}

أزمة جائزة "سيزار" الفرنسية...علامة على خلل أكبر في النظام

أريج جمال 4 مارس 2020
تغطيات أزمة جائزة "سيزار" الفرنسية...علامة على خلل أكبر في النظام
رومان بولانسكي
في الثلاثة أيام التي تفصل بين ما نشرته جريدة "لوموند" الفرنسية في عددها الصادر يوم 10 فبراير/شباط الماضي من مُطالبة حوالي 400 شخصية فنية فرنسية بضرورة إجراء تغيير جذري في نظام عمل أكاديمية "سيزار" بعد أن تراجعت ثقتها بنظام الجائزة، وبين إعلان الأكاديمية الفرنسية نفسها استقالتها الجماعية يوم 13 فبراير الماضي؛ كتب السيناريست الأميركي مايكل ماكفري في موقع RT مقالاً بالإنكليزية تحت عنوان "لم تعد هناك مقاومة! الأوسكار الفرنسية تخضع لـMe too والسياسات القائمة على الهوية، على خلفية حصول فيلم بولانسكي الجديد على عدد كبير جداَ من الترشيحات!".

يحاول المحرر في مقاله أن يُبيّن الفرق بين رومان بولانسكي الرجل، الذي اتُهم طوال تاريخه باعتداءات جنسية على نساء من الوسط السينمائي أثناء عمله معهن، وبين المخرج الغني عن التعريف صاحب التُحف السينمائية، والذي تسبب فيلمه الأخير "إني أتهم"  j'accuseفي إثارة عدة أزمات من بينها هذه الأخيرة الخاصة بـ"سيزار". يحاول ماكفري طوال مقاله أن يجعل من أزمة أكاديمية "سيزار" الفرنسية مجرد ردة فعل على اعتراضات حركات نسوية يُلمح ضمناً إلى عصبيتها مُستشهداً بالممثلة كاترين دينيف التي أصدرت بالاشتراك مع ممثلات أخريات بياناً في العام 2018 يهدف إلى تبرئة الرجال في القضية الشهيرة إعلامياً بـ"قضية وينستين" وإلى إدانة السلوك "المتشدد" لما يعتبره الصحافي موجات هستيريا حركة الـ Me too.
بعد نشر هذه المقالة التي تبكي على نوع مُتخيل من اللبن المسكوب، اتخذت الأكاديمية الفرنسية "سيزار" قرارها بالاستقالة الجماعية، وجاء هذا القرار قبل 15 يوماً فقط من الاحتفالية السنوية التي أُقيمت في 28 فبراير/شباط الماضي.
في نسخته العربية نشر موقعFrance 24  مقتطفات من بيان الاستقالة: "من أجل تكريم النساء والرجال الذين صنعوا السينما عام 2019، ولاستعادة الهدوء ولكي يظل الاحتفال بالسينما احتفالا يليق بها، قرر مجلس إدارة أكاديمية الفنون وتقنيات السينما- سيزار بالإجماع أن يستقيل".
فما الذي فات على المُحرر الأميركي، أو ما الذي تَعمّد تفويته.
لماذا جرى ما جرى؟
في الموقع الفرنسي Trois Couleurs تكتب ليا آندريا سارو تقريراً تشرح فيه أبعاد أزمة الأكاديمية بالعودة إلى ثلاثة أحداث رئيسية. الأول في يناير/كانون الثاني الماضي عندما تم استبعاد عدد من الشخصيات السينمائية الهامة من نظام التصويت داخل الأكاديمية. كانت جمعية مخرجي الأفلام الفرنسية SRF قد أصدرت بياناً تدين فيه استبعاد عدد من السينمائيين والممثلين "هذا العام أو في الأعوام السابقة"، وتساءل أعضاء الجمعية في البيان عن المعيار الذي يتم من خلاله الاختيار "هل هو الموهبة؟ أم المواقف التي يتخذها الأشخاص في الحياة العامة؟". آلان ترزيان، المنتج ورجل الأعمال الذي يترأس الأكاديمية منذ عام 2003، أصدر لاحقاً بياناً يُعبر فيه عن "أصدق اعتذاراته للأشخاص المَعنيين"، وقال أيضاً إن "الأكاديمية ستبقى مفتوحة لتمثيل الوسط السينمائي، بكل أطيافه، وكافة فنانيه وفي تنوعه التام. وإن الأكاديمية مستعدة للإصغاء إلى المقترحات التي من شأنها تحسين الأوضاع".


