}

الثورة والتمرد في زمن الوباء.. طاعون موسكو 1771 مثالاً

ياكوب كروتوف 24 أبريل 2020
ترجمات الثورة والتمرد في زمن الوباء.. طاعون موسكو 1771 مثالاً
مقتل أمفروسيا بطريرك موسكو أثناء تمرد الطاعون 1771(public domain)

في عام 1770، أي قبل 250 عاماً، اكتسح الطاعون موسكو، لكنّه لم ينتشر على نطاقٍ واسع إلا في أيلول/ سبتمبر 1771، ليحصد آلاف الأرواح يومياً. حينها، اندلعت أعمال شغب واسعة بعد أن أفتى رئيس الأساقفة بتعليق مراسم الصلوات لأيقونة الأمّ - محبّة الربّ القائمة عند بوابة بربارة.
لماذا على الله أن يصنع معجزةً حيث يمكن إصلاح الضرر بالطرق الطبيعية؟
عند بوابة بربارة القديمة، كانت هنالك صورةٌ كبيرة تمثّل الأمّ - محبة الله.... يبدو أنّ عامل مصنعٍ قد أخبر البابا أنّه رأى في الحلم السيدة العذراء، التي أخبرته بانقطاع الناس عن العبادة، وأنّ أحداً لم يصلِّ منذ ثلاثين عاماً، ولم يُقمْ قدّاسٌ أمام صورة القديسة عند بوابة بربارة، ولهذا سيرسل المسيح مطراً أسود على مدينة موسكو، وأخبرت العامل أنّها توسلت المسيح أن يقتصر الوباء على ثلاثة أشهر. كان الناس يستمعون إلى رواية عامل المصنع، القابع عند بوابة بربارة بخشوع. لم يقتصر الحضور على عامة الشعب، فقد انضم إليهم الباعة أيضاً. وكانت الإناث يشكلن غالبية الجمهور المستمع. كان العامل يجمع النقود منادياً: "ابتهجوا أيها الأرثوذكس، العذراء شمعةٌ في العالم كلّه!". حاول العامل إظهار تقواه بكلّ ما أوتي من قوّة، فخاطب الحشد: "أيها القطيع الحقير، خطيئةٌ كبرى أنْ نقول عنكم قساوسة، وأنتم تحتشدون هنا لممارسة التجارة، وليس للتعبّد والصلاة، غافلين تماماً عن متطلبات الكنيسة!".
أثناء أعمال الشغب، قتل الأسقف، وأثناء دفنه، قال أحد المؤبنين: "عند الكوارث، وفي حالات الخطر، يلهج الناس بالدعاء، متضرعين إلى الله بطلب النجاة، ويتوقع غالبيتهم أن يروا إحدى عجائبه تشفيهم وتزيل عنهم البأس: وحتى أنّ البعض من الفقراء لا يتصور أنّ الله سيغضب

من توسلّاتهم للشفاء مما يمكن التخلص منه، أو من وقاية أنفسهم بالعلاجات التي يصفها العقل الذي وهبه الله للبشر. فلم، إذاً، سيرسل الله معجزةً إن كان في الإمكان معالجة الأمور بصورة طبيعية؟".
لا تخبرنا الظروف التي يموت فيها الإنسان شيئاً عن قيمة الحياة نفسها، فكثير من الناس يقضي عمره ينتهك كلّ شيءٍ، ومع ذلك يحظى بميتةٍ هادئة، في حين يغادر الأتقياء، الذين يكرسون حياتهم للخير، أو التعبّد، هذا العالم، بصورةٍ غريبة مؤلمة. وإذا كانت الحال كذلك، فإنّ الأمر لن يبدو مختلفاً عندما نقول بضرورة أن يُنزل القصاص بالشهداء والقديسين والرسل في نهاية حياتهم: لأنّ أحداً منهم لم تنته حياته بشكلٍ لائق. وماذا نقول بشأن الرسل والشهداء؟ وماذا نقول بشأن المسيح نفسه؟
يمكن القول، بشكلٍ عام، إنّ هذه الخرافات كانت (وربما لا تزال) شائعة جداً، كالتشفّي الساخر من موت البطريرك ألكسي الثاني (Ridiger) في المرحاض. بالمناسبة، وقع الحادث نفسه في القرن الرابع، وأورد كدليلٍ على هرطقة (آري). فما الغريب في الأمر؟ ألم يُتوفَّ كلٌّ من (غليو غابال)، و(إلفيس بريسلي)، في المرحاض، أيضاً، فهل يعني هذا أنّ غليو غابال كان مغنياً رائعاً، أو أنّ إلفيس بريسلي كان مغنياً سيئاً؟

