}

سياحة في العقل الياباني من خلال الأدب

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 9 يوليه 2020
تغطيات سياحة في العقل الياباني من خلال الأدب
من اليمين (أعلى):تانيزاكي،موراكامي،ميشيما.(أسفل):غلاف مجلة "لوبوان" ومدينة "نارا" اليابانية
أرخبيل مغلق.. أرخبيل مفتوح
ما الذي يطبع دهشة الغرب والشرق والعرب حين ينظرون إلى اليابان؟ هل الفنون التقليدية، المعابد البوذية، القناطر في الحدائق ذات الألوان الربيعية النظرة، الساموراي، الأفلام المتحركة، "المانجا"، أطعمة السوشي، روايات موراكامي؟ كلّ ذلك أو بعضه ربما. لكن تبقى هذه الحقيقة قائمة، فمن بين كل بلدان الشرق يبقى اليابان، حسب كاترين غوليو في افتتاحية العدد الأخير من مجلة "لوبوان" الفرنسية، هو البلد الذي مارس تأثيرًا على بلدان الغرب، والشرق أيضًا. فقد باع لهذه البلدان سياراته وأجهزته الإلكترونية، بل أيضًا حين دلّها على جماليته وخصوصًا على رسوماته الراقية. لكن، رغم ذلك، يبقى هذا السؤال مشروعًا: ما الذي نعرفه حقًّا عن ثقافته، وقيمه، ومعتقداته، وأيقوناته؟ لقد ظل هذا البلد، في الغالب، يتجاوز ذلك، فشكّل لغزًا ثابتًا ودائرة سحر كبيرة مارسها على العرب منذ أن وطئت أقدام البرتغاليين أرضه أول مرة في القرن السادس عشر.
وهو مغلق، وهو مفتوح، لم يكفّ هذا الأرخبيل عن الإثارة، مما دفع المهتمين بشؤونه إلى التساؤل: كيف نجح هذا البلد الذي ما زال فيوداليًا (إقطاعيًا)، في أقلّ من ثلاثين سنة، في أن يصبح حديثًا بالقدر الكافي، بحيث طمح إلى التصدّي للصين، القوة العظمى المجاورة، والسير على خطى الإمبراطورية الروسية؟ ولماذا بقي غارقًا في نظام ديكتاتوري روحاني قائم على صورة الإمبراطور؟ كيف أصبحت اللغة اليابانية لغة أدب عظيم؟ لماذا يحتلّ العنف، والجنون، والموت، مكانة كبيرة في متخيّله؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، دعت مجلة "لوبوان" في افتتاحيتها للعدد، إلى العودة إلى النصوص اليابانية الكلاسيكية الأساسية المكتوبة بأقلام يابانية، ربما تساعد على فهم حقيقة هذا الأرخبيل المحيّر. وهي نصوص من الهايكو، والرواية، ومسرح الـ"نو"، والفلسفة.
 خشبة مسرح النو 


















فهم اليابان من خلال الأدب
أكدت كاترين غوليو أن فهم العقل الياباني يتمّ من خلال قراءة نصوصه الأدبية الكبرى. وهذا مشروع طموح ومدهش يبرّر كل جسارة. ورغم ذلك، فإن الطرق المتشعّبة كثيرة. أولا، لأن الأدب الياباني غني جدًّا. فمنذ القرن الثامن وهذا الأرخبيل يتغذّى من الشعر، واليوميات (الـ"نيكّي")، والمقالات الغنائية، والمسرحيات، التي كان يمكن أن تُكتب اليوم بغزارة، ما دامت تحتفظ بحداثتها في استعمال اللغة، وطريقة البناء أو الدقة النفسية (السيكولوجية) لشخصياتها. وأغلبها كُتب منذ حوالي ألف عام، لكن بفاتورة أكثر حداثة مما يُكتب اليوم في الغرب.


سحر: الكلمة ليست قوية، فالأدب الياباني يحيّر بجرأته، وبقدرته على قول الجمال والقبح، ومزج الواقع بالحلم مثلما يحدث في "حكايات المطر والقمر" لأكيناري أويدا.. إنه، باختصار، عالم أدبي استثنائي بنوعيته وتنوعه. لكن هذه الوفرة في حدّ ذاتها تشكّل خطرًا، لأننا حين نروم تقديم النصوص الكبرى لبلد ما، او لحضارة ما، يجب الاختيار مع وجود خطر ارتكاب الخطأ. وقد أشار إلى ذلك ميكائيل لوكن في كتابه "اليابان الإغريقي" (غاليمار، 2019)، حين أكد أن الغرب لا يرى في اليابان إلا ما يوافق استيهاماته الخاصّة: رقص الـ"غايشا" والإيروتيكية في رسومات تيار "العالم الطافي"، المانجا وأشجار الكرز المزهرة. لذلك أصبح شيئًا ملحًا على كل القراء، في كل العالم، معرفة الصورة الحقيقية الممكنة لليابان، وما يكوّن حقيقة العقل الياباني، وذلك أيضًا مُتاحٌ من خلال اكتشاف كُتّاب اليابان الكبار في إمبراطورية الشمس المشرقة، رغم أنهم غير معروفين لدى القراء في الخارج. هكذا يجب قراءة مسرحيات شيكاماتسو، التي أُلّفت أساسًا لمسرح العرائس، لكن تعقيدها وخلاصاتها المشهدية لا تقلّ أهمية عن شكسبير أو موليير.

