}

سوف تغرق التيتانيك: عندما تستبق الأعمال الأدبية الأحداث

عبد الله كرمون 24 أكتوبر 2016
الأعمال الأدبية والفنية تمتلك قدرات حدس سابق يعلن وقوعاً دانياً لكارثة ما، وتوظف، على نحو رمزي، تحذيرات حاسمة تؤذن بوقوع خطب جلل.

  

لا يخلو أي عمل جديد لبيير بايار من بُؤر كثيرة للدهشة، لأنه يختار دائماً مناطق شاذة فيسلط عليها مبضعه النقدي، كما يتعمّد بإصرار إدهاشَ القارئ وإقلاقَه في آن. على أن بايار يظل قلقاً ومأخوذاً بشيء داخلي، قبل أن يعمد إلى إنجاز كتاب، وتبقى عِلّته المستديمة هي ما يمرره إلى قارئه وكأنه عدوى شنيعة لداءٍ لا برء منه. كان ذلك شأنه في كتابات سالفة، وها هو يعيد، الكَرَّة، اليوم، في كتاب نشرته "دار مِينْوِي" هذه الأيام، يحمل عنواناً غريباً هو: "سوف تغرق سفينة التيتانيك"!

من يجهل اسم بيير بايار، لن يخطر أبداً على باله، وهو ينظر إلى عنوان الكتاب، بأنه مبحث نقدي، بل سوف يظنه رواية غرائبية، أو بحرية. يلزم التذكير أولاً بأنَّ بايار محلل نفساني وأستاذ للأدب المقارن بالجامعة الفرنسية، لذلك وضع يوماً كتاباً تحت عنوان: "تطبيق الأدب على التحليل النفسي"، عكس ما كان معمولاً به عادة من إجراء إسقاطات للتحليل النفسي على الأدب وظواهره.

إن مشروعَ بيير بايار مؤَسَّسٌ على مراجعة النظريات التقليدية المختلفة التي تتحكم في الأدب وفي الفنون الأخرى، بأن ابتكر طريقة جديدة سماها "النقد المتدخل في الأعمال الأدبية"، سواء تعلق الأمر بطرق كتابتها، بعلاقتها مع بيئتها، أو بمسائل مرتبطة بقوانينها الداخلية. وقد بيّن بايار مختلف تطبيقاتها في كتبه السالفة، في انتظار احتمالات قادمة. وكان في كتابه السابق قد تسلَّل إلى روايةٍ لألكساندر دوما، واحتل فيها مكان البطل، في خضم إشكالات متعلقة بالسؤال عن كيف عليه أن يتصرف؟ ما بين وقوعه في حب امرأة موالية للمَلَكِية ومسانِدة لماري أنطوانيت، وما بين مبادئه الجمهورية.

يواصل في كتابه الحالي تحرياته، ودائماً في إطار مفهومه للنقد، متناولاً موضوعةً طَرقها في السابق هي: الاستباق، أو الاستشراف، ويُعد هذا الكتاب الجزء الأخير من ثلاثيته حول الموضوع. فإن كان بايار قد اختبر في كتابه الثاني منها الاستباق في ما يخص الأدب، بكونه سرقة أدبية يضطلع بها كاتبٌ في حق أعمال لم تُكتب بعد، فإنه يعمد هنا إلى زاوية نظر مخالفة في شأنه ألا وهي استشراف الأدب للكوارث المختلفة التي قد تحيق بالبشرية ـ عاجلاً أو آجلاً.


استشراف الكوارث

تتضح الآن مسوغات عنوان الكتاب، فهو مرهون بالحديث عن استشراف الأدب للكوارث وفي مقدمتها اصطدام باخرة التيتانيك المشهورة بجرف صقيعي طافٍ وغرقها المحتم.

لم يعد الأمر معنياً هنا بعلاقة النصوص ببعضها، في تأثُّرها وتأثيرها، وفي تماهيها أو في مسألة حدس الكاتب بما يعتمل في قريحة صاحبه من أفكار فيسبقه بالتالي إلى كتابتها؛ وإنما بمسعى جديد يتمثل في علاقة النصوص بالواقع أو بالحقيقة؛ فيعمد الواقعُ، حسب هذا المنطق، إلى نهل مواد مجرياته ووقائعه من الكتابات الأدبية والفنية مباشرة، فتُقلب بذلك المعادلة القديمة التي ترى في الأدب والفن انعكاساً أميناً للواقع، أو استعادة "بروستية" لمجريات الماضي.