 

شخصٌ فريد
صوّر مؤرخو الحزب اللينيني ثورة الطاعون على أنّها اندفاعة صوب الحرية، وقالوا إنّها شكلٍ بدائي من أشكال البلشفية. الأكثر إثارة للاهتمام أنّ واحداً على الأقلّ من المتحمسين للحرية الروسية كان شاهداً من قلب الأحداث، حتى أنّه كتب عنها ووصفها. إنّه شخصٌ فريد: فيودر

كارجافين، ابن شخصٍ فريدٍ أيضاً: فاسيلي كارجافين. فالحوذي الموسكوفي، والمؤمن على الطراز القديم، أصبح تاجراً في بطرسبرغ، وأحد الأوليغارشيا، بثروةٍ تقدر بـ300 ألف روبل. تمتع كارجافين بعلاقاتٍ قوية، وكانت له مصالح ليست بالقليلة. قام فاسيلي كارجافين بتعليم ابنه اللاتينية، واصطحبه بنفسه إلى أوروبا في السابعة من عمره. وصلا إلى لندن، حيث كان يعيش أخوه (يروفيي كارجافين)، خرّيج جامعة السوربون في باريس، وأول من قام بترجمة قصص "رحلات جيلفر" إلى اللغة الروسية. أمّا عن علاقات كارجافين الأب القوية، فيكفي الإشارة إلى أنّه تمكّن من النجاة من المستشارية السريّة التي وصلها تقريرٍ عنه: بزعم أنّه سافر إلى لندن، وأنّ أخاه قد انضمّ إلى جماعة ملحدة معلناً "بالفعل ليس هناك من إله".
في عمر سبع سنوات، التحق فيودر كارجافين بمدرسة ليزيه، لينهي دراسته فيها وهو في عمر 10 سنوات، والتحق بالسوربون. بعد التخرج، التحق بخدمة السفير الروسي في فرنسا، ديمتري غولتسين. في العشرين من عمره، عاد إلى روسيا مع صديقه الدائم، فاسيلي باجينوف. في 1 كانون الأول/ ديسمبر 1765، كتب كارجافين لوالده رسالةً بالفرنسية قال فيها: "إذا كنت لا تحبّذ أن أصبح جندياً، فأنا على استعداد لأكون ما تريد - عامل تنظيف أحذية، إن أردت، فقط أعفني من الخدمة في الشؤون الخارجية، أو في المستشارية. إنّه قراري، وهو قرارُ نهائيّ لا رجعة فيه، فقد تعذبت كثيراً، وعانيت ما يكفي من الأشخاص الذين يعملون لدى الوزراء والنبلاء. لن أقبل ارتشاف الكأس نفسه من جديد".
في ما بعد، كتب الأمير (غولتسين) للإمبراطورة كاترين الثانية أنّه لا يمكن استخدام كارجافين للخدمة في روسيا "بسبب عدم إتقانه اللغة الروسيّة". ربما كان الأمر ينطوي على مكرٍ، فالفتى كان قد درّس اللغة الروسية في باريس. على ما يبدو كان الأمير يريد مساعدة كارجافين في تجنّب الخدمة المدنية، التي لم يكن متكيفاً معها كما ستظهر الأحداث لاحقاً.
قبل التطرق إلى أحداث 1777، سنتطرّق إلى سيرة وشخصية كارجافين.
