}

كيف تتسرب الأوبئة إلى الأدب؟

إليزابيث أوتكا 21 يونيو 2020
ترجمات كيف تتسرب الأوبئة إلى الأدب؟
من اليمين (أعلى): ييتس،إليوت،وولف (أسفل): بورتر، لافكرافت
في تشرين الأول/أكتوبر 1918، اختبرت كاثرين آن بورتر المصابة بالهذيان ما أسمته "رؤية إلهية". عندما كانت بورتر تشرف على الموت، بسبب فيروس الإنفلونزا الجديد الذي كان يقتل 50 إلى 100 مليون إنسان، شعرت أنها انتقلت إلى مكان فردوسيّ؛ مكان خالٍ من الألم والخوف اللذين كانا قد سيطرا على جسدها. رغم ذلك، نجت بورتر من المرض، ما أثار دهشة الجميع، ثم حوّلت تجربتها معه إلى نوفيلا مؤثرة حملت عنوان "حصان شاحب، فارس شاحب". تعتبر تلك الرواية القصيرة واحدة من الأعمال الأدبية القليلة التي تناولت بشكل مباشر الوباء الذي أصاب الولايات المتحدة، وحصد من الضحايا أكثر مما حصدته حروب القرنين العشرين والواحد والعشرين مجتمعةً. تلك التجربة، تقول بورتر: "قسمت حياتي ببساطة إلى قسمين... وبعد أن كنت قد تغيّرتُ بطريقة غريبة... تطلّب الأمر مني الكثير من الوقت لأخرج وأعيش في العالم من جديد".
اليوم، يتعهد كوفيد-19 بتغييرنا جميعًا بطرق غريبة. إنه حدث مغيّرٌ للتصورات السائدة، حدثٌ يقسم الحيوات والثقافات إلى ما قبله وما بعده. سنغادره لا بدّ متغيّرين، إلا أن كيفية تجلّي هذه التغييرات لا تزال غير مؤكدة. التفاصيل الحسيّة المرافقة لتفشي هذا الوباء- الأقنعة، وجوه الأطباء والممرضات المتغضنة بالقلق والتعب، لافتات الإغلاق، رائحة المعقمات، الشوارع الفارغة، أكداس التوابيت- سوف تشق طريقها إلى عقولنا وأجسادنا، معيدة إيانا إلى هذه اللحظة مرارًا في المستقبل. بالنسبة إليّ، تحمل التجربة كذلك نوعًا من الألفة الغريبة. فقد أمضيت السنوات الخمس الأخيرة في الكتابة عن تسرب المناخ الحسي والعاطفي لجائحة 1918-1919 إلى أدب ما بين الحربين، بطرق كانت، في أغلب الأحيان، غائبة عنّا. إدراكي الجديد لآثار ذلك الوباء غيّر من فهمي للوباء الحالي، كما لو أن المشاهد والأصوات من القرن الماضي قد عادت إلى الظهور، لتصبح معبرة عن وقتنا الحاضر، بطرق تثير الخوف.

غلاف رواية "حصان شاحب، فارس شاحب" لكاثرين آن بورتر  
















مثل هذه المقارنات بين جائحة الإنفلونزا وكوفيد-19 انتشرت بشكل كبير مؤخرًا، في محاولةٍ للحصول على خارطة لكيفية انتشار الوباء الحالي. من الناحية الطبية، نتساءل أي فيروس منهما أكثر سوءًا؟ هل ينتشران بذات الطريقة؟ كيف تغيرت الحياة العامة بين زمن جائحة الإنفلونزا واليوم؟ هل من دروس يمكن استخلاصها أو أخطاء يمكن تفادي الوقوع فيها؟ بعض الفروق بين الوباءين واضحة سلفًا: وباء 1918-1919 قتل شباب أصحاء بمعدلات تثير الدهشة، وبدت الإنفلونزا حينها تهديدًا مألوفًا أكثر منه جديدًا، رغم الفوعة الفريدة لهذه السلالة التي عنت أن التخلص منه كان أسهل، في البداية على الأقل. توقيت الوباء كانت له أهميته أيضًا: أتت جائحة الإنفلونزا في أعقاب واحدة من أكثر الحروب فتكًا في تاريخ العالم؛ هذا التداخل الزمني جعل الوباء يتلقى القليل من الاهتمام، رغم أنه قتل الكثير من البشر. في حالة الموت الجماعي التالية بعد خمس سنوات، وصل الوباء في الوقت الذي كان فيه العالم سلفًا مليئًا بالجثث والحزن.
مع هذا، الأدب الذي نشأ آنذاك عن جائحة الإنفلونزا يعّبر عن لحظتنا الراهنة بصورة عميقة؛ إنه يقترح ترابطَ هذين العالمين تحديدًا في المجالات التي يبرع فيها الفن: في المشاهد العاطفية، في الكيفية التي يتردد بها صدى لحظة ماضية في الحاضر، في المحاورة المقدسة بين تجارب الجسد وإدراكنا للعالم.