لأن الأعمال الأدبية والفنية تمتلك قدرات حدس سابق يعلن وقوعاً دانياً لكارثة ما، وتوظف بشكل رمزي تحذيرات حاسمة تؤذن بوشوك وقوع خطب جلل.

 يركز بايار على ثيمة محدَّدة وخاصة، في مقاربته للاستباق، أو الاستشراف، الذي يضطلع به الإبداع، ألا وهي الكارثة هنا مهما كان لونها: "لأن قدرات الاستشراف، أو الاستباق، لا تطاول الأفراح والمسرات، وإنما هي مجبولة على التقاط النسيس المكتوم للمصائب والخطوب".

أولى الكوارث التي استثارها، وربما هي التي أوحت له بموضوعه هذه المرة، حادثة غرق سفينة التيتانيك التي عرف الناس مأساتها عبر الفيلم الذي خلّدها. ثم "إن دمها موزع بين القبائل"، إذ لم يخصّص لسردها فصلاً قائماً بذاته، وإنما جعل يفتتح بها كل جزء من الكتاب وينهيه بها كنوع من اللازمة التي لابد منها. وذلك بالموازاة مع الحديث عن كاتب وصحافي بريطاني بارز هو وليام توماس ستيد، قد ارتبط مصيره هو، أيضاً، بغرق التيتانيك.

ذلك أن كاتباً أميركياً يُدعى مورغان روبيرتسون قد كتب سنة 1898، رواية تحت عنوان "غرق التيتان"، يحكي فيها غرق باخرة في عرض البحر، جراء اصطدامها بجرف صقيعي هائل، إذ لم تُجدِ تحذيرات محذري قبطانها من الخطر، ولم يقم بأي شيء من أجل تجنبه؛ ثم إن قوارب النجاة على ظهر السفينة لم تكن كافية لاستيعاب الركاب جميعهم بغية إنقاذهم. كتب ستيد نفسه، سنوات من قبل، قصة حول غرق سفينة في عرض المحيط الأطلسي، وأنهاها بما يلي: "ذلك ما يحدث فعلاً لباخرة تمخر عباب البحر وليس على ظهرها ما يلزم من قوارب النجاة، وذلك ما حدث فعلاً"!
فبعد انصرام أربع عشرة سنة على صدور هذا العمل الأدبي، تحققت هذه الحادثة الخيالية على أرض الواقع بالفعل، بتحطّم باخرة تحمل اسماً مشابهاً: "تيتانيك"، وغرقها في عرض البحر، وهلاك معظم ركابها، الذين كان من بينهم الصحافي البارز وليام توماس ستيد.
فالحيثيات والأوصاف المتعلقة بالباخرتين، وبأسباب وظروف حادثتي غرقهما مشابهة تماماً، وأحياناً في أدقّ التفاصيل، لأنَّ الأمر لا يتعلق في شأن الأولى بعمل خيالي صرف، ولا في الثانية باتفاق أو مصادفة عادية.

إذا كان مورغان روبيرتسون متخصصاً في أدب الملاحة، وعارفاً بتقنيات صناعة السفن وما يحيط بها كله، فإن الصحافي وليام توماس ستيد كان يمارس نوعاً من الاتصال الخارق بالأرواح، ومتضلعاً بالعلوم الباطنية المتعلقة باستشراف المستقبل؛ وقد تكهن له الكثيرون بموت محقق في عرض البحر لدن غرق باخرة وتحطمها، منهم العرَّاف الشهير كيرلور "الذي وصف له باخرة سوداء وتنبأ له بالموت غرقا". فهل أتى إذن يركب على متن "التيتانيك" كي يتأكد من صحة النبوءة التي تخصه، مانحاً حياته ثمناً للعلم؟

ولعل الأقرب من هذا، ما أورده بايار حول مسرحية كتبها أكبر شاعر في هايتي هو فْرُانْكِيتْيِينْ، يحكي فيها عن كارثة طبيعية ألمت بالبلد، اتسمت بهزات أرضية عنيفة، أدت إلى خراب يفوق تصوره الإدراك. كانت المسرحية تُمثل في المسارح، عندما ضرب الزلزال هايتي سنة 2010، وانتشل الشاعر حياً من تحت الأنقاض، سالماً، من شرّ نبوءته.

