}

انبعاث إرادة فيودور أبراموف.. في مئوية مولده

ترجمات انبعاث إرادة فيودور أبراموف.. في مئوية مولده
فيودور أبراموف (فبراير 1920 - مايو 1983)

الطاقة التي تنبعث من الإنسان "طاقةٌ مدهشة، وهي الأكثر حيويةً وروعة على وجه الأرض، وهي القادرة على اجتراح المعجزات، معجزات بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة".
في فيودور أبراموف نفسه، يكمن تفسير الإرادة التي كتب عنها في مختلف كتبه. وبدرجةٍ ما، هذا انعكاس لضوءٍ محبّب منبثق من إنسانٍ. ورغم أنّه لم يكن بالأديب الذي يرسم الأيقونات البشرية، نجح أبراموف بطبع هذه النماذج المضيئة في الإنسان.
يقول أبراموف: قليلاً ما تسطع شمس الشمال، وربما لهذا السبب أصبح الناس أنفسهم شموساً. هنا يكمن سرّ ولغزٌ كبيران، إذ أنّ الولوج إلى هذه الحلقة المسحورة يتطلب موهبةً متميزة.

 

غريزة الإيمان
تفيد مقولة أبراموف الرئيسية أنّ الإيمان هو أساس بنيويّ تشكلّ خلال ألف سنة من عمر الحضارة الروسية، ومن المستحيل اقتلاعه لأنّه ببساطة سينمو من جديد. ومهما كان ما يأخذه المنجل والطرقة (في إشارة إلى العهد الشيوعي)، فإنّ الصليب الأرثوذكسي سيعاود الظهور من جديد.
شهد القرن العشرون نوعاً من العلمنة، علمنة الإيمان بإمكانية تعايش الأمم والدول. كان ذلك الإيمان إيماناً يتنقلّ بين الناس متجذراً في حياتهم. وشهد القرن العشرون ظاهرة القداسة الدنيوية الزاهدة. هنا يكون بطل أبراموف هو "الثائر العظيم (إيغاتيفيتش)، الذي "يتعمّد بـ"المجرفة التي يجفف بها المستنقعات على مدى أربعين عاماً. إنّه أسلوب الصَلاة والطقوس المجردة من الأنانية. هكذا تكون غريزة الإيمان الحقيقي، التي تعبِّر عن نفسها عبر العمل. يرسم أبراموف نموذج البرّ العالمي، المنقوش في تاريخ الرسائل الدينية التي تتجاوز الظروف الاجتماعية

والسياسية، وترتقي فوقها.
وضع الكاتب لنفسه مهمةً: العثور على "الوطن"، توصيف هذا الوطن، ورسم مخططاته، وتقديم لوحةٍ لاقتصاده الروحي - الأخلاقي، وتحديد طريقة إدارته. من خلال هذا، يصل الكاتب إلى فهم غريزة الإيمان، وإلى فهم الذاكرة الثقافية المحلية الجينية. وعلى الرغم من العباءة الأيديولوجية والحزبية، فإنّ هذه الغريزة والذاكرة لا تغيبان أبداً.
الاشتراكية الروسية نفسها هي نوعٌ خاصّ من طقوسٍ أساسها إنكار الذات. فترتيب الحياة الجديدة (بناء الاشتراكية) يتمّ بما يشبه إنشاء ديرٍ في صحراءٍ قفر: "كان لدينا حلم – بناء كل شيءٍ من جديد. كي نضيء منارة الثورة في الغابات الكثيفة، في مملكة الدبّ... "يجترح الزهد في الدنيا معجزة الخلاص والتحول، بما في ذلك الفضاء. القوة "إيغاتوفيتش" نفسها ماثلة أمام أنظارنا: فهو ناسك، غريبٌ عن العالم، يكشف للناس (من خلال معجزاته) التحولات التي تحدث بعد الموت. سيكون من الصعب تصديق حقيقة مثل هذا البطل لو لم يقم الرئيس السابق لمطار مدينة كومي، سيرغي سوتنيكوف، بأمرٍ مماثل حال دون تحطّم طائرة الركاب. يكتب أبراموف عن أمثال هؤلاء الناس، الذين يضمون الشمس في قلوبهم، ومن ثمّ يشعّون نورهم المتحوّل. وبفضل وجود أمثال هؤلاء الرجال الصالحين - "المنارات"، يتمّ إنقاذ العالم.