في الزمن الحالي، يُسلَّط الضوء كل بضعة أيام على واقع جديد؛ ما بدا بعيد الاحتمال البارحة، يصل إلينا في الغد. "الماضي دومًا بلد آخر"، لكن السرعة التي تصبح بها المعرفة بالية، وتتحول السذاجة إلى إدراك، وتتغير الحقائق الأساسية، تمسي سرعةً مدوّخة خلال الأوبئة. في "حصان شاحب، فارس شاحب"، حاكت بورتر من تجربة التغير الجذري التي عاشتها تبصّرًا أكثر شمولًا حول الدوار الذي تُحدثه مثل هذه التحولات. ترمز بورتر لهذه التأرجحات باستخدام مجموعة من الأساليب، تتناوب بين لغة هلوسية خيالية للتعبير عن غزو الفيروس للأجساد، وأسلوب واقعي أكثر مباشرة للتعبير عن الحرب. جزء من التحدي الذي يواجه الشخصيات في هذه الرواية يكمن في مدى مقدرتها على قراءة القصة التي هي جزء منها على نحو صحيح؛ مع كون الشخصيات متشبّعة بقصة حرب مروّعة لكن مألوفة، هذه الحكاية هي حكاية ما يبدو حقيقيًا. يعرف أصحاب هذه الشخصيات أدوارهم (جندي، امرأة من المدنيين)، التهديد المحيق بهم (حرب مدفعية)، وأعداءهم وحلفاءهم، ويعرفون كيف ستنتهي القصة (موت الجندي). لكن، بسبب كونهم عالقين في هذا الإطار المفهوميّ، يفوت الشخصيات أن الواقع قد تغيّر، أن العدو بات الآن غير مرئي، أن النساء يواجهن الخطر ذاته كالرجال، وأن الجبهة المدنية باتت بخطورة الجبهة العسكرية. ثمة بالطبع عواقب لهذه القراءة الخاطئة: بما أن قلقهم يتركز حول الخطر الذي يتهدد أجساد الجنود في الحرب، يستمرون بارتياد المطاعم، المسارح، المشافي، وأماكن العمل. وحتى بعد أن يسقط أحدهم صريع المرض، يتلامسون ويتبادلون القبل ويتشاركون السجائر، معتقدين أنهم لا يزالون في إطار القصة العتيقة، بينما يستولي هذيان جديد على الحكاية وعلى حيواتهم. تلتقط بورتر الهزّات العاطفية والجسدية الناجمة عن واقع مستمر بالتغير، بالإضافة إلى المخاطر المتأتية عن فشل التكيف مع إطار مفهومي جديد بالسرعة الكافية.



لا يُستبدل واقع الإنسان ببساطة عند حدوث وباء، بل يصبح متقلبًّا بشكل جذري. في الحقيقة، هذه الحالة من التقلب وانعدام اليقين تصبح هي الواقع. عدم إمكانية التنبؤ بفيروس كوفيد-19 وكل ما لا نعرفه عنه يعني أننا لا نعرف موقعنا في القصة أو حتى ما هي القصة التي أصبحنا جزءًا منها. هل ما حدث هو الموجة الأولى من شيء أكثر فتكًا سيأتي في المستقبل؟ هل وصلنا إلى قمة المنحنى؟ ما هو نطاق المأساة؟ هل الاقتصاد هو أساس القصة؟ ما الذي نعتقد اليوم أننا نعرفه بينما قد يثبت المستقبل أنه خاطئ إلى درجة مهلكة؟ انعدام اليقين الذي تتسم به هذه الحكاية يجعل العديد منّا يلجأ إلى أنواع الأدب التخييلية والأفلام القابلة للتنبؤ (حتى لو كانت تتحدث عن كوارث)؛ إنها تتيح لنا أن نستظلّ بحكاية أخرى نعرف مسبقًا نهايتها. ما يمنحه لنا الأدب الحداثي عادة هو عكس ذلك؛ إنه يلتقط التشظي وانعدام الحبكة في عالم ما بعد الحروب أو ما بعد الأوبئة. ت. س. إليوت، الذي أصيب مع زوجته بالإنفلونزا خلال الجائحة، كان ينوء تحت ثقل ما أسماه "الإنفلونزا المنزلية" التي أصابت صحته وحياته داخل منزله، وكان قلقه الأكبر أن يكون المرض قد أثّر على عقله كذلك. "الأرض اليباب"- قصيدة تتناول الكثير من المواضيع وتعبّر عن روح العصر الذي عاش فيه إليوت- تُحوّل حالة انعدام اليقين هذه إلى مناخ، بضبابها، مناظرها الطبيعية المحلية المسكونة بالجثث، إحساس الحياة الشبيهة بالموت المخيّم عليها، ولغتها الهذيانية.
ينجم انعدام اليقين أيضًا عن كون العدو غير مرئي. يُضبط الوعي على الاستجابة لتهديد قد يكون في كل مكان لكن لا يمكن رؤيته. عالم الأسطح والبشر يغدو مشتبهًا به، ويصبح الجسد سهل الاختراق وغير منيع.

