}

رواية التجسّس.. الحدّ، التاريخ والرهانات

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 2 أبريل 2020
تغطيات رواية التجسّس.. الحدّ، التاريخ والرهانات
لوحة للتشكيلي العراقي صادق كويش الفراجي

بورخيس: كل الشخصيات الروائية جواسيس
كانت رواية التجسّس منذ نشأتها سنة 1963، رغم تاريخها الذي يعود إلى 1894 مع ويليام لوكو، موزّعة بين مؤلّفين من الدرجة الرفيعة ومؤلّفين لا قيمة لهم تُذكر. فقد ظلّ هذا النوع الروائي دوماً يعاني رغم حضور جون لوكاري.
تقول القاعدة الشائعة في عالم الجاسوسية إن الجاسوس الجيّد هو الجاسوس الخفي. ويكاد هو نفسه يعرف ما عليه القيام به، ولمن يقدّم خدماته. يتحرّك دون إثارة الانتباه، وسط الظلال؛ لكنه في بعض الأحيان يكون في فترة راحة. يعني مثلنا جميعاً، في المترو، في العمل، وهو يقوم بالتبضّع من الأسواق، مع الأطفال في الشواطئ، وخلال العطل. إلى أن يكون في كامل اليقظة، رفقة ضُبّاط غامضين يطلبون منه أن يخفي كاميرا صغيرة داخل قطعة خبز، أو أن يقوم بإنقاذ العالم، لكن ذلك نادراً ما يحدث. من هنا جاءت هذه الملاحظة البورخيسية: كلّ الشخصيات الروائية في الأدب العالمي هي ربّما جواسيس، سواء في الحركة أو السكون، كما أنها تقضي سحابة أيامها في فعل أشياء أخرى غير التجسّس، تحديداً كي ينقضي الوقت: النوم في ساعة مبكّرة، اصطياد الحوت الأبيض، عَيْشُ مائة عام من العزلة أو مع أشباح بناتهم، أو زيارة قبور أمهاتهم.
هكذا استهلّ الصحافي والناقد السينمائي الفرنسي إريك ليبيو الملف الأدبي الذي أفردته المجلة الفرنسية "لير" (خارج السلسلة، مارس 2020) لرواية التجسس. قبل أن يعود ويستطرد بأن كلّ واحد هو حرّ في اعتبار تحليله فوق أدبي وغريب. لكنه يستند في قناعته على المتخصّصين في هذا النوع الأدبي (التخييلي) الذين يتشبثون بقول إنه إذا كان الجاسوس الحقيقي قد اجتاز البلدان والعصور منذ أن بدأ في إخبار الأصدقاء والأعداء بأبسط النزاعات، فإنه استغرق الكثير من الزمن ليرتدي لباس الشخصية التخييلية (الأدبية).


حرب 1870، والحربان العالميتان
كان يجب انتظار حرب 1870 بين فرنسا وألمانيا (19 يوليو 1870- 28 فبراير 1871)، والحربين العالميتين، وطبعاً الحرب الباردة، ليولد أدب الجواسيس من الحافات ويعرض نفسه في واضحة النهار على واجهات المكتبات. هكذا ولدت رواية التجسّس، مع اشتعال الحرب "الحديثة" التي تدور رحاها على ساحات المعركة، وفي ممرّات مكاتب الاستخبارات وبين جماعات الضغط في الفنادق الكبرى. كما أن ظهورها مرتبط باختفاء "شيفرة الشّرف" التي يمتلكها المقاتلون (مواجهات في الجبهات وإحصاء الموتى)، مما أعطى ولادة الحروب القذرة بهذا القدر أو ذاك، وللتقدّم التكنولوجي الذي سمع ببعث البرقيات، وإجراء المكالمات، وأخذ الصور، وحفظ المعلومات، والنقل عبر الفيديو، والبلوتوث...إلخ.
في سنة 1891 ظهرت "غويلتي بوندز" أول رواية للبريطاني ويليام لوكو الذي حكى فيها عن المؤامرة التي تمت بتحريض العدميين ضدّ القصر. الإنسان يقوم بنفس الشيء في الرواية التاريخية، لكن مكانته كصحافي، أو قنصل، ورجل مخابرات، يدفعه بشكل طبيعي لأن يحكي عن طريق قصصه الرهانات السياسية في المرحلة.
لكن رواية التجسّس ظلت تعاني دوماً من كونها مدعومة بالقدر الكافي من مؤلّفين مرموقين كي تتمكّن من تخطّي الازدراء الذي يعاملها به نقاد الأدب. وأحياناً كانوا على حقّ. يجب الاعتراف بذلك. غير أن الرواية البوليسية هي الأخرى عانت كثيراً من عدم الاكتراث هذا، قبل أن تصبح مثار نقاش في الملاحق الثقافية تحت تصفيق أكثر الأقلام شهرة. فهل رواية التجسّس تنتظر إذاً دورها؟ الأمر ليس مؤكّداً إلى هذه الدّرجة، فهذا النوع يعيش بالقفزات الفُجائية، وأخيراً حقّق مسافة بين الوجود الأدبي والسرد الذي ينتشر بسرعة.