 

في مواجهة الانقسام
يقوم أبراموف بتدمير الصور النمطية للأدب السوفييتي، الذي صوّر على أنّه أدبٌ عميق الأيديولوجيا. وللقيام بهذا، ظهر الكاتب جريء الشخصية، صلب الثقة بنفسه، وبعدالة موقفه، ليكتب في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين عن القمع، وليطرح أسئلةً صعبة. من المثير للدهشة، أنّه تحدّث في خطابه المكرّس للذكرى الخمسين للسلطة السوفيتية عام 1964 عن القمع الجماعي الذي يمارس في البلاد، وعن إبادة المزارعين، وتدمير "فيلق الضباط"(**)، عشيّة الحرب العالمية الثانية، وعن ضرورة إعادة كتابة التاريخ. تحدّث أبراموف عن كلّ هذا بدلاً عن كيل المديح، وتمجيد اليوبيل الخمسين.
أجل، حدث ذلك قبل البيريسترويكا بكثير!......
كتب أبراموف:
"ليس لدينا الحقّ أن نلتزم الصمت، ولا أن نبسِّط المصاعب والمعوقات التي تعترض طريقنا التاريخيّ. وإذا لم نقم نحن بتفسير ذلك، فإنّ آخرين سيتولون المهمّة، ولكن على طريقتهم. وإن لم نبادر إلى قول الحقيقة كاملةً بصوتنا - فستعلنها أصواتٌ أُخرى، ولكن حسب

طريقتهم". تلك الكلمات قيلت عام 1981، وكانت "كلمةً في العصر النووي". هذا ما كان عليه الموقف الداخلي للكاتب، وهكذا انبعثت إرادته. على هذا النحو، تحقق جشعه مدى الحياة، وتجسّد التزامه بـ"الحقيقة المؤلمة". فالأمر إذاً لا يتعلّق بظروفٍ خارجية يتنصّل بها من المسؤولية، ولكنها تعود إلى القلعة الداخلية، وضمن أسوارها.
من خلال هذه القلعة، أصبح عمل فيودور أبراموف نفسه مبشراً بمعجزةٍ تواجه الانقسامات. ينجذب أبراموف نفسه إلى قدامى المؤمنين، الذين ينتمون إلى شعب ما قبل الانقسام في التاريخ الروسي. لذلك تراه تواقاً إلى "إحياء الماضي"، حيث يرى فيه الوحدة الضائعة التي تعارض تسلسل الانقسامات، وثورات بداية القرن العشرين، التي شكلت البيريسترويكا نهايته.
لم يشهدها أبراموف، إذ اندلعت بعد أن غادرنا، لكن كان لديه إحساسٌ بقربها، ورأى مظاهرها في روح أناسٍ كانوا ينضحون بالكراهية، ويتوقون إلى الانفجار. كان توق أبراموف إلى إحياء الماضي محاولةً لاستعادة الوحدة التي لا تخضع لانشقاقات روح البطل الذي "يغمره إحساسٌ لا لبس فيه بالجمال".
يمكن بدون ترددٍ أنْ نعمِّد أبطال أبراموف كـ"مؤمنين قدامى"، من حيث علاقتهم بالتحول الجذري العظيم في تاريخ الشعوب، وفي أرواح البشر الذي شهده القرن العشرون. هنا يكمن مبدأ الحياة القريب من المخلصين للعقيدة القديمة المتمثِّلة بالمثالية، وعدم المساومة، والاستعداد للتضحية، وحتى للحرق أحياءً. ملكته "سولوميا"(***)– عقيدة الإيمان القديم، وأبطاله في قصة «СОЭ» يتوغلون في الغابات الكثيفة، حيث يشيدون ما يشبه صومعة من صوامع قدامى المؤمنين، أو يحاولون تحقيق حلمهم بجنة الفلاحين. بالمناسبة، هذا الحلم تجسِّده الاشتراكية، التي قال أبراموف عنها: "الاشتراكية أمرٌ جيد". ولكن عندما يتسلّل إلى هذا الحلم أيٌّ من القيود الأيديولوجية، حتى ولو كانت كتلك التي تسبّبت بانقسامات القرن السابع عشر، فإن الحلم سيتلاشى. هكذا أحرقت مدينة "الشمس" التي شيّدها الفلاحون في قصة أبراموف «СОЭ».
خلال سنوات البيريسترويكا، كانت هنالك موجة تسونامي أُخرى من الأيديولوجية المدمِّرة: تفكيرٌ جديد، روح ثورية جديدة تمسك فتيل الإشعال. أغرت البيريسترويكا الناس، فعاشوا الحلم، ثمّ سحقت حلمهم هذا، فالأمر يبدأ على هذا النحو تماماً: "حشوٌ عقول الناس بكمٍّ هائلٍ من الكلمات الملغمة بالديناميت".
توفي فيودور أبراموف على أعتاب الانقسام الجديد، عندما تسلمت جوقة الإصلاحيين زمام السلطة في البلاد، الذين تخلصوا من لحاهم الوطنية، وتنكروا لتاريخ بلادهم، داعين إلى تقديس أصنامٍ جديدة. كيف كان يمكن أن يتصرف الكاتب أبراموف عندما تصدح النغمات وتختلط الكلمات؟ هل سيخضع للإغراء؟ من المستبعد أن يكون ذلك، لأنّ موقفه موقفٌ صلبٌ يرفض الانقسام. كان الكاتب يدرك أنّ الكلمات التي ملأت فضاء البيريسترويكا لا تحمل ضوءاً، وكانت مجرد وسيلةٍ لسلاحٍ أيديولوجيّ جديد سيدمر كلّ ما يعترض طريقه.

