}

"الساعة الزرقاء".. حين يرث الابن وزر جريمة الأب

هنريك نيلسون 11 أكتوبر 2021
ترجمات "الساعة الزرقاء".. حين يرث الابن وزر جريمة الأب
ألونسو كويتو يحمل كتابه "كلمات من الجانب الآخر"
الأسرار التي تكشفت للابن بعد موت أبيه تسببت في انهيار حياته بالكامل. الأب الذي كان ضابطًا برتبة رفيعة خلال الحرب الأهلية في البيرو، بدا أنه كان مسؤولًا عن اعتداءات ممنهجة ضد السكان المدنيين. هذه هي نقطة الانطلاق في رواية الكاتب البيروفي، ألونسو كويتو، المعنونة بـ"الساعة الزرقاء"، التي نالت كثيرًا من ثناء النقّاد، وهي واحدة من أكثر الكتب قراءة في البيرو في السنوات الأخيرة.
في هذا المقال، يصف الكاتب السويدي، هنريك نيلسون، الرواية، بأنها تجعل الأرض تميد تحت قدمي القارئ، لما تضمنته من عناصر مأساوية. هي قراءة مخلخِلة، حيث يطرح كويتو أسئلة من قبيل: كيف يمكن أن تتم المصالحة؟ هل يمكن للابن أن يتحمل وزر جريمة الأب؟

                                                                       (باسم المرعبي)


بين يوسا وكويتو

لا يمكن لي أن أنسى بيدريتو تينوكو في رواية ماريو فارغاس يوسا "الموت في جبال الأنديز" (1993)، التي تقع أحداثها في زاوية من منطقة الأنديز، حيث طوّر هذا الصبي علاقة خاصة مع حيوان اللاما، الذي كان أقرب إليه من البشر. حين يأتي مقاتلو "الدرب المضيء" إلى القرية يأمرونه بإرشادهم إلى مكان تواجد الحيوانات، وبما أنهم يعتبرون المحمية التي أقامتها الحكومة اختراعًا إمبرياليًا، فإنهم يفتحون النار على القطيع بعد استدراجه من مرابضه. عند ذاك يقع بيدريتو منهارًا على الأرض، محاطًا بالحيوانات الميتة. بعد وقت قصير من ذلك، تأتي قوة من الجانب المضاد، ويكون هدفًا لممارساتها العنفية، أيضًا، حين يعمد أفراد الجيش عند وصولهم إلى المنطقة إلى تعذيب بيدريتو للحصول على معلومات، من دون أن يفهموا أنه أخرس.




