}

ترميم منحوتة ميتة لمايكل أنجلو.. في تأمل الموت

 

في أواخر أيامه بدأ الفنان مايكل أنجلو (1475-1564) العمل على تمثال من الرخام لوضعه عند قبره. لم يكن الأمر عاديًا بالنسبة إليه، فقد وجد صعوبة في ذلك وأوقف العمل عليه ثم أهمله وحاول إخفاءه. بعد خمسة قرون من الزمن اهتم متحف "أوبرا ديل دومو" Opera del Duomo Museum بترميم هذا التمثال وعهد بذلك إلى أهم المرمّمين في إيطاليا، وقد تولت مشروع الترميم باولا روزا وإيمانويلا بيريتي اللتان تمكنتا بمساعدة فريق واسع من المرمّمين من أن يعيدوا الحياة إلى التمثال "بييتا" Pietà. ويسلّط ترميم هذه المنحوتة الضوء على سيكولوجية سيد عصر النهضة في شيخوخته، فقد بدا عذاب مايكل أنجلو بين التشققات التي حفظت وجهه لنا عن ظهر قلب.

 

كان مايكل أنجلو عجوزًا عندما بدأ العمل على تمثال تصوّره الفنان مذبحًا لقبره الخاص، ويُظهر التمثال "بييتا" المنحوت من كتلة واحدة من الرخام جسد يسوع مدعومًا بمريم العذراء والقدّيسة مريم المجدلية، بينما يظهر الفريسي نيقوديموس الذي تم حفره كصورة ذاتية لوجه الفنان المسنّ.

عمل مايكل أنجلو على هذا المشروع بين عامي 1547 و1555، عندما كان في السبعينات من عمره، وكان بالنسبة إليه مشروعًا صعبًا منذ البداية. كتب صديقه وكاتب سيرته الذاتية، جورجيو فاساري، أن الكتلة الرخامية فيها عيوب ومليئة بالشوائب وأن "الإزميل غالبًا ما كان يصطدم بالشرر". أصيب مايكل أنجلو بالإحباط، وتخلّى في النهاية عن العمل، وكتب فاساري أن مايكل أنجلو حاول تدميره. لكن التمثال نجا.. وتم الاحتفال بـ "بييتا" منذ أسبوع أمام العالم بعد أول ترميم أساسي له منذ ما يقرب من 470 عامًا.

وقال المونسنيور تيموثي فيردون، مدير متحف "أوبرا ديل دومو" (موطن التمثال على مدار الأربعين عامًا الماضية): "هذا هو العمل الأكثر خصوصية لمايكل أنجلو، ليس فقط لأنه يتضمّن صورته الذاتية وكان مقدّرًا أن يوضع على قبره، ولكن لأنه يعبّر عن علاقة مايكل أنجلو المعذّبة بالرخام".

وقد كشف تحليل الكتلة الرخامية التي صُنع منها تمثال "بييتا" أن الفنان لم يأتِ به من "كارارا" Carrara في توسكانا، كما كان مفترضًا، حيث المقلع الحجري الذي كان مايكل أنجلو يستخدم منه مادته الرخامية، بل صنع مايكل أنجلو التمثال من رخام محاجر سيرافيزا Seravezza على بُعد عشرة أميال من مكان إقامته.

باولا روزا وإيمانويلا بيريتي خلال ترميم المنحوتة 



اكتشف المرمّمون عن كثب سبب ترك مايكل أنجلو التمثال غير مكتملٍ. الكتلة الرخامية فيها عيوب ولونها غير موحّد، كما أنها تحتوي على آثار من "البيريت"، وهو من معادن الكبريتيدات التي تتفاعل مع أي معدن آخر، وهذا ما يفسّر سبب تطاير الشرر عندما كان مايكل أنجلو يشتغل على التمثال. كشفت الكتلة الرخامية أيضًا عن كسور وشقوق دقيقة لم تكن مرئية بالضرورة عندما بدأ مايكل أنجلو في النحت، ولكنها تحطّمت بسهولة عند ضربها بالإزميل. ربما فاجأ أحد هذه الكسور مايكل أنجلو أثناء قيامه بنحت الذراع الأيسر للمسيح والذراع الأيسر لمريم العذراء. عيب لا يمكن التغلّب عليه لدرجة أن مايكل أنجلو ربما أجبر على رمي الإزميل، كما حصل. "حاول مواجهة الكسور والتغلّب عليها، لكنه لم يكن قادرًا على فعل الكثير"، تعلّق باولا روزا، رئيسة مشروع الترميم.

