يصفُ بطلها وهو من رواد مقهى "هيسبانو إكسبرس" حال المثقفين، إذ يسيطر المعلم وصديقته الشقراء على مجريات الأمور فلا يسمع أحدٌ الآخر، ويتعارك الفنّانون حتى يرمي أحدهم الآخر أرضًا و"تعلو أصوات الزبائن: واحد بيرة، طبق سردين، واحد زلابية" بينما بالكاد يُسمع صوت الكلمة. والجدير ذكره أن الرواية كُتبت في مرحلة متوتّرة من تاريخ المكسيك، تقوضت فيها القيم واستشرت الديكتاتورية في النفوس والأرواح وضاعت المسلّمات والبديهيّات فتوجب على الفن إعادة بنائها من جديد.
لن تتطرق هذه القراءة لما تحدث عنه باسكال بونيفاس في كتابه "المثقفون المزيفون"، حين وصف استحواذ فئة على الفضاء الإعلامي ليفضح فيه كيف يُصنع بعض "المثقفين" في الإعلام لا على أساس المعرفة والأحقيّة، "بل على أساس الولاء الأيديولوجي والترويج السياسي". ولا تناقش المثقف بالمعنى الذي تحدث عنه غرامشي، ولن تتطرق إلى تصور إدوارد سعيد الذي كتب متفائلًا أن من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة أو التعميمات "الاختزاليّة" (*).
بل تستمد هذه القراءة من راهن ضبابي وقابل للنقاش، وتتعلق بالسلوكيات التي يمارسها المثقفون في فترات الحروب والنكبات وحين تسود النزاعات، إذ ينكفئ أحدهم إلى طائفته أو عصبيّته وأيديولوجيته. ولأنّ الإنسانية وعقب كل زلزال تراجع قناعاتها فإن الثقة بالمثقف السوري في المرحلة الراهنة تتبدّد ليصبح أمام اختبار إنساني حرج، فإما أن يراجع نفسه وقناعاته أو يحتمي بالجموع التي ينتمي لها فكرًا أو عقيدةً فيتحدث بنبرة الكلّ وهي نبرة اللا أحد.
فقد تحولت الثقافة إلى سلوك ميليشيويّ، يتجنب فيه كثيرون قول الحقيقة التي أدرك مارتن لوثر كينغ عواقب التصريح بها "إن قولها سيحررك لكنه سيجعلك بائسًا"، وهذا ما حاول أوسكار وايلد أن يتجنّبه متّعظًا بسيرة شهيدها الأبرز: سقراط. إذ أن نقمة أثينا على سقراط، أتت من وضوحه وتجواله في شوارعها ليوقع محدثه في مغالطات تارةً ويضع يده على تناقضاته تارة أخرى. إلى أن أعدمته الديمقراطية الأثينيّة جزاءً لما ارتكبت يداه، إذ أربك أثينا بأسئلته الصادمة وبسط تناقضات أهلها أمام أعينهم وعرّى تحيّزاتهم اللاواعيّة فكان تفكيكيًا مرة وفرويديًا تارة أخرى، يولد الأفكار كما تولد أمه القابلة الأرواح. لاحقًا سينصح أوسكار وايلد قارئه "إذا أردت أن تقول الحقيقة للناس فاجعلهم يضحكون وإلاّ فسوف يقتلونك".
ربما لو سمع سقراط النصيحة قبل زمن بعيد، كان سُينقذ من مصيره المحتوم ومصير كل من يتبنى نقلها للناس مدفوعًا بقوة الخير ومتوهّمًا أن البشر يحبون سماعها ولنا في تجربة الأنبياء مثال لا يُنسى.
مدفوعًا بقوة الجموع تحول المثقف من صناعة أقبية المخابرات وإملاءاتها إلى صناعة تكنولوجية بامتياز إذ اعتقد أن الأدب سوق لا موقف والكلمة بضاعة لا مبدأ وراح يخضع وعبر القوى الناعمة من قرّاء ومتابعين ووسائل تكنولوجية لشروط جديدة فرضها واقع مزيّف. ليتحول الإبداع إلى سلسلة تحالفات. ويمكن للمتأمل عما أفضت إليه الثورات في العالم العربي أن يرى ذلك بوضوح.
وفي روايته "الروائي المريب" يصف الكاتب السوري فوّاز حداد "خيانات المثقفين ومؤامراتهم وصناعتهم في كواليس وزارة الثقافة ودهاليز المخابرات"؛ ويشير إلى أنّه "ربّما لا يحتاج صاحب الموهبة في بلاد تُعادي الحقيقة إلى رقابة رسمية، فهناك رقابة أشدّ ضراوة: رقابة الأقران، رعب الوسط الثقافيّ من كلّ صوت لا ينتمي إلى طيفه، وتراه يرسم ملامح مشهد تُنتهَك فيه الموهبة لا عبر منعها بل عبر الإحاطة بها بـ تواطؤ جماعيّ خفيّ، لا يمكن مسّه قانونيًا، لكنه يُنفَّذ بإتقان: تجاهل، وتشويه، واختزال، وتهميش، وتضليل، وتصفيّة رمزية" (**).
