لطالما شعر اليهود، عبر تاريخهم الطويل، القديم والحديث، بالاضطهاد والخطر، شعورٌ عبّرت عنه النصوص الدينية القديمة، وعكسته كتابات الأدباء والمؤرخين اليهود طوال الوقت. وبغض النظر عمّا إذا كان هذا الشعور حقيقيًا أم مفتعلًا، وعن أسباب التعرّض للاضطهاد إن حدث، فإن هذا الشعور، غير الحقيقي والمبالغ فيه في أغلب الأحيان، كان العامل الأول، بل ربما الأوحد، في ظهور ما عُرف في اليهودية بعقيدة الخلاص وقدوم المسيح المخلّص.
وتُعدّ فكرة الخلاص واحدة من العقائد المركزية في الديانة اليهودية، علاوة على أهميتها لدى المسيحيين الإنجيليين، مع وجود اختلافات جوهرية بين الحالتين؛ أهمّها أنّ خلاص اليهود وحدهم هو غاية الغايات ونهاية الأحداث في الفكر اليهودي، بينما يُعدّ خلاصهم مقدّمة للمجيء الثاني للمسيح لدى الإنجيليين. ما يدفعنا إلى الربط بين الخلاص اليهودي والإنجيلي هو الطريقة التي يتعامل بها المتدينون الأميركيون مع الرئيس دونالد ترامب، وكذلك اليهود الإسرائيليون، خصوصًا في اليمين الإسرائيلي، وكيف يُنظَر إليه في الحالتين بوصفه مسيحًا مخلّصًا.
في عام 2018، أثناء ولاية ترامب الأولى، عرضت بعض دور السينما الأميركية الفيلم الدرامي "نبوءة ترامب: صوت الأمل". كان الفيلم محدود التكلفة (2 مليون دولار)، وكان أقرب إلى الدعاية الدينية المسيحية عن الخلاص منه إلى كونه عملًا سينمائيًا ذا قيمة، وكانت رسالته واضحة لجمهور المتدينين الأميركيين، خصوصًا، ومفادها أن الرب هو المسؤول عن فوز ترامب في الانتخابات الأميركية عام 2016، وأنّ صلوات المتدينين وقادة الإنجيليين من السياسيين والوعّاظ والرهبان، هي السبب في استجابة الرب وإنجاح ترامب. وكانت الرموز الدينية في الفيلم صارخة، من خلال توظيف مقولات وعّاظ إنجيليين مشهورين، أمثال ريتشارد لاند، وفرانك جراهام، وروبرت جيفريس، بل ومن خلال توظيف رموز دينية يهودية، مثل النفخ في الشوفار/ البوق، إشارةً إلى علاقة أقوى بين الولايات المتحدة وإسرائيل لو أصبح ترامب رئيسًا.
تتوافق مثل هذه الرسائل مع معتقدات قطاع كبير من مؤيدي الرئيس الأميركي، الذين لا يرونه مجرد زعيم سياسي، بل شخصية شبه دينية، أو ربما نبيًا صنعه الله، تتجسد فيه وعود الخلاص من مؤامرات النخب العالمية والتدهور الأخلاقي. وقد أظهر استطلاع رأي أجراه أستاذ العلوم السياسية بجامعة دينيسون الأميركية، بول ديوب، أن ثلث من يؤمنون بالنبوة في العصر الحديث من الأميركيين يعتقدون أن ترامب ممسوح من الرب ليكون رئيسًا. هكذا إذًا، أصبح عدد كبير من مؤيدي ترامب يعتبرونه رجل العناية الإلهية، الذي استخدمه الرب لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس، ومنها دعم إسرائيل. وهي رؤية لاقت صدى لدى الرئيس الأميركي نفسه منذ ترشّحه في ولايته الأولى، وظهرت ملامحها في شخصيته وتعبيراته، بل سعى إلى ترسيخها؛ حتى إنه نشر في عام 2019 تصريحات الإعلامي الأميركي واين ألين روت، يقول فيها: "الرئيس ترامب هو أعظم رئيس لليهود وإسرائيل في تاريخ العالم، وليس أميركا فقط... والشعب اليهودي في إسرائيل يحبّه وكأنه ملك إسرائيل، إنهم يحبّونه وكأنه القدوم الثاني للمسيح".
بل أكثر من ذلك، أن الرئيس الأميركي، وقبل الذكرى الثالثة لاقتحام الكونغرس الأميركي (6 يناير/ كانون الثاني 2021)، نشر على صفحته في موقعه للتواصل الاجتماعي Truth Social مقطع فيديو قصيرًا عنوانه: "الرب صنع ترامب"، ما يعني أن الرجل لديه هوس بالترويج لنفسه على هذا الأساس.