من الصعب أن لا يُنظر إلى بيدريتو تينوكو الأعزل، من منظور رمزي لمصير الصراع الذي عصف بالبيرو للفترة من 1980 حتى العام 2000. لقد قدّرت لجنة الحقيقة في البلاد عدد القتلى والمختفين بحوالي سبعين ألف شخص خلال الفترة المذكورة نتيجة قيام كلا الطرفين، الحكومة ورجال العصابات، بانتهاكات خطيرة. وما يمكن ملاحظته هنا هو أنّ ما يوحّد القسم الرئيس من الضحايا شيء مشترك: هو تشابههم مع بيدريتو تينوكو في الانتماء إلى الطبقة الفقيرة من السكان. هذا الخذلان المزدوج كان هو الثيمة المتكررة في النثر البيروفي في السنوات الأخيرة التي تم التصدي فيها للنزاع المعاصر في البلاد. ليس استثناءً أن يكون الأمر متعلقًا بكشف الصلات المعقدة بين الماضي العنيف والحاضر الذي يبدو سلميًا، هذه الصلات التي غالبًا ما يكون لها تداعيات في المجال الحميمي والحب والحياة العائلية للناجين. في الأجيال اللاحقة، يبرز كل من "سانتياغو رونكاغليولو (1975)، و"دانييل ألاركون (1977) في تناولهم لهذا الموضوع، وهما ينتميان إلى الكتاب الطليعيين في البيرو.
في هذا السياق، تحتل رواية الكاتب البيروفي، ألونسو كويتو "الساعة الزرقاء" (2005) مكانة خاصة. منذ أن اقتنيت طبعة متواضعة وغير مرخّصة من الرواية، من وسط العاصمة ليما، منذ حوالي عشر سنوات، وهي تشغل حيّزًا خاصًا في قلبي وفي مكتبتي. لست وحدي من يعطي هذه المنزلة الرفيعة للرواية، فهي واحدة من الكتب الأكثر قراءة في البيرو بعد مطلع الألفية الجديدة، كما تُرجمت إلى لغات عديدة مختلفة. ومن بين الأدباء الذين كتبوا مقيّمين الرواية نجد كلًا من حاملَي جائزة نوبل في الأدب: ماريو فارغاس يوسا، و ج. م. كويتزي. كما حصلت أيضًا على جائزة مرموقة هي جائزة هيرالدا الإسبانية للأدب المكتوب بالإسبانية لعام 2005.
تشكّل "الساعة الزرقاء" الجزء الأول من ثلاثية بعنوان ذي معنيَين:"إنقاذ أو تحرير"، وتشتمل على جزأين آخرين، هما: "المسافرون" (2015)، و"مسافر الرياح" (2016). وهي جميعًا تصف إرث الفترة السوداء التي افتتحتها "الدرب المضيء" في أول محاولة قتل قبل أربعين عامًا، حيث أرادت الحركة إقامة "سيف رابع لعالم شيوعي"، متابَعةً لماركس، لينين وماو، من خلال زعيمها أبيمايل غوزمان، الذي اتّخذت عبادة الشخصية من حوله أبعادًا شاذة. وفي استناد عنف "الدرب المضيء" البدائي، جزئيًا، إلى شكوك الزعيم بالأسلحة الحديثة، ما يُفسّر تنفيذ العديد من المجازر، بدلًا عنها، بالسواطير والحجارة. حدث رد الفعل العشوائي للجيش البيروفي على التمرد في ظل حكومات، هي رسميًا ديمقراطية، على عكس قمع الدولة في دكتاتوريات الأرجنتين وشيلي المجاورة. في "الساعة الزرقاء" يطلق الراوي على نفسه اسم "أدريان أورماش"، لكنه يعترف بأنه يكتب قصته تحت اسم مختلق. هو محامٍ ناجح عاش حياة الطبقة العليا المريحة مع عائلته في القسم الثري من العاصمة ليما، غير أن كل شيء تغير قبل سنوات، حين عرف أن والده المتوفى، وهو ضابط برتبة رفيعة، كان مسؤولًا عن اعتداءات ممنهجة ضد السكان المدنيين، تمثلت في التعذيب، الاغتصابات، الإعدامات العشوائية، خلال الصراع ضد الإرهاب المحلي في إقليم أياكوتشو. يمكن القول، أيضًا، إن هذا الجزء من بيرو يحتل مكانة خاصة في تاريخ البلاد السياسي، حيث هنا سيطر ما يُشبه النظام الإقطاعي، طويلًا، وقد حوّل الفقر المنطقة، إلى برميل بارود، خلال قرون. في أياكوتشو، حيث حصل غوزمان على وظيفة في جامعة يسارية خلال الستينيات، لتكون هذه بمثابة قاعدة للنمو المبكّر للحركة. مع الوقت، أصبحت هذه المنطقة واحدة من أكثر المناطق تضررًا خلال النزاع المسلح. عندما علم أدريان بالصفحات المجهولة من حياة والده انهار عالمه ووجوده المنظّم، جميعًا. تناهى إلى علمه، أيضًا، أنّ أباه قد وقع في غرام واحدة من النساء المعتقلات بتهمة التعاون مع الثوار.



