}

يوم لدانتي أليغييري... في تاريخ هويات إيطاليا

أحمد محسن 11 مارس 2020
تغطيات يوم لدانتي أليغييري... في تاريخ هويات إيطاليا
لوحة تجسد لقاء بين دانتي وملهمته بياتريس پورتيناري (Getty)
ثمة مناسبة دائماً لاستعادة دانتي. لم يخرج صاحب «الكوميديا الإلهية» من التاريخ بمختلف مراحله، بل ظلّ حاضراً وألهم جيلاً كاملاً من الإيطاليين. لا يحتاج دانتي أليغييري إلى تعريف، رغم اختزاله في وعي أدبي عام بعمله الأشهر، أي «الكوميديا الإلهية». وببقائه حياً طوال هذه السنوات، متنقلاً من المسارح إلى المناهج المدرسية، ليس غريباً أن يكون رمزاً من رموز إيطاليا. لكن رمزيته هذه تحديداً، وفي مثل هذا التوقيت، تكتسب بُعداً إشكالياً خاصاً. لم يكن بحاجة ليوم خاص لكي يُعترف بتأثيره. إذاً، بتحديدها 25 آذار/مارس، يوماً لدانتي، بعد 700 عام على وفاته، لا تبحث الحكومة الإيطالية عن تكريم لدانتي، إنما تحاول تكريم نفسها باستعادته.

يعتقد كثير من المثقفين الإيطاليين، تحديداً من محبّي اليمين، أنهم مدينون لدانتي، كمصدر مؤسس في الهوية الأدبية الإيطالية. وليس سراً أن يكون دانتي اسماً له وقع كبير، لكن «التصاقه» بصفة الهوية الإيطالية، ازداد في الآونة الأخيرة، بالتزامن مع ازدياد البحث عن كل ما يمت إلى تعزيز الهوية القومية بصلة، في إيطاليا وفي أوروبا. يمكن لهؤلاء الترويج لسرديات لا تخرج عن الدور الذي تتخذه هذه السرديات عندما تتناول بطلاً قومياً. من هذه السرديات، أن دانتي تحدث عن إيطاليا الموحدة، كما نعرفها اليوم، قبل غاريبالدي نفسه. كما أنه يتقدم على فيتوريو إيمانويلي في الزمن أيضاً. ومن بين عدة آراء مرّحبة باستعادته، سيلاحظ المتابع أن مديحه المعاصر لا يدور دائماً حول إنتاجه الأدبي الهام، وعلاقة هذا الإنتاج بسياقات المعرفة والسُلطة والتاريخ في أزمنتها، بل يبدو مديحاً لتاريخ حقيقي، موظفاً لإشباع شعور قومي راهني، يتقدم في أوروبا وليس فقط في إيطاليا.
ليس صحيحاً بالضرورة، في حالة الأديب الإيطالي الكبير، أن ما تبحث عنه يبحث عنك. فالبحث عن أدب دانتي في «دانتيدي» (التسمية الرسمية ليوم 25 آذار/مارس)، ستحول دونه فواصل طويلة من النزعات غير الأدبية. بالنسبة لكثيرين، ليس الرجل أديباً ترك أثراً على بدايات عصر النهضة، بل هو الذي أسس أرضية «الأمة الإيطالية»، واللغة المشتركة بين الإيطاليين الذين كانوا منقسمين على أنفسهم. كان للبابوية والمسيحية أبناء كثر، لكن فقط دانتي هو الذي قال إن إيطاليا هي الابنة التي سترث التاريخ.

قد يكون هذا صحيحاً على خشبة مسرح، وقد يكون ملهماً في قصيدة. قد يصح ليتداوله الإيطاليون بين بعضهم، وقد يكون حميمياً وجميلاً، مثل خيوط الشمس وهي تنساب برهافة على جدران كاتدرائية سانتا ماريا ديل فيوري في فيرينزي. لكنه أيضاً، يأتي في سياق بحث عن متممات الهوية، لأمة قد تكون متخيّلة بالمعنى الذي يقصده بندكيت أندرسن تماماً. ما يجعل دانتي بريئاً، هو إقامته في مكان بعيد خارج حسابات الحداثة، حيث يقيم المُستَحضرون من التاريخ. ربما يكون على مشارف النهضة، أو ألحِق بالنهضة، لكنه لا يكترث كثيراً لتشكيلات الهوية المعاصرة، ولا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو لانهيار الاستابلشمنت في إيطاليا نفسها. ما يهمّنا من دانتي هو الأدب، وطبعاً الجوانب الثقافية في هذا الأدب خاصة التي تفرز مواقف سياسية. وفي مسألتين رئيسيتين، استنفدتا بحثاً كبيراً في إيطاليا وفي عالم المهتمين بدانتي، تسطع هذه الجوانب في يوم دانتي، وفي كل يوم يؤتى فيه على سيرته.

