ليس هناك، حتى الآن، في عصرنا الديجيتال، ما يوازي «ديكاميرون» في حميميتها، كملجأ من الوباء لا مجرد سرد رقمي يحدث باسم الكتابة. ولا يعني الانقطاع عن الرواية والخيال، والسرد الحميمي، مقابل طفرة الكتابة الجافة والمتخصصة، أن إيطاليا فقدت حساسيتها تجاه الأدب. لكن يبقى السؤال عن هذا الأدب محقًا، ويكاد أن يتحول إلى بحث مشابه للبحث الحاصل في إرث السينما الإيطالية، التي انقطع نسلها في القرن الحالي تقريبًا. «ديكاميرون» كان أشبه بإنجيل للنساء اللاتي كممت أفواههن، كن عاشقات وثائرات، بينما كان الرجال صيادين وامتلكوا شروط اللهو. بهذا المعنى، وجد بوكاتشو في أيام الوباء وأثناء الحفر في ملاجئه دليلًا إلى خيط نسوي، في زمنها كانت ضربًا من الخيال. فالأدب الخارج من رحم الوباء كان أدبًا. هذه العلاقة نفسها، بين الأدب والجائحة، هي نفسها العلاقة بين الأدب والمتغيّرات، واستسهال وصف أنواع الكتابة المختلفة بالأدب، لندرة الأخير وشدة تكلفه في أيامنا.
من بين قائمة الكتاب التي نُشِرت حتى الآن، يمكن استثناء باولو جيوردانو، الذي يكتب ليعترض، وإن كانت الكتابة ليست مهنته الأصلية. لقد حاول الاستدراك على طريقة فرويد. كما طارد الأخير أحلامه الخاصة بعد الصحو، فعل جيوردانو الأمر نفسه في كتابه الجديد: «كيف يعمل الوباء». لكنه يرفض أن يسميها توثيقًا، وأن يفترض أنها أحلام أو أوهام. ورغم أن النصوص المنشورة لا تخلو من الوعظ أحيانًا، إلا أنها قادرة على اكتساب سمة الأدب مجالًا حيويًا لها. نشر ما نشره قبل نهاية الطوارئ، لكيلا يفقد الوعي، كما يقول. رغم ذلك، تبدو نصوصه ناضجة، وتبحث عن اعتراف مشترك بالوباء: أي أن يعترف الوباء بنا عبر الأدب، مثلما اعترفنا به في الحقيقة. في نصوصه أيضًا سنجد ميلًا للتحدث في الاقتصاد، بلغة إنشائية، مستغلًا الهامش الكبير المولود في حدث بنيوي هو الوباء. يدعو إلى طوباوية مجتمع مدنية، تفرض على الأشخاص التطوع والبحث، من دون أن يكون التصويت شرطًا وحيدًا لإنتاج الديمقراطية. لكن، وإلى تطرقه الواضح للقيم الأخلاقية، ولتسجيله رفضًا ضدّ فكرة السوق، يتأرجح النص بين هوية أدبية تقوم على ترابط لغوي، وبين ميل إلى إطلاق المواقف من على منصة أدبية.
ربما لأنه ينظر من على الحافة، لم يعتبر جيوردانو كتابه نهائيًا، على عكس روبرتو بوريوني، الطبيب والكاتب، الذي نشر «التحدي الكبير». وتأتي حماسة بوريوني، من موقع مختلف، عن حماسة جيوردانو، أو حماسة تريمونتي، لأنه يتناول الأوبئة من ناحية تاريخية. رغم أنه طبيب، يؤمن بوريوني بالأدب، كأحد العلاجات الممكنة. ربما يكون هذا كافيًا، لأن يكون عمله في مصاف الأدب هو الآخر، بالمقارنة مع عمل ماسيمو أندريوني وجورجيو ناردوني «كوفيد – 19: فيروس الخوف، العلوم في زمن كورونا». ذلك لا يلغي أنه ورغم ابتعاده عن شروط السرد التقليدية، مثل الحبكة أو التسلسل، أو أي شروط أخرى، فإن الكتاب ينطلق من قاعدة قوية، حسب معظم النقاد.
على عكس استغلال تريمونتي للجائحة لترسيخ أفكاره عن العولمة، بما يناسب «برلسكونيته»، يشير الكاتبان المتخصصان إلى دور الهلع في انتشار الجائحة، مقابل دور الشجاعة في التصدي، كنقطة أساسية يدور الكتاب حولها. ليس الكتاب مجرد سرد يلتقط من التاريخ ما يمكن التقاطه، ويلصق بالجغرافيا ما يمكن لصقه. ولا يبدو كتابًا متسرعًا، بل يساجل في غرور الإنسان المتكبر، الذي شعر لفترة ما أنه سبق الوجود، بينما في الواقع هو كائن يلقي عليه الوجود آثارًا بالغة، لا يمكن إنكارها أحيانًا. رغم الطابع اللاهوتي للفكرة، فإنها تبقى فكرة سجالية، وتبقى الكتب الإيطالية المنشورة حتى الآن، كافية للحديث عن «فورة»، أو عن ردة فعل بعد الوباء.
تبدو الكتابة، في الحالة الإيطالية، وقبل أن تدخل طورًا أدبيًا يجيز الخيال، على طريقة الأسلاف الرومانسيين، أو المحدثين التجريبيين، في حالة تصالح مع الوباء، كما لو أن هؤلاء الكتاب يمدّون أيديهم نحو كورونا، للمصافحة والاعتراف.