في روسيا، أظهر كارجافين إصراراً عجيباً برفضه القيام بأيّ نشاطٍ تجاري استعداداً لاستلام الراية من أبيه. وعندما طُرِد من منزله، عمل معلّماً للّغة الفرنسية في إحدى المدارس، الأمر الذي لم يرتق بالطبع إلى مستوى طموحاته. بعد عامين، انتقل إلى موسكو. وفي عام 1773، استلم جواز سفرٍ خارجيّ، وسافر إلى باريس، حيث تلقّى محاضراتٍ في الفيزياء والطبّ، بعيداً عن رقابة الكبار. كانت النقود متوفرةً لديه، مما ساهم في توفير الوقت له لكتابة الشعر والترجمة إلى اللغة الفرنسية. وأخيراً، وفي تحدٍ للعرف السائد وقتها، تزوّج زواجاً مدنياً. في عام 1776، رحل إلى جزر المارتينيك، ومن هناك إلى أميركا. شارك كارجافين في حرب الاستقلال الأميركية، ليقع ثلاث مراتٍ في الأسر لدى الإنكليز. أراد جورج واشنطن إرسال كارجافين سفيراً لدى روسيا، على غرار ما فعله فرانكلين عندما أرسل سفيراً لدى فرنسا. ولكنّ كارجافين استطاع إقناع واشنطن أنّ روسيا ليست فرنسا، فأُعفي من المهمّة. في عام 1782، وصل كارجافين إلى كوبا، حيث عاش سنتين من الزمن، وعالج المرضى، وأعدّ أدوية للصيادلة... ودرّس الفرنسية. في عام 1784، يعود كارجافين إلى أميركا ليعمل أستاذاً في مدرسة، ومترجماً لدى السفير الفرنسي. وفي عام 1788، ظهر في فرنسا أثناء الثورة الفرنسية. بعدئذٍ يعود إلى روسيا ليقيم فيها مدة 25 عاماً، استمرت حتى وفاته، ويصدر خلالها 78 كتاباً في التاريخ، والعمارة، والمعاجم.
كانت ثقافة كارجافين فرنسية أكثر منها روسيّة، ولكنّه مع ذلك، وعلى عكس كثير من أبناء النبلاء المغتربين لم يكن يحبّ الغرب الاستهلاكي (وبالمناسبة رفض استلام الميراث الذي تركه والده)، بل أحبّ الغرب الذي تسوده الحريّة. في مقالاتٍ عن الحرب الأميركية، كتب كارجافين "التغيرات الأميركية"، مشيداً بدور الطبقة الوسطى، معتقداً أنّ الطبقات الأكثر غنىً، والأكثر فقراً، لن تستطيع القيام بانتفاضةٍ بالشكل المناسب. ولكنّه يرى "التمرد" و"التغيير" أمراً إيجابياً: "إنّ السلطة التي تخولنا سنَّ القوانين بأنفسنا هي جوهر المنافع التي يتمتّع بها مواطنو المناطق الديمقراطية". كما أثارت ثورة الدومينيكان إعجابه بصلابة الروح التي تمتع بها "السود"، مما ساعدهم على التغلب على المعاناة والخطر والموت.

 

من المساواة بين السماء والجحيم
تتدفق حرية الإنسان
بالعودة إلى وباء الطاعون في موسكو عام 1771، فقد عايش كارجافين أحداث الشغب مع باجينوف في الكرملين، وبعد أن استسلما لتاجرٍ لقاء نبيذٍ فاخر، لم يعانيا من اللصوص الذين