غلاف رواية ويليام ماكسويل الرثائية "جاؤوا كالسنونو" 

















يلتقط ويليام بتلر ييتس هذا الشعور بالخطر في "المجيء الثاني"؛ قصيدة ألفها في الأسابيع التالية لمراقبة زوجته الحامل وهي تشرف على الموت أثناء الوباء. بصورة متكررة، كان فيروس 1918 يُغرق الناس في أسرّتهم بينما تمتلئ رئاتهم بالسوائل، ويتسبب بنزيف مفاجئ من الأنف، الفم، والأذنين. إحساس الفوضى والرعب المخيّم على القصيدة يأتي، بالطبع، من عدة أسباب كالحرب، الثورة، والعنف السياسي في إيرلندا، لكن القصيدة تعبّر أيضًا عن الرعب الناجم عن وجود تهديد خفي، لا فاعل واضحًا له؛ تهديد يُغرق البراءة ويُطلق العنان للأناركية الصرفة والمدّ المغطى بالدم.
تعذُّر رؤية التهديد يُنتج بدوره ما يمكن أن نسميه الشعور بالذنب المرافق للعدوى؛ نوع من الخوف الذي يهيمن على الشخص بسبب إمكانية نقله للعدوى المميتة إلى شخص آخر. طرق انتقال المرض معروفة بشكل عام، لكنها نادرًا ما تكون محددة بشكل خاص؛ يخاف المرء، لكنه لا يعرف طرق الانتقال الدقيقة.
في رواية ويليام ماكسويل الرثائية "جاؤوا كالسنونو"، التي تستذكر موت والدته الحامل في جائحة الإنفلونزا، الشخصيات مسكونة بكل أشكال الـ "ماذا لو": ماذا لو أنهم أخرجوا طفلهم من المدرسة في وقت أبكر؟ ماذا لو أنهم اختاروا عربة القطار الثانية بدلًا من الأولى؟ ماذا لو أنهم لم يدخلوا إلى الغرفة في ذلك اليوم؟ مثل هذا الشعور بالذنب يمكن أن يعيش في العقل بحضور خافت، دون حلّ ودون قابلية للحل. يأتي ذلك الشعور أيضًا في شكله الاستباقي؛ ماذا لو أن تلك اللمسة، تلك الزيارة، تلك المرة التي نسينا فيها غسل أيدينا، أدت إلى أذية شخص عزيز أو حتى غريب؟ تحلم الشخصية الرئيسية عند بورتر في "حصان شاحب، فارس شاحب" بقوس مرعب غير مرئي يطلق السهام على حبيبها الذي يموت في الحلم مرة بعد مرة، على الرغم من محاولاتها لمنع ذلك.

من ناحية أخرى، وكما نشهد يوميًا، يصبّ هذا الخليط السام من انعدام اليقين والخوف في قنوات مهترئة من القساوة وإلقاء اللوم على الآخرين، ممّا يحوّل العدو الفيروسي الخفي إلى خصم وهمي لكن مرئي. الزينوفوبيا (رهاب الأجانب) المتمثّلة في تسميات مثل "فيروس صيني" أو حتى "إنفلونزا إسبانية" تضع مجموعات كاملة موضع الإدانة. بهذا تتحول التوصيفات الطبية الواقعية للمرض وكيفية انتقال العدوى إلى استعارات عنصرية سامة ذات خطورة ونجاسة أخلاقيين.