رسم لإليزابث سونرل يصور لقاءات دانتي الثلاثة مع بياتريس: في حفل عيد العمال، في شارع بفلورنسا، وفي الجنة الأرضية (ويكيبيديا)

















نظرته إلى الأمبراطورية
المسألة الأولى نظرته إلى الأمبراطورية، كونه كان يعتقد أن إيطاليا كاثوليكية لكن ليست بابوية. وقد يكون التأسيس لغاريبالدي، لكن إيطاليا قد تكون بدأت كسردية «أسطورية» مع دانتي، ثم تطورت مع ماكيافيللي وآلفييري وليوباردي ووصلت إلى ما وصلت إليه. وبمعزل عن صورة المحارب الروماني المستهلكة، تقوم سردية المثقف الإيطالي الرومانسي في يمينية مستجدة اليوم، على تصور يدور حول دانتي، مفاده أن إيطاليا ليست أمة جغرافية، حسب تصور دانتي نفسه، بل هي «أمة ثقافية»، قامت على الشِعر وليس على الحرب.

وهذا المديح لدانتي، ليس سوى مديح للذات الإيطالية، التي تعاني اليوم من ضغوطات الاقتصاد ونزعات انفصالية. لا يعني ذلك أن دانتي ليس مؤسساً، وأن الإرث الثقافي في الإيطالي ليس رهيباً، بل على العكس تماماً. فهذا الإرث يستعيد نفسه بنفسه، وينتج تصورات تتفاوت في قدرتها على الإبهار. استعادة دانتي بهذه الحماسة ليست سوى أحد هذه التصورات، التي لا يمكن إنكار قوتها.  لكن رغم كل شيء، وإن كانت إعادة اختراعه كنبي من أنبياء النهضة، تجعله أقرب إلى بطل قومي منه إلى رمز عالمي للأدب، فإنها أيضاً ترفعه إلى مقام لا يعترف بالسياقات التاريخية ويحصن البحث من النقد.

تمثال لـ دانتي أليغييري في مدينة فيرونا الإيطالية (Getty)
















علاقته بالإسلام
المسألة الثانية هي علاقته بالإسلام. لم يجب أحد بعد على السؤال العملاق عن «استشراق» دانتي.  وفيما يذهب كثير من الباحثين، بسذاجة، إلى اتهامه بالسرقة من الأدبيات الإسلامية، أنتج كتاب الباحث الإسباني المتخصص بالشؤون الإسلامية، آسين بلاثيوس، مروحة واسعة من التحليلات، حول علاقة دانتي بالإسلام. لوقت طويل، رفض الغربيون المتأثرون بالزخم الكولونيالي النقاش في الموضوع، بسبب المركزية الغربية إياها. كان بلاثيوس واحداً من بين مجموعة باحثين مهووسين بدانتي، لكنه وحسب إمبرتو إيكو لم يكن مهووساً، رغم تحفظ السيميائي الكبير على جزم الباحث الإسباني في بعض خلاصاته أحياناً. ما يميّز إيكو، هو مقاربته العقلانية عندما يقرأ «قارئي» علاقة دانتي بالإسلام. فلا يتعالى على التقليد الإسلامي، كما يعرف جيداً أن المصادر الغربية ليست نهائية.

فيما يأتي اختيار دانتي كرمز هوياتي كأحد مخترعي فكرة «إيطاليا»، سيكون مثيراً أن يكون هذا الرمز نفسه مطلعاً على الروايات الإسلامية. إيكو نفسه نصح بعدم استبعاد فرضيات تقول إن دانتي قد يكون سمع عن «الإسراء والمعراج» من برونتو لاتيني، أو تعرف إلى نصوص عربيّة عن الإسلام نُقلت إلى اللاتينية، لأنه كانت مشمولة في «مجموعة طليطلة» الصادرة بموافقة بطرس المبجّل. من المفيد أيضاً، الاستشهاد بعبارة إيكو بحرفيتها: «الاعتراف بوجود تأثير للإسلام على دانتي لا يُنقِص أبداً من عظمته، كما أن عدداً كبيراً من كبار المؤلّفين ارتكزوا إلى تقاليد أدبيّة سابقة، وأصدروا مؤلّفات تفردوا بها».

إيطاليا قد تكون بدأت كسردية «أسطورية» مع دانتي، ثم تطورت مع ماكيافيللي وآلفييري وليوباردي ووصلت إلى ما وصلت إليه (Getty)


















بطريقة ما، تحتاج إلى تفسير عميق، قد يكون المهووسون بدانتي على حق فيما يتعلق بأدواته. فإذا كانت صورته تتشكّل من مجموعة عناصر، وهي اللغة التي قدّمها، بالإضافة إلى القصة التي طرحها، من بين عدة عوامل نسجت مع بعضها منتجاً أدبياً فريداً، سيكون ذلك صحيحاً. يجب تفكيك دانتي إلى مجموعة آثار، على أن توضع في سياقاتها، ويوضع دانتي نفسه في سياق النهضة الإيطالية.

فلا يجب أن تنزع عبقريته من سياقها الطبيعي، كمتحمس للعامية الإيطالية، وأحد الرافضين لهيمنة البابوية على مظاهر المعرفة وآليات إنتاجها. لقد طغت النزعة «الألسنية» على كتبه، وكذلك طغى الصراع مع الكنيسة على حياته. وتقاطعت رؤيته للغة مع رؤيته للحياة. لهذه الأسباب، دانتي هو دانتي. فهمه يساعد كثيراً على فهم استعادته كمؤسس تاريخي للثقافة الإيطالية، في مثل هذه الأيام بالتحديد، حيث تحتاج الثقافة إلى دعائم، ويحتاج الحاضر إلى أبطال من التاريخ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.