إذ أن الانتماء الضيق الذي يتعلق بالولاءات العرقية والطائفية والإثنية يمكن أن يسمّم المياه التي يتغذى عليها الأدب. فلم يعد المثقف أو المفكر يضحي من أجل أن يكون رأيه حرًّا. ويسعى لتحطيم القوالب بل بدا أقرب للمؤثر أو اليوتيوبر. في وقت خضع فيه الضمير والرؤية للبرمجة. ما جعل المثقف السوريّ في أزماته المتلاحقة يتنازل عن حسّه النقدي أمام خوفه الغريزي من مخالفة التيار ليتحول إلى صوت الجوقة أو مجرد صدى لما يريده الجموع.
وما هو مهم هنا، أن هذا التأثير المحدود والآني والمرتبط بالسوشيال ميديا، يجعل سلالته القبليّة أو المذهبية تتحلق حوله لتُعلي من شأن قناعاته لأنها قناعاتها وتستعد للقتل الرمزي لمن يختلف مع هذا التوجه ما يعيدنا إلى مفهوم شاعر القبيلة أو كاتبها الذي يحتفى به منها.
ووسط هذا المخاض الذي يشهده السوريون يحتاج المثقف ولا شك إلى مراجعة واقعه وذاته لإنتاج نفسه من جديد، وهذا يتطلب شروطًا كالملكة النقدية والشجاعة الرصينة في مواجهة الذات قبل الواقع والجرأة على المسلمات وعدم الانحياز للصوت الأعلى.
هذا وغيره يضع الأدب أمام سؤال الحقيقة إذ يتطلب قولها أن يكون المرء حرًا وشجاعًا ما يحتم علينا أن نعيد من جديد تعريف الشجاعة فهل هي محاربة طواحين الهواء؟ أم محاربة صوت القبيلة في داخلنا والخنوع للشيخ والإثنيات والولاءات، وأن نعيد للأدب اعتباره الجمالي والإنساني وسط هذا التشويش؟ كتب كونديرا مرة: "لا شيء أفظع من سقوط الفن خارج تاريخه، لأنه بسقوطه في هذه الفوضى لا يعود إدراك القيم الجمالية".
يسقط الفن خارج تاريخه الحقيقي حين تخضع الذائقة الجمالية لتحيزات الطائفة والأيديولوجيا، ويتحول القراء إلى مجموعات تقوم في بنيتها العميقة على نوبات مؤازرة للكاتب الذي ينتمي للعرق أو الطائفة وتحييد كل من يجرؤ على قول ما لا يتفق ورؤية هذه الجموع.
لتتحول العلاقة بين الكاتب وجمهوره إلى نوع من التقابل والتماهي مع الحشود مع التأكيد أنه لا يدفعها خطوة للأمام بل يستمد صورته من تحالفاتها ويصبح رهين تطلعاتها ويبدو أنها هي من تحشره في أضيق زاوية من الوجود، فتحرف بوصلة الأدب عن قضايا جوهرية تتعلق بالإنسان إلى مسائل جانبية لا معنى لها وقضايا هامشية تفقد الأدب والأديب فرادته وتجعله شيئًا ضمن قبيلة أو مؤسسة أو جماعة تمنحه الدعم اللازم وتسحبه عنه إن خالفها.
يدرك الكثير من الكتاب ذلك، لذا يمتنعون عن مخالفة هذه الحلقة العمومية، وفي الأزمات الكبيرة يغامر بعضهم باتخاذ موقف حرّ وصفه باركلي في محاججة شهيرة "أن تكون يعني أن تكون مُدركًا".
والإدراك هنا يتعلق بالبصيرة التي ترى وعنها ينبثق السؤال: حول إمكانية نشوء أدب حقيقي يقول فيه المثقف كلمته متحررًا من أي أيديولوجية وانتماء مذهبي أو مصلحي بدون أن يدفع الثمن وهذه المرة لن يأتي العقاب من السلطة بل من الجموع التي رفعته وبإمكانها مقاطعته.
حذر نيتشه المثقف من مغبة المثالية قائلًا "لا تقع ضحيّة المثالية المفرطة وتعتقد بأن قول الحقيقة سوف يقرّبك من الناس، الناس تحبّ وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام". لكن ما معنى الأدب إن لم يكن الكاتب ندًا لهذه الحقيقة، إن لم يسر بالضدّ من التيار؟
في هذا المسار بالذات إما أن يصمت ويهادن حتى لا يُغتال رمزيًّا، أو أن يقوم بدوره ويقف في الجهة الصحيحة من الوجود، والصحيح في هذه الحال ليس ما نراه بل ما نعترف به رغم مخالفته لأهوائنا وهو ما نقوله بشجاعة متحررين من كل رابطة قبلية أو مذهبية أو أيديولوجية. فالوجود لا يُصاغ على مقاس الأفكار والحق لا يعرف المواربة. هذا يحتاج كاتبًا بمرتبة ثائر أو ثائرًا بمرتبة كاتب فالكتابة بالقلم لا تنفع في أحيان كثيرة بل يحتاج الكاتب للإمساك بالمشرط. كتب أورويل مرة "في وقت الخداع العالمي يصبح قول الحقيقة عملًا ثوريًا"...
الهوامش:
(*) إدوارد سعيد، المثقف والسلطة.
(**) فوّاز حداد، الروائي المريب، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2025.
* كاتبة سورية.


تحميل المقال التالي...