}

الناس يفقدون أشياء كثيرة ويعودون بسرعة للحياة

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 19 مارس 2020
تغطيات الناس يفقدون أشياء كثيرة ويعودون بسرعة للحياة
ليلى سليماني
أجرت المجلة الفرنسية "لير" أخيراً حواراً مطولاً مع الروائية الفرنسية من أصول مغربية ليلى سليماني الفائزة بجائزة غونكور الفرنسية عن روايتها "أغنية هادئة" عام 2016. أجرت الحوار الصحافية كلير غزال، وتمحور في أغلبه عن الكتابة، والاستعمار، والنضال من أجل حقوق المرأة. اخترنا من الحوار الجزء الخاص بروايتها الجديدة "بلاد الآخرين".


(*) مع "بلاد الآخرين" تمنحيننا رواية شخصية، مستوحاة من حياة جدّتك، وتحكين قصّة أصولك. لماذا التطرق لهذه الأسطورة العائلية؟
ـ هناك عدّة دوافع. أولاً، أرغب في الخروج من منطقة الرفاهية. كتبت روايتين تدور أحداثهما في باريس، في مجتمع معاصر، في أمكنة مغلقة مع شخصيات محدودة في النهاية، عن زمن محدود. أردت بطريقة معيّنة تقديم حجّة عن طموح معيّن، حتى لا أسقط في البساطة. ثم، ثانياً، لأنني انتبهت إلى أن الصحافيين حين يسألونني عن هويتي، لا أعرف كيف أجيبهم لأنني بدون شكّ لم أتعمّق جيّداً في هذا السؤال. أردت إذاً أن أعود إلى الأصل لمحاولة فهم لماذا كنت دوماً أشعر، طيلة حياتي، بالعيش في بلد الآخرين. والأمر ليس صادراً عنّي، ولا عن والديّ. كان عليّ العودة إلى أجدادي.

(*) ماثيلد، شخصية روايتك، شابة من الإلزاس غادرت بلدها لتعيش في المغرب مع أمين، الجندي، وستعيش صداماً ثقافياً عشته أنت أيضاً. هل كان مهمّاً التطرق لهذه الموضوعة؟
ـ نعم، صحيح. يجب معرفة أن في المرحلة التي عاشت فيها جدّتي كان الصدام أشدّ قوّة مما نتخيّله اليوم. آنذاك، كانت فكرة أن رجلا عربياً، مسلماً، يمكن أن "يسرق" امرأة بيضاء، شيئاً مدمّراً جدّاً. الجنس المختلط كان يمكن أن يوجد في معنى آخر ويمكن قبوله بهذه الدرجة أو تلك، لكن بهذا المعنى، أبداً. الأمر الذي كان مرعباً، هو أن ماثيلد وأمين أصبحا هكذا خائنين لمجموعتيهما. وبطريقة ما، فأمر أن يشكّلا زوجاً جعل مستحيلاً بالنسبة لهما صنع شكل من الانتماء أو الوفاء التام لمعسكريهما وهويتيهما.

(*) أنت تحكين عن الصعوبات التي اعترضت ماثيلد، فرنسية استقرّت في "بلد الآخرين" سنة 1944، وخصوصاً عن الوحدة، التي أثرت عليها كثيراً. ما الذي دفعها للذهاب؟
ـ عاشت هذا المرأة الحرب العالمية الثانية وهي في سن الثالثة عشرة. أحلام مراهقتها، يقظة جنسيتها، لم تستطيعا التفتح خلال هذه المرحلة. وهي مدفوعة برغبة في خوض المغامرات، ذهبت بفكرة أنها لن تعيش نفس الحياة التي تعيشها جاراتها وصديقاتها. أرادت عيش شيء إضافي، أكبر وأكثر اتساعاً: السفر. لكنها حين وصلت، انتبهت إلى أن ذلك ليس ما كانت تحلم به. ذلك لأنها، بدون شك، لم تقم بقياس ما معنى أن تكون امرأة في "بلد الرجال".

(*) ما هي الصعوبات التي واجهتها؟
ـ اصطدمت بالممنوعات، الاستبداد، التمييز، فعاشت عزلة كبيرة، لكنها حاولت مع ذلك فرض وجهات نظرها، رغبتها في الانعتاق والتحرّر. ما هو مثير في هذه الشخصية، هو وقوفها إلى جانب المستعمِرين ومرتبطة جدّاً بالبلد الذي استقبلها. ففقدت في النهاية هذا النوع من الهوية البسيطة، كونها وُلِدت فرنسية، فتدرك صعوبة الوضع الذي وُجدت فيه.

 (*) ما جعل منها شخصية غنية جدّاً ومركّبة هو تحديداً حين وجدت نفسها مُتَنازعة بين ثقافتين دون أن تختار إحداهما، إضافة إلى أنها سجّلت ابنتها عائشة في مدرسة دينية دون أن يعترض زوجها أمين.
ـ نعم، هذا ما يكشف أيضاً عن المتناقضات التي تتكوّن منها شخصية أمين. يمكنه أن يكون أحياناً قاسيّاً جدّاً، لكنه يعي جيّداً بأن الطريقة الوحيدة، في نهاية 1940، لتربية فتاة في المغرب هي تربيتها وتسجيلها في المدرسة الفرنسية، بين أيدي الراهبات. لم تكن هناك مدارس أخرى في تلك المرحلة لتدريس الفتيات. لقد كان أمين وماثيلد، إذاً، في حالة تمزّق دائمة، لكنهما يمتلكان طموحاً كبيراً بالنسبة لأطفالهما. طموحٌ كبيرٌ جدّاً. فهما يحبّان العمل كثيراً، ويؤمنان بالتطوّر، ولهما علاقة بالاستعمار ليست عنصرية كما نتصوّرها اليوم.