"إني أتهم" أو الهجوم الذي هو خير وسيلة للدفاع
تزامناً مع هذا الموقف الذي أظهر اهتزاز مصداقية الأكاديمية الفرنسية في أعين أهل المهنة، جاءت مسألة ترشيح فيلم رومان بولانسكي الأخير "إني أتهم" في اثنتي عشرة فئة من فئات جائزة "سيزار"، ومنها جائزة أحسن مخرج وأحسن فيلم، ليسكب مزيداً من البنزين فوق النار؛ وهو الحدث الثاني الذي يستشهد به الموقع الفرنسي لشرح أزمة الأكاديمية. في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بدأت قطاعات من الجمعيات النسوية تعبر عن استيائها بسبب السماح بعرض فيلم بولانسكي في صالات العرض الفرنسية، ونظمت هذه الحركات مظاهرات، حمل المشاركون لافتات مكتوب عليها "بولانسكي مُغتصِب"، وطالبوا بمقاطعة الفيلم. كانت الممثلة والمُصورة الفوتوغرافية الفرنسية فالنتين مونييه قد قررت أن تتكلم عن اعتداء بولانسكي الجنسي عليها وضربها قبل أكثر من أربعين عاماً، في سويسرا، تحديداً عام 1975 وكان سنها آنذاك لا يتعدى 12 عاماً، وتُعتبر فالنتين السيدة رقم 12 التي توجه لبولانسكي اتهاماً مشابهاً.
والواقع أن ما يعتبره المحرر الأميركي سوء فصل بين "المخرج" و"الرجل" لا يُعبِر بالضرورة عن الموقف الذي اتخذه قضاء بلاده من اعتداءات بولانسكي. إذا انتقلنا إلى ويكيبيديا الفرنسية وتحت عنوان قضية بولانسكي  L'affaire Polanski يمكننا أن نطالع تفاصيل القصة التي أدت عام 1977 إلى هروبه من أميركا، عندما اشتكت والدة الطفلة سامانثا جيمير من أن المخرج الشهير قد اعتدى على ابنتها البالغة من العمر آنذاك 12 عاماً، أثناء التقاطه صوراً لها ضمن جلسة تصوير فوتوغرافية. وأثبت الطب الشرعي جريمة المخرج، الذي سعى عبر محاميه آنذاك إلى عقد نوع من الصلح مع أسرة الضحية. وجهت النيابة العام ست تُهم لبولانسكي منها الاعتداء على قاصر، وإجبارها على تعاطي المخدر والكحول لتسهيل السيطرة عليها. أُدين بولانسكي وقضى جزءاً من العقوبة في السجن الأميركي، ثم غادر البلاد بعد أن شعر أن هذه لن تكون آخر إقامة له في السجن، لأن القُضاة لم يعدلوا معه، كما قال. لاحقاً أعلنت سامانثا على الملأ أنها قد سامحته، لكن القاضي رفض إنهاء القضية بهذه البساطة، واشترط لمنح بولانسكي العفو أن يعود الأخير إلى الأراضي الأميركية ويمثل أمام المحكمة بشخصه، وهو ما لم يحدث أبداً بالطبع.
 بالنسبة للإنتربول الدولي رومان بولانسكي ليس رجلاً وليس مخرجاً، إنه مجرد شخص "هارب" من العدالة. لا يستطيع أن يتحرك في أوروبا بسبب اتفاقيات الإنتربول، والبلاد التي يستطيع أن يسافر بينها بحرية هي فرنسا، وسويسرا، وبولندا. بسبب هذه الملاحقات القضائية، لا يتم توزيع أفلامه في عدة بلاد، مثل أميركا. لكن ماكفري يواصل تلاعبه ويقول إن السبب في الحصار الواقع على أفلام بولانسكي هو موقف الحركات النسوية منه وليس تاريخ المخرج نفسه. من جهته لم يتوقف المخرج الشهير طوال الأعوام الماضية عن صناعة الأفلام، وعن اتهام وسائل الإعلام الغربية بأنها تضطهده، كما اضطهد النازيون ضحاياهم.
في "إني أتهم" يحكي بولانسكي عن قضية درايفوس، الضابط اليهودي الذي حُرم من محاكمة عادلة أمام الحكومة الفرنسية، وأُدين بعقوبة على جريمة لم يقترفها كانت تعاونه مع العدو النازي أثناء الحرب. يبدو أنه يحاول أن يجد نوعاً من التناص بين ما يراه "مظلوميته الشخصية" وبين قصة شهيرة في التاريخ، ما زال ضمير فرنسا غير مرتاح حيالها. على أي الأحوال، قد لا يحصل "إني أتهم" أو "An Officer and A spy" كما هو العنوان بالإنكليزية على فرصته كفيلم سينمائي بمعزل عن صانعه، لكن لا شأن لذلك بعصبية النسويات الأوروبيات.