موراساكي شيكيبو في مناقشة مع الشعراء (مكتبة الكونغرس قسم المطبوعات والصُّور تحت الهوية الرقمية jpd.02188)


















الحرب، الانتحار، الموت، الأشباح، والحب أيضًا.. كلها حاضرة في صفحات هذا الأدب، والطريقة التي يتناولها بها اليابانيون لا تنقصها الإثارة. كما أن النساء يلعبن دورًا مدهشًا، كما هو دورهن في المجتمع الياباني، والمحصور في دور نساء البيت، نساء قدريات، أو نساء الرغبة. كما أنهن أيضًا، وهذا اكتشاف رائع، لعبن دورًا كبيرًا في تاريخ الأدب. هنا يقف نص "ما قاله جينجي" للكاتبة موراساكي شيكيبو (978 ق.م)، الراهبة التي سردت في كتابها تجربة ألف حبّ لدون جوان حزين. هناك أيضًا "مذكرات الوسادة"، وهي منسوبة لامرأة من القرن الحادي عشر تدعى سي شوناغون. ولأن هؤلاء النساء كُنّ ممنوعات من استعمال الأحرف الصينية الخاصة بالرجال فقط، فقد اخترعن بواسطة الأحرف اليابانية، وهكذا ابتكرن لغة مكتوبة في وقت كان فيه بلدهن تحت السيطرة الثقافية الصينية. وذلك يبرز ذكاء ومهارة اليابانيين في إحراز التقدّم، عن طريق أخذ ما هو أفضل عند من هم أكثر قوّة منهم. بحيث استفادوا من العقل الكونفوشيوسي، ومن الثقافة والفن الصينيين. فقد تمكنوا في عهد الميجي من الإبحار في العلوم والفلسفة الغربية، كي يصنعوا منها، فيما بعد، أدوات للابتكار مختلفة، وأسلحة من نوع جديد لاكتشاف العالم بطريقة أفضل. هكذا فهم فلاسفة مدرسة "كيوطو"، التي استفادت من الفيزياء الكمية، العالم من أجل إعادة خلقه.
لكن أيضًا العنف، القسوة، الخنوع، بل التجاوز، كلها مفاهيم وقضايا تخترق نصوص هذا الأدب. إن هذه المشاعر حاضرة عند جونيتشيرو تانيزاكي (1886-1965)، يوكيو ميشيما (1925-1970)، وبكل تأكيد عند هاروكي موراكامي (1949-...)، صاحب رائعة "كافكا على الشاطئ"، والذي يعتبر ملك الروايات الأكثر مبيعًا في اليابان. هل هذا ما قصدته مجلة "لوبوان" من خلال ملفها "العقل الياباني"؟ إذا كان كذلك، فهو عقل شديد التعقيد والتركيب، عقل دقيق، يضطرنا إلى "خفض النظر"، ومراجعة يقينياتنا. وهذا في حدّ ذاته، مبرّر لاكتشاف الأدب الياباني، حديثه وقديمه، وفي كل الأجناس.