إذا كانت الأمثلة التي ذكرها بيير بايار في كتابه للتدليل على هذا التأثير المعكوس للأدب والفن على الواقع، على شكل استشراف، سواء تلك المتعلقة بالمجالات، السياسية، الاجتماعية، أم العلمية، متنوعة، وتوفر كلها خطاطة متينة للدلالة على مشروعية فرضياته، فإن استنتاجاته لا تخلو، أيضاً، من جدة.

 نبوءة أم حدس قبلي؟

يميز بايار ما بين النبوءة، أو التكهّن، وبين الحدس، أو التحذير القبلي. ويرى بأن المعطى الأول هو فعل ينتج عن عملية تفكير، ودراسة، يشوبهما التأني والمراس العاليان: أيّ أن "النبوءة واعية، وترتكز على تحليل دقيق للمعطيات الماضية والحالية، التي يتوفر عليها الكاتب، ويجعل احتمالاتها تمتد لمستقبل ممكن". بينما تتعلق الخاصية الثانية بإحساس باطني غير مبني على عكوف ولا مراس عملي، وإنما على عفوية محض: "إذ إن أمرها غريب، لأنها تستمد نقطة انطلاقها من المستقبل". لذلك لا يريد بايار أن يخرج الاستشراف، الذي يتحدث عنه، من دائرة الحدس بما قد يحدث في مستقبل قريب أو بعيد، من كوارث أو تغيرات وابتكارات، ويعتبره، على كل حال، متأصلاً في نفس كل مبدع. فـ"الكاتب يتخيل دائماً الأفظع"، حين طبق قانون ميرفي على الأدب: "ما من شأنه أن يصير سيئاً، لابد أن يصيره". فمهما تبدو مساعي بايار النظرية أحياناً ذات ثغرات، فهو يمتلك مع ذلك قدرة إقناع مذهلة.
ذلك أنه يرى أن عليه أن يستمر في البرهنة على صحة ادعاءاته النقدية حتى النهاية. فيقصي مسألة كون أغلب الذين ورد ما يمكن أن يُعتبر استشرافاً في أعمالهم قد صرفوا للتفكير في موضوعاتها جهداً ووقتاً كبيرين.
بينما دحض بايار اعتراضات المعترضين الذين انبروا وقالوا بأن الأمر لا يعدو أن يكون مصادفة واتفاقاً لا غير؛ وقال بأنَّ الطرق المدهشة التي تحدث بها بعض الكوارث، أو الوقائع، بنفس الطريقة التي تصفها أعمال إبداعية قبل سنوات من حدوثها، وفي أدق التفاصيل أحياناً، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تكون مجرد عمل يد الصدفة. كافكا، مثلاً، كانت لديه ملكة هائلة في التعرّف على الملامح السياسية لعوالم مستقبلية، "لكنه لم يكن واعياً بكل ما كان يبشر به في كتاباته".
يتعلق السياق هنا باستباقه لفكرة الأنظمة التوتاليتارية التي سوف تنشأ بعد موته، غير أنه، مثلما بيّن بايار، لم يشر إلى ذلك بشكل واضح، ولم يأت على ذكره في مذكراته، ولا في رسائله نهائياً.


كفاءات العقل المجهولة

تعددت النماذج التي دافع من خلالها بيير بايار عن رؤيته حول كون الكُتّاب يلتقطون علامات آتية من الآتي ويصيغون على هديها أعمالاً تصف ما لم يطرأ بعد. بل كثيراً ما يعتقد كاتب أنه يصف وقائع تنتمي إلى الحاضر، في حين أنه يصف في أدق التفاصيل أحداثاً قادمة: والمثال الذي ساقه بايار في هذا المضمار يتعلق بكتاب فرانز فيرفيل حول إبادة الأرمن من طرف الأتراك سنة 1915، بدعوى أنهم كانوا يساندون روسيا حينها. ما فُهم بعد قراءة تفاصيل تلك الإبادة، لاحقاً، هو ما تعرض له يهود أوروبا من طرف النازيين. لذلك، كتب بايار، بأن أدولف هتلر كان أول من فطن إلى ذلك منذ البداية، وأحرق الكتاب ضمن ما أحرقه من كتب، خشية أن يُفضح المشروع الرهيب الذي كان ينسجه في الخفاء.