نهبوا دير المعجزات وأقبيته. لم يكن كارجافين يتعاطف مع المتمردين، بغضّ النظر عن الكيفية التي تحدث فيها المؤرخون الموالون للكرملين في الستينيات والثمانينيات من القرن العشرين، ولكن كان لديه إعجابٌ بالجرأة والشجاعة: "سارع الغوغاء للاستيلاء على الأسلحة صارخين: أيها العامّة دافعوا عن العقيدة، اضربوا الجنود حتى الموت"، وما إليه. في تلك الليلة، هاجم أحد المقاتلين بقبضايه العاريتين أحد التجار وهو على مدفعٍ، ولكنّه سقط فجأةً بالرصاص. وسقط آخر على حراب ثلاثة بنادق، ليتخلّص منهم ويضرب بما بقي لديه من قوةٍ أحد ضباط الصفّ، لكنّ الحربة الرابعة اخترقت جسده ليسقط عند أقدام المنتصر.
في الوقت نفسه، كان كارجافين أيضاً مفتوناً بقوة جنود الحكومة: داخل دير العجائب، رميت قرابة 70 جثةٍ، كما كان مثلها ملقىً على أرض ساحة الكرملين، وحوالي 400 جثةٍ كانت خارج الكرملين، عند جسر سباسكي باتجاه القديس فاسيلي في الساحة الحمراء.
كان هذا في 16 أيلول/ سبتمبر. أمّا في اليوم التالي، فقد احتشد الجمهور من جديد في مواجهة الجنود المتحصنين عند برج سباسكي. وبينما كان المتمردون يضغطون على الجنود، هاجمتهم الخيالة من ناحية المتحف التاريخي: عندها قام الضباط بإمساك كلّ واحدٍ من المتمردين قبالتهم، وهكذا جروا المنشقين، عمال المصانع، الكتبة، التجار والخدم، وألقوا بهم في أقبية الكرملين. لم يشعر كارجافين بالتعاطف مع أيٍّ من الجانبين. وبدلاً من ذلك، يتذكّر المرء الحواشي التي سطّرها على هوامش كتاب سفيدينبرغ عن الجحيم والفردوس: "تتدفق حريّة الإنسان من المساواة بين السماء والجحيم".

 

المناعة ضدّ العبودية
كان كارجافين سيّد التناقض. فمن حيث المبدأ، هو يكره العبودية أكثر مما كان يحبّ الحرية، ولكنّه عاش في عالمٍ قاعدته العبودية، لذلك فإنّ إطلاق سراح العبيد الأميركيين لم يحدّ من سلطة الملك البريطاني، ولم يخفّف من العبودية ذاتها، بل ربما كان العكس صحيحاً. أمّا الحرية، التي يحبٍّها كالهواء الذي يتنفسه: إذا قام الطاغية بإبادة رعاياه، عندها يتوقف وجود

أساس الطاعة، ولا يتبقّى شيءٌ يربطهم به، فيدخلون رحاب حريتهم الطبيعية.
خلال الثورة الأميركية، كان كارجافين يأمل أن تكون ملاذاً للحرية، وموطناً للفخامة والفجور المطرودة من أوروبا. ولكن عندما تبين أنّ الثورة كانت انتصاراً للعبودية، كتب نيابةٍ عن العبيد: "بعد أن خلقني العليّ رجلاً، جعلني حرّاً، وأعطاني الإرادة لأتبعها. كان الاستقلال هنته الأولى والأغلى. فكيف خسرتُها؟ أيها البيض! أنا أسألكم عن هذا".
سؤالٌ وجيه بالطبع. العبودية - طاعون. والشفاء لا يكون بالتمرد والإعدام بالرصاص، ولا بالسطو والعربدة. فبماذا؟ يكون الشفاء بأن يختبر كلّ شخصٍ، بنفسه وبمحض اختياره، العبودية، ويطوّر ضدّها مناعته في ذاته. يمكن أن ينتقل الفيروس إلى الشخص من الخارج، أمّا الحريّة فتنبع من داخله وفيها.

***

عنوان المقالة الأصلي: (1770 - 2020) Чума и свобода
موقع سفوبودا/ الحرية. رابط المقال: https://www.svoboda.org/a/30520501.htm

ترجمه عن الروسية: سمير رمان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.