمأنينة:
"تحرّكت رغبتي، وإرادتي، كما تتحرّك عجلة واحدة، تدفعها المحبة التي تحرّك الشمس والنجوم".
وهكذا، يخرج دانتي من الظلمة التي دخل منها، لا كمهزوم، بل كمن عرف الطريق. إن "الكوميديا الإلهية" حكاية مختلفة لشاعر ليس كغيره من الشعراء ومرآة لكلّ نفس تسأل: "من أنا؟"، و"ماذا بعد؟"، و"كيف يمكن للإنسان أن ينجو من ضياعه؟".
إنها رحلة الإنسان الكامل: حين يتألم، يتطهّر، ثم يُنير. رحلة تتكرّر فينا جميعًا، حين نسقط، ونتوب، وننهض، حتى نصل إلى الله – لا بأجسادنا، بل بأرواح صارت نورًا.
"الكوميديا الإلهية" إلى جانب أنّها رحلة شعرية، فإنها أيضًا منظومة فكرية، يدمج فيها دانتي بين العاطفة والرمز، بين الدين والفلسفة، بين النار التي تحرق الجسد، والجليد الذي يقتل الروح. كل دائرة ليست مكانًا، بل كشفًا: عن الإنسان، عن اختياره، وعن مصيره.
هكذا وُلدت "الكوميديا الإلهية" عملًا أدبيًا خالدًا، صلاة شعريّة عبّر من خلالها دانتي عن فعل مقاومة الإنسان، انتصارًا على المنفى وضياع المعنى، وانتصارًا على الموت. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.