  آلان ترزيان رئيس الأكاديمية السابق 

















بيان "لوموند"... نريد أن نُسمِع صوتنا!
الحدث الثالث وفقاً للصحيفة الفرنسية في أزمة "سيزار"، هو البيان الذي وقعته مجموعة من نجوم فرنسا ونشرته جريدة "لوموند" يوم 10 فبراير/شباط، ومن بين هؤلاء النجوم: الممثل عمر سي، والمخرج برتران تافيرنيه، والمخرج ميشيل هازانافيسيوس، والمخرج جاك أوديار، والمخرجة سيلين سياما، والممثلة والمخرجة مارينا فويس، والممثلة أنييس جاوي. لا تتوقف الاتهامات على استبعاد شخصيات سينمائية، ولا على تدني عضوية النساء في الأكاديمية- 35% مقابل 65% من الرجال، لكن الاتهامات تطال أيضاً "شفافية الحسابات المالية" وجمع رئيس الأكاديمية بين مناصب متعارضة، واتهامات أخرى عديدة.
بعد إعلان هذه الاستقالة. فتحت الصحافة الفرنسية النار على آلان ترزيان، الذي صار رئيساً سابقاً للأكاديمية، ونشرت "لوموند" في 15 فبراير تحقيقاً يتناول نفوذ الرجل في الصناعة، ومواقفه التي توحي بازدرائه النساء. في عام 2017 مثلاً وعلى خلفية فضيحة المنتج الأميركي هارفي وينستين الذي اتهمته نجمات سينما شهيرات بالاستغلال الجنسي، وأُدين يوم 24 فبراير بتهمتي الاعتداء الجنسي والاغتصاب، صرّح ترزيان بأن مثل هذه الفضيحة "لا يمكن أن تحدث في فرنسا، لأننا في فرنسا نركز كثيراً على مشروعنا الفني، بما لا يسمح بهذا النوع من الممارسات". مع ذلك في نهاية العام الماضي خرجت النجمة الشابة آديل إنيل لتُصرح بأن المخرج الفرنسي كريستوف روجييه تحرش بها بينما كانت تشارك في أول أفلامها بُعمر 12 عاماً.
من جهة أخرى يُشكك مُحققو "لوموند" في سلوك ترزيان الشخصي، فنقرأ: "ذكر اسمه، يعني الاستماع أغلب الوقت إلى ملاحظات وتلميحات حول سلوكه مع النساء. تلقت لوموند، شهادات عفوية من سيدات (فضّلن البقاء مجهولات) يصفن كيف وجه لهن ملاحظات ومارس ضدهن سلوكاً مُزدرياً".
هناك الكثير مما يُقال ومما سيُقال عن آلان ترزيان، عن رومان بولانسكي، وعن آخرين من صُناع السينما، سواء الأوروبية أو الغربية، غير أنه سيظل يُقال بأخفض صوت ممكن، حتى تبرهن المجتمعات عموماً على قدرتها على المساءلة والنقد، والمطالبة بالتغيير. في هذا السياق، لا يمكن النظر لاتهامات التحرش والاعتداء من نساء ضد رجال في أي مجال باعتبارها عصبية أو تشدداً، بقدر ما تشي بخلل أكبر في نظام العمل، وفي طريقة التعامل مع فكرتي السلطة والمال بالنسبة لأشخاص يستخدمون خطابات مزدوجة في الحياة والفن.

 فالنتين مونييه وآديل إنيل 


















في نهاية مقال السيناريست الأميركي الذي لا يمثل نفسه بقدر ما يمثل أصوات أخرى طاغية ترغب في الحفاظ على صورة "حالمة" وربما مزيفة عن صناعة السينما، أُضيف يوم 13 فبراير تحديث بخبر الاستقالة الجماعية لأعضاء الأكاديمية، هذا السطر الأخير يجعلنا نعيد النظر إلى المقال كصورة من الماضي، صار الواقع قادراً على هزيمتها وعلى تجاوزها أخيراً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.