لنبدأ القول إنّ غريبويديف، بالتحديد، هو مَن دشّن في سنّ 34 سنة سلسلة الموت التراجيدي للشعراء الروس، الذين توقفت حياتهم في عمر تفتُّح قدراتهم الإبداعية. المثير في الأمر أنّ غريبويديف، وحده، مات والسلاح في يده، يؤدي واجبه (مع وجود العديد من الأدباء الروس الذين حاربوا ورحلوا عن الحياة باكراً (أمثال: ليرمنتيف، غوميلييف، أدويفسكي). علاوة على ذلك، أظهر غريبويديف بطولةً مشهودة في آخر معركةٍ خاضها، إذ قاتل بضراوة، وقتل العديد
عموماً، يمكن اعتبار غريبويديف شاعراً - محارباً، اشترك بشكلٍ، أو بآخر، في ما لا يقلّ عن خمسة حروب. وبشكلٍ خاصّ، أظهر الشاعر المحارب قدراتٍ قتالية متميزة أثناء الحرب الروسية - الفارسية ( 1826 -1828)، واستطاع بمجهودٍ فردي إقناع قائد حامية قلعة عباس - عباد بتسليم القلعة للجنود الروس. كما نال ميداليتين، الأولى لقاء جهوده في الاستيلاء على "يريفان"، عاصمة أرمينيا، والثانية لمشاركته في الحرب الفارسية.
غير أنّ الأهمّ في حياة غريبويدوف، كان من دون شكّ دوره الدبلوماسي الرائع، الذي جعله من ألمع الدبلوماسيين الروس في القرن التاسع عشر. تولى عمله الدبلوماسي في بلاد فارس عام 1819، وأتقن اللغة الفارسية، وعرف جيداً تقاليد وعادات سكان البلاد، ليحوز ثقة وريث العرش وقتئذٍ "عباس ميرزا"، مما مكَّنه في ما بعد من التأثير على اتخاذ قرار الحرب التركية – الإيرانية، الحدث الذي ساهم في 1823 في نجاح انتفاضة اليونان ضدّ العثمانيين، لتتغيّر بذلك الخارطة الجيوسياسية في ذلك الوقت. وفي عام 1819، قام غريبويدوف شخصياً، غير عابئٍ بالخطر، بإخراج 158 جندياً روسياً، والعودة بهم إلى الوطن.
بعد عودته إلى تبليسي (عاصمة جورجيا) عام 1821، أصبح غريبويدوف سكرتيراً للشؤون الخارجية لدى الجنرال آ.ن. يرمالوف، ليشارك في حرب القوقاز التي استمرت طويلاً (1817 - 1864). بيد أن أوج انتصارات غريبويدوف - الدبلوماسي، جاءت من خلال
لو تصورنا للحظة واحدة أنّ غريبويدوف لم يكتب أبداً ملهاته الكوميدية الخالدة "مصيبة العقل"، لكانت خدماته على الجبهة الفارسية كافية وحدها ليدخل التاريخ كدبلوماسيٍّ فذّ.
يجب أن نضيف على مسبق أنّ غريبويدوف اضطر إلى لعب دور الجاسوس، الأمر الذي تثبته تقاريره التي أرسلها من "عرين الخصوم"، عندما كان يعمل ضمن فريق عباس ميرزا، وكذلك من خلال اتصالاته مع محبي روسيا في الدوائر الفارسية. في تلك الحقبة، غالباً ما كان الدبلوماسيون يكلفون بأعمالٍ ذات طابعٍ تجسسيّ، مما اضطر غريبويديف على تعلّم الشفرات السريّة للتواصل مع سانت بطرسبرغ. بالإضافة إلى ذلك كان الدبلوماسي يرصد تحركات العملاء الإنكليز الذين كانوا بدورهم يراقبونه مذ كان يعمل في تفليسي.
هوامش:
(*) "مصيبة العقل": كوميديا شعرية ساخرة تدور أحداثها حول تحرر الجيل الجديد من التملّق للأثرياء وذوي النفوذ وابتعادهم عن الوصولية والخنوع. كما تتطرق إلى مسألة الحب التي تربط فتاة غنية بشابٍ من العامة.
(**) اتفاقية "توركمانجاي": وقعت في 22 شباط 1828، وتخلت فارس (إيران) فيها بموجب الاتفاقية عن عدة مناطق في جنوب القوقاز لصالح روسيا القيصرية.
(***) هربت فتاتان أرمينيتان من حريم الشاه لتطلبا الحماية من الروس، لمساعدتهنّ في الهرب والعودة إلى أرمينيا، الأمر الذي أثار حفيظة المتطرفين الفرس، فهاجموا القنصلية الروس وقتلوا 30 من الروس، من ضمنهم غريبويدوف، الذي مزِّق جسده، ومن ثمّ سحق تحت الأقدام، وقتل من المهاجمين 80 شخصاً. بأعجوبة نجا من المجزرة شخصٌ روسي واحد فقط. انتهت الأزمة التي نشبت جراء الحادث بين روسيا وإيران باعتذار الشاه من القيصر نيكولاي الذي قبل الاعتذار والهدايا! (المترجم).
عن الصحيفة الأدبية: ليتيراتورنايا غازيتا.
رابط المقالة: https://lgz.ru/article/-1-6720-15-01-2020/strasti-po-griboedovu/
ترجمة: سمير رمان.