بريطانيا العظمى: مسقط الرأس
وُلد هذا النوع السردي في بريطانيا العُظمى، ويرجع ذلك، حسب الناقد إريك ليبيو، إلى عدّة أسباب. فتاريخ الأدب البريطاني بَنى شيئاً فشيئاً متناً من الروايات تنتمي إلى تيارات أسلوبية ودرامية مميّزة: فكتورية، بوليسية، قوطية... إن التاريخ الجغرافي والسياسي جعل من بريطانيا العظمى بلداً فريداً: إمبراطورية قديمة، جزيرة لم تُستعمر أبداً، قريبة من الولايات المتحدة (على الأقل لغويا)، فخر بطريركي (وطني)، مكان منكفئ على ذاته خلال الصراعات الدولية... لذلك ليس مصادفة أن يكون المؤلفون الثلاثة الكبار في هذا النوع بريطانيين. الأول هو جون بوشان، الذي بكل تأكيد هو أبو رواية التجسّس، وكاتب حقّق نجاحاً دولياً، اشتهر ب"المسيرة 39". الثاني هو سومرست موم مؤلّف "السيد أشينديم" و"العميل السري" (1928)، وهي مجموعة قصصية تحكي عن روائي في مهمة كلّفه بها العقيد "ر". ويشترك هذان المؤلّفان في نقطتين على الأقل: كانا عميلين سريين، مثل كُتّاب آخرين. وروايتاهما اقتبسهما ألفريد هيتشكوك إلى السينما. أما الثالث، وهو إريك أمبلير، فهو الذي قام بالصعود بهذا النوع وتحديثه بكثرة التأليف فيه: شاهدة من أجل جاسوس (1938)، قناع ديميتريوس (1939)، سفر في الرعب (1940)...إلخ. وبفضل عمره المديد وبمزاياه ككاتب، لعب أمبلير دور حلقة الوصل بين جيله وجيل الحرب الباردة. بمعنى آخر، وباختصار، بين التجسس بنزعة المغامرة والحبكات الكثيرة، وبين التجسس بصيغته الضخمة التي تصوّر محنة العملاء السرّيين.
في متن ما بين الحربين هذا، يمكن ذكر "العميل السري" لغراهام غرين (1939). أما في فرنسا، التي لم تكن شغوفة برواية التجسّس، فلا نجد إلا بيير نورد الذي تخصّص في هذا النوع بطريقة ممتازة بروايته "جريمة مزدوجة على خط ماجينو" (1936). لكن الأشياء الجدّية حقّاً لم تبدأ إلا مع الحرب الباردة. هنا نفكر إذاً في: الصراع الخفيّ بدون أسلحة، ولا دبّابات أو جنود مقنّعين بأحذيتهم الضخمة، بل بواسطة رجال ونساء يسيرون على سجادات الفنادق الوسخة، والأزقّة المظلمة، والحانات المليئة بالأدخنة، والأسرار على المخدّات. الأمر يتعلّق بتجسس سياسي، تجسس اقتصادي، تجسس عسكري، تجسس علمي... بئر لا قرار لها لمن يريد أن يغوص فيه.


ما رواية التجسّس؟ ما رهاناتها؟

 روايات مثل التي يكتبها جون لوكاري تعمل على كشف رهانات العالم أجمع

















للاقتراب من حدود رواية التجسس، أجرت المجلّة حواراً مع الناقد والناشر الفرنسي جاك بودو. وقد أكّد أن تحديد هذا النوع بسيط جدّاً، أبسط من أيّ نوع آخر: فهي مجموعة من السرود تقدّم حبكتها المرتبطة في الغالب بالحروب- عملاء سريين أو جواسيس. الجواسيس موجودون منذ القرون الوسطى، لكن البروسيين، في حرب 1870، هم من وضعوا اللبنة الأولى للمهنة، بعد ذلك جاء دور الإنكليز في الحرب العالمية الثانية. أما اليوم فإن رواية التجسّس تعالج في الغالب موضوع الحرب ضدّ الإرهاب.
وتبقى أهداف هذا النوع من الروايات، ليس الكشف عن الأسرار كما يمكن أن نفكّر، فالمؤلّفون لا يمكنهم اختراعها. إن روايات مثل التي يكتبها جون لوكاري، تعمل على كشف رهانات العالم أجمع. وليس هناك سوى الإنكليزي إيان فليمينغ (1908-1964) الذي وجد طريقة أخرى لتحقيق ذلك: جعل العدو في غاية الشرّ لكنه غير واقعي. وهذا ربما هو ما جعل منه روائياً ناجحاً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.