أما في إسرائيل، فلم يستطع الإسرائيليون إخفاء إعجابهم بالرئيس ترامب. وهو إعجاب لا يعود لقناعة حقيقية، بل لمجاملة الرجل والوصول إلى نقطة ضعفه وشغفه بالإطراء، من أجل مزيد من الابتزاز، حتى إن كثيرين منهم وصفوه بالملك العظيم، ووضعوا صورته جنبًا إلى جنب مع شخصيات توراتية، وتم تشبيهه بالملك أحشويرش الفارسي الذي قتل أعداء اليهود كما في سفر إستير. وربطت صورته أكثر بالملك كوروش الذي ساعد اليهود القدماء على التخلص من السبي في بابل و"العودة" إلى فلسطين، بل إن إسرائيل ضربت عملة تذكارية حملت صورة ترامب إلى جانب الملك الفارسي القديم، في أعقاب قراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس، في ديسمبر/ كانون الأول 2017.
وخلال الشهور الماضية، ومع تصريحات ترامب عن "فتح أبواب الجحيم على حماس"، وحديثه عن تهجير الفلسطينيين من غزة، ورفع العقوبات عن المستوطنين في الضفة، ثم مع تهديده إيران وضرب المفاعلات النووية، تصاعدت موجة الإشادة بالمخلّص من جديد؛ فهو مبعوث الرب من أجل الشعب اليهودي، كما عبّر رئيس حزب شاس وعضو الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، أرييه درعي. كما أن حساب القيمة العددية للاسم "دونالد ترامب" هو نفسه لـ"المسيح بن داود"، بحسب وزير الاتصالات عن حزب الليكود، شلومو كرعي. أما تصريحاته أثناء استقباله بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، فهي "معجزة من الرب"، حسب وزير الثقافة عن حزب الليكود، ميكي زوهر... وهكذا، تتابعت مواقف كثيرة هدفها تملق الرئيس الأميركي من قبل اليمين الإسرائيلي والحاخامات والمتدينين، من دون أي رفض أو تحفّظ على وصفه بالمخلّص من سياسيي اليسار والوسط هناك.
وبغض النظر عمّا إذا كان ترامب مخلّصًا لليهود أم لا، فإنّ النظرة إليه على هذا النحو ليست أمرًا جديدًا؛ فهي نظرة تكررت قديمًا عبر تاريخ اليهود، القديم والحديث. ويمكن القول إن عقيدة الخلاص في اليهودية ليست منتجًا لاهوتيًا أو تاريخيًا فحسب، بل أداة نفسية دفاعية قوية، ساعدت اليهود على الصمود أمام أهوال التاريخ، من خلال تحويل المعاناة إلى أمل، والعجز إلى انتظار مقدس، والانكسار إلى نبوءة. فقد سبق أن مدح العهد القديم الملك كوروش الفارسي باعتباره "مسيحًا مخلّصًا" لليهود: "القائل عن كوروش راعيّ فكل مسرتي يتمم، ويقول عن أورشليم ستُبنى، وللهيكل ستؤسّس، هكذا يقول الرب لمسيحه كوروش" (إشعيا 44: 28 – 45: 1). وحتى سفر إستير، الذي يُنظر إليه بوصفه عملًا من نسج الخيال، اهتم بالثناء على الملك أحشويروش. هذا النهج اتُّبع لاحقًا مع الإسكندر الأكبر، فصوّرته كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس وهو ينحني أمام كبير كهنة اليهود في أورشليم، أمام أعين قادته وكهنة اليهود، وليعرب أن انحناءه لم يكن للكاهن بل للرب الذي شرّف الكاهن بهذا المنصب، ثم يصوّر النص الإسكندر مقدّمًا القربان ليهوه بإرشاد الكاهن اليهودي.
ولا شك في أن مدح هؤلاء القادة القدامى، واعتبار كلّ منهم "مسيحًا مخلّصًا"، ارتبط بما قدّموه لليهود لنيل هذا الوصف. وهو نهج استمر في العصر الحديث إلى يومنا هذا؛ إذ يُحكى أن نابليون بونابرت دعا يهود آسيا للانضمام إليه أثناء حصاره عكا، من أجل استعادة "إسرائيل القديمة".
