}

أخيل امبيبي: تهمة "معاداة السامية" تقيّد الألمان بانتقاد إسرائيل

ناصر السهلي ناصر السهلي 31 مايو 2020
تغطيات أخيل امبيبي: تهمة "معاداة السامية" تقيّد الألمان بانتقاد إسرائيل
أخيل امبيبي: احتلال فلسطين الفضيحة الأخلاقية الأكبر في عصرنا
في المجال المعرفي لمرحلة "ما بعد الاستعمار" ونظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) وعنف السلطة، بدا مجتمع النخبة الألماني في الآونة الأخيرة مرعوبًا من حالة المثقف الكاميروني أخيل امبيبي  Achille Mbembe )، 62 )عامًا، الذي حاضر وكتب كثيرا في البلد، حين فجر لأسابيع ماضية، كأستاذ جامعي ومؤرخ، سجالا حول الصهيونية والاحتلال في فلسطين.

فالرجل، كحالات أكاديمية أخرى حول العالم، يسير عكس التيار، والأهم العربي، وبالأخص أصوات نخبوية، وأخرى متعدية على الفكر، في انهماك مسيس ومدفوع من سلطات سياسية جبرية، لشرعنة الزحف نحو التطبيع مع دولة الاحتلال، التي يصفها هذا المفكر والمؤرخ الكاميروني، بما لم يستطع سوى قلة من مثقفي ألمانيا، الواقعين تحت وطأة تهمة "الضمير والذنب"، منذ انهيار أحلام الرايخ الثالث بزعامة أدولف هتلر، بعد عام 1945.



احتلال فلسطين أكبر فضيحة أخلاقية
يثير امبيبي سجالا وجدلا على المستوى الثقافي والأكاديمي والإعلامي الألماني، ومن ثم عالميا على المستوى الفكري، نتيجة مواقف قادها لوبي صهيوني قوي ضده. فهو يصر على أن "احتلال فلسطين هي الفضيحة الأخلاقية الأكبر في عصرنا، وهي واحدة من أسوأ الأمثلة على الجبن الأخلاقي في 50 سنة ماضية، وبما أن إسرائيل ماضية على طول الخط بالمذابح الدموية والتدمير، نعم وتدريجيا بالإبادة، فلا بد من أن الوقت حان لعزلها عالميا".
كلام امبيبي جاء في مقال له في الصحيفة الألمانية "داي زايت" Die Zeit يوم 25 أبريل/نيسان الماضي كرد على تهمة يراها بنفسه "سخيفة ولا تستند لأية أسس، فما أسعى إليه هو تطوير مجتمع عالمي حقيقي لا يستثني أحدا"، ما عرضه لمزيد من انتقادات مثيرة للجدل.
التهمة: "معاد للسامية"، وتلك لا تطاوله وحده، بل هي سيف مشهر بوجه كل منتقد للصهيونية وسياسات دولة الاحتلال، ولو من باب رفض سياسة الاستعمار ونهب الأرض، التي تتعارض أساسا وقرارات دولية، ما أدخل كبريات صحافة ألمانيا خلال الأسابيع الماضية في جدال لم تشهده ألمانيا سابقا، وخصوصا في ثقافة سائدة تخشى أي انتقاد لإسرائيل. فدخلت على الخط صحف "فرانكفورتر ألغماينه" و"سود دويتشه زايتونغ" إلى جانب "زايت" وعدد آخر منها ومن مواقع ألمانية.