بحثًا عن المرأة

غلاف رواية "" الساعة الزرقاء" للكاتب البيروفي ألونسو كويتو


كان اسمها مريام، وقد نجحت في الفرار من السجن. يستعيد أدريان من الذاكرة ما قاله له والده وهوعلى فراش الموت، أنه قد عرف ذات مرة امرأة شابة من مدينة "هوانتا"، وعليه أن يبحث عنها. إنّ متابعة انهيار أدريان أورماش الشخصي، بينما هو يحاول النزول إلى القاع مع أسرار أبيه، تشكل تجربة قراءة غير عادية تتضح مع كل صفحة من صفحات الرواية بنثرها القاتم والمستفز. خلال بحثه المحموم، يتوصل أدريان إلى أن مريام لا تزال على قيد الحياة. ويقوده مسار البحث إلى أجزاء من ليما كانت مجهولة لديه سابقًا. بنظرة ثاقبة يدرك الفروق المروّعة بين منطقة سكنه الخاص "سان إيزيدور" والمناطق الفقيرة، حيث يستقر المهاجرون من الأنديز. في النهاية، يتضح لأدريان أن المرأة تدير صالونًا للحلاقة تحت اسم "لا أزميرالدا دي لوس آنديز" (زمرد جبال الأنديز). يذهب إلى حيث تكون هي، وينتظر دوره كأي زبون آخر، ثم يجلس على الكرسي استعدادًا للحلاقة. هذا هو اللقاء الأول بين أدريان وميريام، وكلاهما ناجٍ بطريقته الخاصة، وقد كان واحدًا من ذرى رواية كويتو، التي ستشهد في خضم أحداثها تدخل كل منهما في حياة الآخر بطريقة لا أريد أن أشرحها بالتفصيل هنا، لأن في ذلك استباقًا للتطورات المثيرة للغاية لأحداث الرواية.




تنطوي "الساعة الزرقاء" على عناصر مأساوية ما يجعل الأرض تميد، أكثر من مرة، تحت قدمي القارئ. أما لناحية بناء الحبكة وعنصر المفاجأة، بدت الرواية مثالية التقنية، إضافة الى ذلك يحوز كويتو المقدرة على كتابة حوار ليس فقط يبيّن مدى الاختلاف بين الشخصيات، ويدفع بالحكاية إلى الأمام، وإنما يضيء بفعالية علاقات القوة والفروق الاجتماعية.
منذ فترة ليست بالقصيرة، تفككت صفحات الرواية، وانفصلت عن الغلاف في هذه الطبعة المقرصنة للساعة الزرقاء التي اشتريتها ذات يوم من أحد شوارع ليما. وهو ما يشبه تفسيرًا لا إراديًا لتفكك البطل نفسه. لكن من غير العدل إبراز الجوانب المقلقة والمزعزِعة في هذه الرواية، فقط. إذ يكمن، في الواقع، جزء من أهميتها في حقيقة أنها قادرة أيضًا على رسم ملامح الأمل. يخضع أدريان أورماش لتطور داخلي من خلال تحمّل الإرث الثقيل للأب، على وجه التحديد، ليكون شيئًا خاصًا به، ليغيّره. وقد بدا أنّ المصالحة التي تلوح في الأفق، في النهاية، تتوافق مع فرص المجتمع البيروفي للتطلع إلى الأمام. اُفتتحت الرواية باقتباس من الكاتب الإسباني خافيير سيركاس: "ربما أنت مسؤول ليس فقط عما تفعله، ولكن أيضًا عما تراه وتسمعه وتقرأه". وإذا كان ذلك صعبًا، فإنّ الخلاص يكون أيضًا في تحمل هكذا مسؤولية. يمكن القول، أخيرًا، إنّ ألونسو كويتو كتب رواية تفوق بالإحساس والإتقان معظم ما كُتب في أميركا اللاتينية في السنوات الأخيرة.



هوامش:
*ألونسو كويتو Cueto Alonso: كاتب وصحافي وأستاذ جامعي، ولد في ليما عام 1954. يزاول الكتابة منذ حوالي أربعة عقود، أنتج خلالها كثيرًا من الأعمال التي توزعت بين القصة والرواية والمسرحية والسيرة، فضلًا عن المقالات والدراسات الأُخرى. كتابه القصصي الأول صدر عام 1983. نالت أعماله العديد من الجوائز، وترجمت إلى أكثر من لغة، وحوّلت بعض رواياته إلى أفلام. تُعد روايته "الساعة الزرقاء" من أفضل وأشهر أعماله الأدبية.
*هنريك نيلسون Nilsson Henrik: كاتب وناقد ومترجم، ولد في مالمو عام 1971، وأقام على فترات خارج السويد. مهتم بالتعريف بالأدب العالمي، وفي مقدمة ذلك الأدب المكتوب بالبرتغالية والإسبانية. له العديد من الترجمات والمقالات والمراجعات النقدية بهذا الخصوص. كتابه الأول على صعيد النثر صدر عام 2013 بعنوان "الليالي، فيرونيكا"، وهو مجموعة قصص.

المصدر: المجلة الأدبية السويدية "كرفان" Karavan العدد: 4 لسنة 2020. والمقال يُنشر بإذن خاص من الكاتب.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.