"نارا" هي أثينا الأدب الياباني

"نيهون شوكي" ("حوليات اليابان") وقد كُتب للإمبراطورة "جينشو" سنة 720 


















"نارا" مدينة يابانية تقع في منطقة "كانساي"، قريبة من العاصمة طوكيو. كانت هي عاصمة البلاد بين 710 و784. اعتبرها المتخصص في الأدب الياباني، الفرنسي ميشيل فيار- بارون، فضاء ولادة وانطلاق الأدب الياباني. والنصوص القديمة المتوفرة هما نصّان يرسمان تاريخ البلاد منذ بدايات العالم، ويحتويان على حكايات وأغان يشهدان على وجود أدب في لحظة ولادته. النص الأول هو "كوجيكي" كُتب باللغة اليابانية للإمبراطورة "جينماي" سنة 712؛ والثاني "نيهون شوكي" ("حوليات اليابان")، وقد كُتب للإمبراطورة "جينشو" سنة 720، وهو مكتوب باللغة الصينية، التي كانت آنذاك تستعمل في اليابان كلغة إدارية، ومن أجل المبادلات مع دول الجوار، وأيضًا في كتابة الأعمال الفكرية، وهو نفس الاستعمال الذي كان للغة اللاتينية في الغرب. هكذا، ومنذ البدايات، كان تأليف النصوص يتمُّ باللغتين اليابانية والصينية بشكل متوازِ. وطيلة زمن، كان تأليف الأدب بالصينية، شعرًا ونثرًا، محصورًا على الرجال، أما النساء فكن يكتبن باليابانية. وفي الواقع، إن النصوص التي نعتبرها اليوم أعمالًا خالدة في هذا الأدب كلها مكتوبة باليابانية. العمل الأول هو "مان يو- شو"، وهو مجموعة من الأشعار القديمة. وهذه الأنطولوجيا، التي تمّ الانتهاء منها بدون شك حوالي 760، تحتوي على 4500 قصيدة، تضمّ 4200 "قصيدة قصيرة" (تانكا) تتكون من 31 مقطعًا. وهذا النوع الشعري، الذي يُسمّى أيضًا "قصيدة يابانية" (واكا)، بقي مستمرًا إلى حدود القرن الخامس عشر باعتباره النوع الشعري الأكثر نُبلًا، إذا شئنا استعمال كلمات مؤرخي الأدب.


أوّل أنطولوجيا شعرية يابانية



"مان يو- شو"، أو "أنطولوجيا الألف ورقة" هي أول تراث شعري ياباني، وهي بذلك تعطي نموذجًا لكل الأنطولوجيات اللاحقة. وقد سجل دارسو هذا الإرث العظيم أنه يتميز بحرية كبيرة على مستوى الشكل، وبفخامة مثيرة على مستوى الموضوعات، إلى درجة أن اليابانيين لا يعتبرونها إنتاجًا أدبيًا بل عالما متكاملًا قائم الذات، إذ يرون فيها أصداء عالم الأصول. قصائد أسطورية، قصائد طقوسية، أغاني حبّ، مراث جنائزية، قصائد للشرب، أغاني المسافرين أو حراس الحدود.. إن نصوص "مختارات الألف ورقة" تشكّل سعادة للسانيين، ولمؤرخي الأدب، والأنثروبولوجيين والمتخصصين في الديانات القديمة.
يرى المتخصص في الفكر الياباني القديم ألان روشيه أن هذه المراثي الجنائزية هي "قصيدة-أسطورة"، تحكي مأساة حب مستحيل، وتوظف بكثافة كل الإمكانيات السردية التي للشكل الشعري الطويل "شوكا". وأهميتها كامنة أيضًا في كونها تخدعنا بساطتها. ويشير أ. روشيه إلى كون مقولة الانتحار حاضرة بقوة فيها، وتحديدًا الانتحار الجماعي الذي كثيرًا ما احتفى به الأدب الياباني طيلة تاريخه. لكن الأنثروبولوجيين يقترحون علينا قراءة أكثر غنى بنبشهم في بعد مختبئ داخل النص، وبنقل السؤال إلى حقل سابق عن الكونفوشيوسية وإرباكات الفضيلة. البطلة تم وصفها في القصيدة باعتبارها تنتمي إلى فئة الفتيات المكرسات لخدمة الألوهية.


شكسبير الياباني

مونزاومون شيكاماتسو  


















تكاد المعلومات عن المؤلّف المسرحي الياباني مونزاومون شيكاماتسو (1653-1725) تكون مفقودة. لكنه اشتهر بكونه مؤلف مسرحية "أغنية ساتسوما" سنة 1704. اسمه الحقيقي هو سيجوموري نوبيموري، ومنحته مجلة "لوبوان"، عن جدارة، لقب "شكسبير اليابان". انحدر من أسرة ساموراي صغيرة، وكرس كل حياته لنوعين من الفرجة الأكثر فرجة، الـ"جوريري"، وهو مسرح عرائس، والـ"كابيكي" وهو مسرح يجتمع فيه تقلّب الوضعيات ووفرة المشاهد المعقّدة. والنوعان معًا تقريبًا يشتركان نفس السجل ويتوجهان لنفس الجمهور، للخادمة الأمية كما للبورجوازي المتعلّم. وقد ضمّت مدينتا "كيوطو" و"أوساكا"، الحاضرتان الثقافيتان الرئيسيتان، العديد من القاعات الكبرى المتخصّصة في كلا النوعين المسرحيين، بسعة قد تصل إلى 1500 متفرّج.
يُنسب لشيكاماتسو 150 عرضًا من مسرح العرائس، وما يفوق الثلاثين في مسرح "كابيكي"، لم تُحفظ منها إلا سبع عشرة مسرحية فقط. وكان يمكن للمسرحية الواحدة أن تستغرق يومًا بكامله. ويؤكد دارسو هذا المسرحي الكبير أنه كان يستلهم أحداث وشخصيات عصره، كما كان يستوحي نصوصه، من المسرح الكلاسيكي المكتوب باللغتين اليابانية والصينية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.