معاداة السامية.. تهمة في مواجهة التفكير الحر
سؤال "معاداة السامية" الذي أشهر بوجه امبيبي جاء ليلقي حجرا في ركود الرعب الذي اتسمت به قائدة مقطورة الاتحاد الأوروبي. فامبيبي ليس مجهولا في المجتمع المعرفي والأكاديمي الألماني، وفي بعض دول الشمال، إذ إنه حاصل في 2018 على أرفع جوائز العلوم الإنسانية، جائزة غيردا هنكل في برلين، وأُثني كثيرا على كتاباته وإصداراته ومحاضراته حول التاريخ الأفريقي، ومرحلة ما بعد الاستعمار والليبرالية الجديدة، وهو أستاذ في جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرغ.
لكن إثارة الضجة وافتعالها بدأها في أبريل/نيسان الماضي مقرر السياسات الثقافية عن حزب الليبراليين في البرلمان المحلي لمقاطعة نوردهايم ويستفاليا الألمانية، لورانز دويتش، لإلغاء دعوة امبيبي إلى مهرجان الثقافة الصيفي السنوي التقليدي (منذ 2002) "رورتريينال" (Ruhrtrienale).
وعلى ما يبدو فإن دويتش، كغيره من الألمان الخائفين من تأثير اللوبي الصهيوني، ينبشون كثيرا في عقول الناس ومواقفهم لإرضاء تلك اللوبيات. فقد لوّح بتهمة "معاداة السامية" لإلغاء دعوة الرجل بناء على موقف يعود إلى 2016، والذي من خلاله اعتبر أخيل امبيبي سياسة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة "في بعض النواحي أقرب إلى سياسة الفصل العنصري (الأبارتهايد) التي كانت قائمة في جنوب أفريقيا".
هذا الموقف الذي يساوي بين معاداة السامية وانتقاد دولة الاحتلال، سرعان ما وجد تأييدا من محام متخصص بالقانون الدولي، فيليكس كلاين. وكلاين وجه معروف من خلال تزعمه رسميا حملة حكومية منظمة منذ 2018 لمكافحة معاداة السامية في أوساط اليمين المتطرف. وذهب بعيدا في اعتبار موقف امبيبي من الاحتلال "موقفًا معاديًا للسامية من شخصية معروفة بإنكار حق إسرائيل في الوجود". فإلى هذا الحد تستخدم مفردة "معاداة السامية" لمنع أي صوت أو عقل من التفكير خارج الرعب الألماني من مس إسرائيل بأي انتقاد، حتى لو صدر الانتقاد عن مفكر يساري ألماني.