يحتضن العقل الإنساني كفاءات مجهولة من طرف العلم حتى الآن، والتي بمقدورها أن تمكّنه من التعرف إلى أحداث مستقبلية قبل وقوعها، فلماذا لا يُؤخذ الكتاب والفنانون مأخذ الجد؟ بل لماذا لا يُدمجون في دواليب الدولة، ومراكز القرار العليا؟

 

 الكتاب في مراكز القرار

عندما يطالب بايار أهل القرار بأن يكفوا عن تجاهل الكتاب وإقصائهم، فهو يشمل بالعناية أيضاً الفنانين الآخرين. ففي الكتاب حديث عن السينما اليابانية وعن فيلم "الصينية" لغوديار، وعن رسام الموت والدمار لودفيج ميدنر السوداوي؛ أما وظائفهم في الاستباق والحديث عن الوقائع التي لم تحدث بعد فهي شيء مشترك بين كل صنوف الإبداع، فالكتاب يمسكون بعلامات منفلتة، وأهل الصورة يصطادون شظايا المستقبل عبر إشعاع مرئي يمسكون بتلابيبه.

لهذا دعا بايار إلى إعادة التفكير في تاريخ الأدب والفن، وإقامة تصنيفات جديدة، تأخذ في الاعتبار المستجدات المعلنة أعلاه، أي أن الأدب والفن لم يعودا رهن تصور كلاسيكي يقيدهما في مربط التعبير عن التجارب الحياتية الماضية والحاضرة، وإنما يضطلعان برسم معالم مولود لم يولد بعد: أي الأحداث القابعة في سر الآتي. وتهدف هذه العملية إلى رصف كل الأعمال التي تشترك في ثيمة معينة سواء كانت أعمالاً كلاسيكية أو استشرافية: من أجل تاريخ "غير مبني على مفهوم خطي للزمن، ولكن لرؤية تأخذ بالحسبان تلك الأعمال التي تحمل بصمات الماضي، وتلك التي تتلقى إشارات من الآتي".  

وبما أن هناك صعوبة واضحة في تحديد الأعمال التي تنطوي، بحق، على عناصر استباقية، فإن المهمة تظل معقدة أكثر فأكثر. فالمستقبل، كما جاء في الجزء الأول من ثلاثية بايار، مكتوب في ما نقرؤه. لذا يلزم النبش في الكتب والفنون لاستخلاص العناصر الكامنة فيها منتظرة المصادقة على كونها استباقاً لأحداث سوف تطرأ في زمن قريب أو بعيد، ولكنها سوف تقع متى تم التأكيد على مطابقتها للطبيعة الاستشرافية.

تلك إذن هي مهمة الكُتاب الذين أراد بايار أن يأخذوا مكانهم جنباً إلى جنب أهل الحكم في سبيل عالم يستطيع أن يفهم إشارات الأدب الغامضة، لتلافي كوارث مستقبلية، أو فقط لتحسين أسباب الوجود.

فلو نُظر إلى الأعمال الأدبية والفنية على ضوء ما اقترحه بايار، لما حدثت كوارث القرن العشرين المعلومة. يجب إذن "اعتبار الكتابة مثل آلة قياس رصد الزلازل، في قدرتها على تلقي المعلومات التي تكون في الغالب ممتنعة على العقل، والتي يسجلها الجسد واللاشعور، مثلها مثل الحيوانات التي تجفل وتفر هرباً من الكوارث التي تستشعرها عبر وسائل لا يدركها أحدٌ سواها"! 

وإلا سوف تغرق سفينة "التيتانيك" من جديد!

 *كاتب من المغرب يقيم في باريس

 (الصورة: رسمة لغرق سفينة تايتانيك)

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.