ومع مجيء الصهيونية السياسية، حدث تحوّل في فكرة الخلاص، وأصبح مؤيدوها يميلون إلى النظر إلى الصهيونية بوصفها وسيلة الخلاص الحقيقي، وتراجعت - بدرجة ملحوظة - فكرة المسيح المخلّص الفرد. غير أن الأزمات التي واجهتها المجموعات اليهودية قبل قيام الدولة، إضافة إلى الحروب التي خيضت بعد قيامها، أعادت الروح، ولو بشكل ظاهري، إلى فكرة المسيح الفرد. وهكذا، أصبحنا أمام سلسلة من "المخلّصين": جيمس بلفور، وونستون تشرشل، وأوسكار شندلر، وهاري ترومان، وجيمي كارتر، وجو بايدن... وقائمة طويلة لا تنتهي، لن يكون الرئيس ترامب آخرها. وهي تكشف عن حاجة غير محدودة إلى مخلّص، واحتياج دائم للحماية والمساعدة، نتيجة إحساس كاذب بالاضطهاد، لم يأتِ مصادفة، بل عبر تاريخ ونصوص تستثير غضب الأمم عبر تأكيد أفضلية غير مبررة على شعوب العالم، وادّعاء تميّز لليهود يعطيهم الحق في ارتكاب الجرائم بحق الشعوب، مثلما يحدث منذ بدأ الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
غير أنّ نكران جميل بعض "مخلّصي" اليهود، لدى الإسرائيليين، وخصوصًا في اليمين الصهيوني، هو أيضًا سمة متكرّرة. حدث ذلك مع جو بايدن حينما مال اليمين الإسرائيلي نحو ترامب، وفضّلوه على بايدن في انتخابات الرئاسة، قبل أن يتراجع الأخير لصالح نائبته كامالا هاريس، رغم ما قدّمه من دعم غير محدود لإسرائيل في حربها في قطاع غزة، وجنوب لبنان، بل وفي التصدي للهجمات الصاروخية الإيرانية، وضربات الحوثيين. بل إن دونالد ترامب نفسه عانى من هذا النكران سابقًا بعد خسارته انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2020، رغم نقله السفارة الأميركية إلى القدس، ورغم قيادته جهود تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، والتي تُوّجت باتفاقيات أبراهام.
وعلى الرغم من أن ما فعله "المخلّصون" السابقون، وما يفعله ترامب حاليًا، يبدو في المنظور القريب لصالح إسرائيل، فإنّ موجة الوعي الشعبي الآخذة في التشكّل في العالمين العربي والإسلامي، والتي ترى إسرائيل كيانًا إجراميًا، وحالة الغضب المتصاعدة نتيجة الانحياز الأميركي والدعم العسكري الكامل لدولة الاحتلال، ونهاية مسار أوسلو وحل الدولتين، علاوة على مخططات أميركية إسرائيلية، بمشاركة أطراف عربية كما يبدو، للتخلّص من المقاومة، كل ذلك يدفع إلى تعميق قناعة الشعوب بأن المقاومة وحدها هي الحل. ما يعني أن تخلّص واشنطن من خطابها القديم، الذي كان يتظاهر في جانب منه بالرغبة في حلّ عادل للقضية الفلسطينية، وتحولها إلى خطاب مُعلَن يتبنى مصلحة إسرائيل وأمنها فقط، لا يترك خيارًا للشعوب سوى المقاومة، والتخلّص من كل آثام مسار أوسلو، ما يرجّح أن يتحوّل خطاب ترامب الحالي إلى عبء على إسرائيل نفسها في المستقبل غير البعيد، وربما تصبح أحلام الخلاص على يديه كوابيس تقضي على مكاسب المشروع الصهيوني في المنطقة.
ثمّة قصة يهودية قديمة لا تخلو من طرافة، ولا تبتعد عن هذا المعنى؛ إذ يحكي التراث عن رجل يهودي عاش في واحدة من مدن الشتات، كان الرجل سعيدًا في منفاه، لكنه عاد إلى بيته يومًا وعلامات الكآبة تعلو وجهه. سألته زوجته: لماذا أنت حزين هكذا؟ فأجابها: سمعتهم يقولون إن زمن المسيح المخلّص اقترب، وإنه سيأخذنا جميعًا إلى "أرض إسرائيل". فماذا سيحدث لبيتنا الذي بنيناه بجهد كبير، والحقول التي اشتريناها بعرق جبيننا؟ فأجابته زوجته: لا تخف، فالرب الذي خلّص شعب إسرائيل من فرعون وهامان وكل الأعداء، سوف يخلّصنا من يد المسيح!