حملة المقاطعة هي الهدف
خلف كواليس لوبي الاحتلال، واللاعبين على وتر الماضي النازي، استهداف أبعد من امبيبي نفسه، الذي اعتبر ما يجري "حملة تشويه". وعمليا المُستهدف من السجال المستمر منذ الشهر الماضي هو حملة "بي دي إس" (المقاطعة) التي تدعو إلى سحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية وفرض مقاطعة دولية على الاحتلال.
وكان البرلمان الاتحادي في برلين صوّت في العام الماضي 2019 بأغلبية لاعتبار حملة المقاطعة "حركة تستخدم تكتيكات معادية للسامية للوصول إلى أهدافها"، وهو تبن لتعريف صاغه ما يسمى "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة"، وهو تعريف أخذ به البرلمان الأوروبي، وعليه ثمة نقاش دنماركي، على سبيل المثال،  في الشهر الحالي لتجريم حركة المقاطعة.
ويستحضر منتقدوه الألمان مقدمة كتابه "إسرائيل الأبارتهايد: سياسة قياس"، والذي كان عبارة عن كتاب شارك فيه 18 مفكرا أفريقيا لعرض أوجه التشابه والاختلاف بين إسرائيل وحكم الفصل العنصري سابقا في دولة جنوب أفريقيا.
السجال الألماني المثار حول "معاداة السامية"، منحت امبيبي دعما من جامعته، التي تقاطع أكاديميا جامعة بن غوريون لدورها في دعم جيش الاحتلال.
وتلك الحملة التي يتعرض لها الرجل دفعت أيضا ببعض مثقفي ألمانيا، وبعضهم من أصول يهودية، إلى إظهار تضامنهم معه بتوقيع 30 مثقفا ألمانيا "رسالة تضامن"، قدمت إلى وزير الداخلية الاتحادي، فولفانغ شاوبل، وشملت رفض الجميع اتهامات معاداة السامية بحق امبيبي.
ومن بين الموقعين برز اسم ألايدا أسمان، التي فازت بجائزة "السلام" في معرض فرانكفورت للكتاب، والخبيرة في "التعامل مع الماضي" و"الثقافة الألمانية حول الإبادة الجماعية"، حيث وجدت أنه لا يجب الخلط بين المواقف المسبقة والمقارنات "ومن حق امبيبي كمؤرخ أن يجري تلك المقارنات". وحتى دوليا وجد تعاطفا بتوقيع أكثر من 377 مثقفا من 30 دولة يرفضون التدخل الأيديولوجي والسياسي في التفكير الحر والمقارن. وهدد بعضهم بمقاطعة مراسم منح جوائز تنظمها المؤسسات الألمانية "إذا كانت تخشى الاختبار العقلي"، ومن بين الموقعين إتيان باليبار، وليلى أبو لغد، ومايكل سوركين، وغيرهم.
الجدل الذي احتدم مؤخرا حول حق الناس في إجراء مقارنات بين ممارسات دولة الاحتلال الصهيونية ونظام الأبارتهايد بجنوب أفريقيا، وبإصرار لافت وقائم على الحجة من طرف امبيبي، يبدو أنه حرك الخوف في ألمانيا، رغم أن معسكر اللوبي اللاعب على وتر التاريخ النازي لم يُعجب بالنتيجة. فقد حرك اتهام امبيبي بمعاداة السامية لانتقاده دولة الاحتلال قضية غاية في الأهمية، بشأن النقاش طيلة عقود ماضية يمنع خلالها الألمان المس بإسرائيل ولو بانتقاد.  والسؤال الأهم الذي استدعته هذه القضية: هل يستطيع الألماني انتقاد إسرائيل مع بقاء مسؤولية أخلاقية لا تؤدي إلى اعتبار حرية التعبير "معاداة للسامية"؟
ولعل أفضل خلاصة في قضية امبيبي هي ما ذهبت إليه الصحافية الألمانية من موقع "تاز" (المتخصص بالقضايا الإنسانية وثقافة المساواة)، شارلوتا فايدمان، تحت عنوان لافت "امتياز النصب التذكاري.. بين 8 مايو/أيار (انتهاء الحرب) وقضية امبيبي.." بأنه "حان الوقت للتخلص من صورة التاريخ القائم على المركزية الأوروبية". مؤكدة أن "هناك أسبابًا وجيهة تجعلنا نرى المحرقة فريدة من نوعها، في طابعها ونطاقها، ولكن لا يجب أن نستخدم هذا التفرد كسلاح للحديث عن آلام الغير كحالة دونية وثانوية.. كألمان علينا أن نفهم، أن البشر الآخرين لا يشاركوننا تاريخنا كجناة، وهؤلاء لديهم أيضا نظرة أخرى لإسرائيل".
فايدمان استعرضت تلك الخلاصة بعد تفنيد طويل لقصة تجنب رواية تاريخ مشاركة غير البيض (نحو 7 مليون أفريقي) في تحرير أوروبا من النازية. واستعرضت على سبيل المثال حالة شارل ديغول الذي رفض أن تدخل باريس قوافل الجنود السود الذين شاركوا في تحرير بلده وأوروبا، وتلك قضية أخرى تدخل في صلب مناقشة أمثال أخيل امبيبي وغيره من مفكري أفريقيا الجديدة.
تجدر الإشارة إلى أن أخيل امبيبي يشدّد دوما على رفض وصفه بأنه منظر لمرحلة "ما بعد الاستعمار"، حيث يعتبر نفسه صاحب مشروع فلسفي لعالم يقبل الاختلافات وتجاوزها، بدلا من العودة إلى الوراء لتأكيد الهوية. وهو في ذلك يعبر عن مرحلة فلسفية أخرى في أفريقيا، مُذكرًا بالفيلسوفين الغاني- البريطاني (من أم بريطانية وأب غاني) كوامي أنتوني أبيا، صاحب نظرية الأكاذيب الرابطة، عن هوية الحضارة الغربية (The Lies That Bind: Rethinking Identity )، وهو أحد الرافضين لوجود شيء اسمه "الحضارة الغربية" (كما سجل ذلك في الغارديان البريطانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وتحت عنوان There is no such thing as western civilisation)، والكونغولي فالنتين ايف موديمبي (الذي ولد في أثناء الاحتلال البلجيكي لبلده في عام 1941)، ويرتبط كثيرا بأفكار وكتابات إدوارد سعيد، وخصوصا في قضية الاستشراق (1978)، وهو ما يلاحظ في كتابه "اختراع أفريقيا" (The Invention of Africa ) الصادر عام 1988، ويتمحور حول مرحلة ما بعد الاستعمار مستندا على الروايات الأسطورية والظواهر والبنيوية وممارسة اللغة واستخداماتها، وهو بالأساس أستاذ في الجغرافيا الثقافية اليونانية القديمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.