فيودور أبراموف (1920 - 1983)

جنازة الأرض الحيّة

شغلت قضية الشمال والجنوب فكر أبراموف. وهذا الشمال في رأيه ليس جانباً آخر من العالم، ومجرد مساحة، بل هو قاعدة الحضارة الروسية. يتعرّض الشمال للهجوم، ويقال عنه أنّه بلا أفق. يجري الآن تحويل الشمال إلى أسطورة. الشمال يخسر المعركة لصالح الجنوب، فالناس يلهثون خلف أكبر قدرٍ من الراحة، وهم تواقون للسماء المشمسة، للسعادة الشخصية والازدهار. الشمال هكذا لا يهب شيئاً، فهنا يتم تفحّص الإنسان وإظهاره. في الشمال تلتقي الأرض

والسماء. ولهذا فإنّ ما يطلب من الإنسان خاصّ ومتميز، إذ يتطلّب الحصول على نار داخلية تشعّ نوراً وجود قلعةٍ خاصّة، وبذل جهدٍ كبير.
لذلك يتصوّر أبراموف أنّ "الشمال هو العمل، والعمل، ثمّ العمل، وخلاف ذلك، يكون الأمر مستحيلاً في هذه الأرض القاسية.
الشمال هو طريق روسيا على أوروبا، وكذلك إلى الشرق، عبر المحيط المتجمد: "من هنا، من بوموريه (منطقة في شمال شرق روسيا) بدأت حركة الشعب الروسي العظيمة تلك في سيبيريا، صوب المشرق. تلك الحركة التي عرفت بشعار "لاقِ الشمس".
الشمال جعل من روسيا أكبر، وغيّر صورتها. وكذلك فعل الشمال بالإنسان. هنا في الشمال "قبيلة من سكان بوموريه، رجالها يتحلون بشجاعةٍ خاصّة، وبالصبر، وبالقدرة على التحمّل. أناسٌ مبدعون سريعو البداهة". ويضيف أبراموف: إنّهم "رجال دولة". يرى أبراموف أنّ على الشمال الآن البدء بتشكيل فيلقٍ عظيم جديد يتولى إنجاز عملٍ كبير ينهض بالبلاد من جديد. عندها ستصبح أراضي روسيا النائية "بطل الزمان"، وكذلك سيكون رجالها "أبطال زمانهم"، بصمودهم، وبإشعاعهم، يقفون في وجه من يريد إبقاء هذه الأراضي خربة خاوية.

 

هوامش:
(*) فيودور أبراموف (1920 - 1983): كاتب وناقد سوفييتي من تيار الإشتراكية الواقعية، من قصصه: الأخوة والأخوات (1958)، شتاءان وثلاث فصول صيف (1968)، ثلاثية: (المغازل) 1973، رواية "المنزل (1978)، والعديد من القصص القصيرة. بعد وفاته نشر ت روايته "الكتاب الأبيض".
(**) "فيلق الضباط": قبيل الحرب العالمية الثانية، جرى إضعاف عنصر الضباط في الجيش الروسي/ السوفييتي، ما تسبب في خسائر فادحة في صفوف الجيش الأحمر أثناء الحرب مع ألمانيا.
(***) "سولوميا": ملكة يهودية من العهد الجديد، كانت ملكة أرمينيا الصغرى، تسببت في مقتل يوحنا المعمدان.


عنوان المقالة الأصلي: انبعاث إرادة فيودور أبراموف (Волеизлучение Фёдора Абрамова)

عن جريدة: ليتيراتورنايا غازيتا الروسية.

https://lgz.ru/article/8-6726-26-02-2020/voleizluchenie-fyedora-abramova/

 

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.