(*) ما يميّز هذا الكتاب هو أنه، بفضل شخصياته، لا يمتلك وجهة نظر غير عنصرية حول الاستعمار. لماذا وضعت هذا العنوان في الجزء الأول: الحرب، الحرب، الحرب؟
ـ لقد اتجهنا نحو نسيان ذلك الجيل، الذي صدمته الحرب العالمية الثانية. لقد استطاع الناس بسرعة العيش مباشرة بعدها. لم يزوروا محللين نفسيين، لم يتحدّثوا عن متلازمة ما بعد الصدمة. لقد عاشوا أحداثاً مرعبة، فقدوا أشياء كثيرة، ورغم ذلك فقد عادوا بسرعة إلى الحياة، والعمل.

انطلاقاً من وجهة النظر هذه، فإن أمين شخصية صبورة جدّاً، وعنيفة بشكل عميق، أُهين من طرف المستعمرين، وسيذهب لينتقم من الآخرين. فرانز فانون فسّر ذلك بطريقة جيّدة: المستَعمَر سيتوجّه دوماً نحو ممارسة عنفه على المقربين منه. لذلك، وغالباً في فترة ما بعد الاستعمار، تحدث بين السكان الأصليين صراعات كثيرة. فما دُمت لا تستطيع أن تتصارع مع المستعمِر، فإن على العنف أن يُمارَس ضدّ أحد ما، في مكان ما. أمين، الذي عاد من فرنسا سيستأنف النشاط الفلاحي لعائلته في نواحي مدينة مكناس، ويعامل العمال بتعجرف.

(*) رغم هذا المزاج القاسي، فهو إنسانيّ ومحبوب جدّاً. هو مضطرّ لإعالة أسرته وتخصيب أراضيه. وهذا ما قمت بوصفه جيّداً. إنه تعب الحياة وصعوبته...
ـ إنها حياة فلاحين تتمحور حول العمل، حيث يوجد نوع من الاستعجال. بمعنى أننا إذا لم نكسب فإننا لن نعيش. في تلك المرحلة، حين يكون المرء ربّ عائلة، فإنك تُعيل عشرة، أو عشرين فرداً. المستعمرون وصفوها بحياة رعاة البقر. هناك نوع من دراسة تختص بعهد كامل، أدب قائم بالذات، حيث تمّ تقديس الحياة الاستعمارية. لكن في الواقع، نعيش تحت شمس حارقة، في برد قارص أو حرارة قصوى، بالقليل من الإمكانيات. أنا فعلاً متمسّكة بحكاية ملحمة هؤلاء المزارعين.



(*) العمل هو ديانتهما، بمعنى ما، فهما معاً يؤمنان به، إلى درجة أن ماثيلد ستريد بدورها مساعدة الآخرين وإنشاء مستوصف في بيتها كي تكون مفيدة.
ـ استقرّت ماثيلد في بلد- هذا أيضاً أمر ننساه- كان إلى حدود مجيء الفرنسيين قليل الاستثمار، حيث توجد مجاعات وأوبئة كثيرة. كانت الأغذية غير متوفرة ومحدودة، باستثناء بعض العائلات الغنية. اكتشفت ماثيلد بؤساً كثيراً وحياة قاسية بشكل فظيع. وهي امرأة لا تحب الظلم، وتريد دوماً محاولة المقامرة كلما استطاعت، فتفتح هذا المستوصف، كما أنها أصبحت تهتم بعالم الطبّ.

(*) هل أردت، من خلال قصة ماثيلد وأمين، التعبير عن نظرة تجاه المستعمِر؟
ـ لا، لقد حاولت التعبير عن رؤية سياسية عامّة، لأنني أعتقد، حتى عند العدوّ، هناك نوع من التعقيد. أنا أكره تلك النظرة المانيشية (الخير يواجه الشرّ) للتاريخ والحاضر في آن واحد. من السهل اليوم الحديث عن الاستعمار حين نعرف ماذا جرى. أردت أن أبيّن، إذاً، أننا حين نتعمّق في القضية، نستطيع أن نجد أصدقاء في المعسكر الآخر. نحن دائماً على صلة بأشخاص لا يشتركون معنا نفس وجهة النظر، وهذا ما يضفي جمالية على الوجود.

(*) هل توصلت بشهادات في حقّ روايتك؟
ـ نعم، لقد التقيت العديد من الأشخاص الذين عاشوا في تلك الفترة. طبعاً تكلمت مع أبويّ، وجدّتي حكت لي العديد من الحكايات.

أعتقد أنه لحظّ عظيم أن أعيش في كًنَف عائلة تتحدّث كثيراً عن تلك المرحلة، وتتناقل العديد من الحكايات. أعتقد أن ذلك هو ما يسمّى عائلة، نوع من الحكايات والقصص الجمعية. أعمامي وخالاتي يحكون عنها الشيء الكثير، فقمت بخلط كلّ ذلك. ثم إني أملك العديد من كتب التاريخ، والشهادات، كما أني سألت العديد من الأشخاص.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.