كاتب قصص الرعب في بدايات القرن العشرين هوارد فيليبس لافكرافت كان قد مرّر في كتاباته عن مرحلة ما بعد الحرب/ ما بعد الوباء معتقداته المتحاملة والمعادية للمثليين التي تقول بأن جماعات المهاجرين والمنحرفين يلوّثون السلالات الآرية النقية. بعد أن اجتاحت الإنفلونزا موطنه الأصلي رود آيلاند، ملأ لافكرافت قصصه بشخصيات زومبي بَدئية تقوم من بين الأموات في أوقات الأوبئة أو الحروب، عازمة على إحداث المزيد من الدمار. يحوّل لافكرافت مزيجًا سامًا من الأجواء المرَضية والتحاملات الراسخة إلى وحوش يمكن رؤيتها وقتلها دون عقاب، وهو إجراء يدلّل على الطرق الخطيرة التي يمكن بها حجب الدوافع العنصرية الخبيثة بواسطة تجسيم التهديد.

مع ذلك، ما ينبض في كل هذه الأعمال- وفي لحظتنا الراهنة- هو الجسد ذاته. في مقالتها "عن الإصابة بالمرض" تلاحظ فرجينيا وولف، التي عرفت عن المرض الشيء الكثير وتسببت مواجهتها مع فيروس 1918 بتلف في القلب، كيف أن المرض والجسد يبقيان خارج فنّنا وتجاربنا الواعية. نحن ننكر كيف أن الجسد في حقيقة الأمر "لا يكفُّ عن الحضور طوال الليل والنهار". في خضم مرض حاد، يضيق العالم ويتسع قدّ معاناة الجسد؛ تجربة مخبأة جزئيًا بسبب العزلة العميقة التي يحدثها المرض في أغلب الأحيان. وكما تكتب وولف، "تلك الحروب الجسيمة التي يشنّها [الجسد] لوحده... في عزلة غرفة النوم ضد اعتداء الحمى" تمضي دون تأريخ.
تتناول الأعمال الأدبية التي صدرت بعد وباء 1918 هذه المعارك الداخلية، أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا على شكل شذرات وأصداء. إنها تلتقط الطريقة التي قد يُحطّم بها الفيروس مدارك الجسد الداخلية، الطريقة التي تحوّل بها الحمى والألم والخوف من الموت الواقعَ إلى هذيان. تُظهر بورتر هذا الأسلوب بجعل الفيروس يصيب النثر ذاته؛ تنعكس الفوضى الفيروسية المتعاقبة في بناء الجمل المتقطع ومشاهد الحلم المنتشرة عبر الرواية، ويعّبر التفكك في النثر عن "الألم القاهر الرهيب الذي يجري في عروقها مثل نيران كثيفة". قصيدتا "الأرض اليباب" و"المجيء الثاني"، تريان الأمور من منظور الهذيان الداخلي للجسد، وتسجّلان عوالم الهلاوس، الإدراك المشتت، والألم المتقد المرافق للحمى ووهن الجسد.

غلاف رواية وولف "السيدة دالاوي" 

















تأتي أخيرًا مرحلة تبعات الكارثة على أجسادنا وثقافتنا. كيف تستمر تلك التجارب بالعيش في الخلايا، في الذاكرة، وفي الشوارع؟ الإحساس المستمر بالحياة الشبيهة بالموت، الشعور بالتجربة التي تسمنا بظلالها، يتردد صداه حتى بعد انتهاء الوباء. رواية وولف "السيدة دالاوي"، التي تُقرأ غالبًا على أنها رواية تلتقط تبعات الحرب- التي ستتركها من دون شك- تعرض أيضًا من خلال شخصيتها المحورية "دالاوي" الإرهاق الجسدي والعقلي الذي يبقى بعد زوال المرض. تعاني كلاريسا دالاوي، مثل وولف نفسها، من تلف في القلب جراء مواجهتها مع الإنفلونزا، وتشعر أثناء تنقّلها في شوارع لندن وفي بيتها، أنها ترى عالمها من خلال إحساسها بالضعف الجسدي؛ دقاتُ قلبها ذاتها وتباطؤاتها تنبض بذكريات مرضها. مشاهد وأصوات وروائح غرفة مرضها تتدفق من جديد عبر وعيها، مغيّرة الطرق التي ترى بها اليوم اللندني. اليوم، أجسادنا مشغولة دومًا سواء أكان ذلك بالمرض أو بالمراقبة. إنها تقوم بتسجيل هذا الوباء، منشئةً الدويّ الذي سيتردد صداه في مستقبلنا.

*إليزابيث أوتكا: أستاذة متخصصة بالأدب في جامعة ريتشموند، الولايات المتحدة. آخر كتبها، "الحداثة الفيروسية: جائحة الإنفلونزا وأدب ما بين الحربين".

النص الأصلي:
https://www.theparisreview.org/blog/2020/04/08/how-pandemics-seep-into-literature/

ترجمة سارة حبيب.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.