بعد أن قرّر التخلّي عنه، أهدى مايكل أنجلو التمثال إلى خادمه أنطونيو دا كاستيلدورانت، الذي عهد به إلى تيبيريو كالكاني، أحد تلاميذ مايكل أنجلو والمتعاون معه في إحدى فترات حياته. أعاد كالكاني صياغة التمثال إلى الحالة شبه النهائية التي هو عليها الآن.

حوالي عام 1560، تم بيع العمل للمصرفي فرانشيسكو بانديني، وأصبح العمل معروفًا باسم"بانديني بييتا"  Bandini Pietà، وقد شق التمثال طريقه من روما إلى فلورنسا، حيث تم تركيبه خلف المذبح الرئيسي لكاتدرائية المدينة، تحت الشمعدانات الكبيرة التي تركت آثارها من شمعها عليه.

لكن قالب الجبس المأخوذ من التمثال عام 1882 هو الذي غيّره بشكل كبير. فقد تم تنظيف التمثال بشكل سيئ بعد أخذ الجبس، ممّا تركه أبيض وجافًا. قرّر حراس الكاتدرائية في ذلك الوقت وضع طبقة من الشمع بلون الكهرمان عليه، وهو ما كان يتم تطبيقه على التمثال على مدى عقود، خاصة في المساحات الأكثر تعرّضًا. تقادم عمر الشمع والجص ومواد أخرى (تُستخدم لربط بعض القطع التي تحطّمت) تأكسدت مع بعضها البعض، بحيث بدا التمثال ملطخًا ببقع.

بدأت عملية الترميم الحالية في عام 2019، وتم تنفيذها في مختبر ترميم مفتوح في متحف أوبرا ديل دومو، المؤسسة التي تشرف على صيانة كاتدرائية فلورنسا ومبان أخرى على مدار 700 عام. هناك، كان يمكن للزوار مشاهدة باولا روزا وفريقها يعملون على النحت (عندما لم يكن المتحف مغلقًا بسبب فيروس كورونا).





"إن إزالة طبقات الشمع والأوساخ أعادت فكرة مايكل أنجلو الأصلية عن التمثال"، قالت روزا في مقابلة مضيفة أنه كان "عملًا شديد الدقة". وقد قامت روزا بترميم العديد من منحوتات مايكل أنجلو في فلورنسا، بما في ذلك "تمثال داوود" David الشهير في معرض "أكاديميا"، بالإضافة إلى ما يسمى "بيتي توندو" Pitti Tondo وتمثال نصفي لـ "بروتوس" Brutus، وكلاهما في متحف "بارجيلو" بالمدينة.

"في المرة الأولى التي وضعتُ فيها يدي على مايكل أنجلو، كان عمري 40 عامًا، والآن أبلغ من العمر 62 عامًا" قالت روزا بصوت تتصاعد منه العاطفة، "إنه مؤثر للغاية، خاص للغاية، وما زلت لا أشعر أنني أعرفه.. ببضع ضربات بمشرطه، يمكنه القيام بأشياء مذهلة".

يضم متحف "أوبرا ديل دومو" واحدة من أفضل مجموعات منحوتات أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة في إيطاليا، وقد تم ترميم حوالي 600 تمثال عندما تم إغلاق المتحف وتجديده، وأعيد افتتاحه في عام 2015.

"لقد أشركنا بشكل أساسي كل مرمّم جيد السمعة في وسط إيطاليا على مدى عامين للقيام بهذه الحرب الخاطفة لترميم تماثيلنا". صرّح فيردون، مدير المتحف، في مؤتمر إعلامي. وقال أنطونيو ناتالي، عضو مجلس إدارة أوبرا ديل دومو، في مقابلة معه، إنه بينما كان تمثال مايكل أنجلو الأكثر شهرة، والذي تم إنشاؤه لكاتدرائية القديس بطرس في روما عندما كان الفنان يبلغ من العمر 24 عامًا، فإن "بييتا" الذي تم ترميمه حديثًا هو "الأكثر تأثيرًا من أعمال مايكل أنجلو جميعًا".

تمثال "بييتا" هو أحد أكثر أعمال مايكل أنجلو المعذبة. عندما كان يقوم بنحته، كان يتأمل في موته، حتى عندما كان يشعر بالقلق من أن الرخام - وهي مادة أتقنها- لن تتوافق مع إزميله.

في سيرته الذاتية عن مايكل أنجلو، كتب فاساري أنه زار الفنان في وقت متأخر من إحدى الليالي ووجده يعمل على نحت التمثال، "يحاول إجراء تغييرات" على إحدى رجلي تمثال المسيح. عندما رأى مايكل أنجلو فاساري يراقبه ترك الفانوس يسقط من يده، تاركًا كليهما في الظلام، وذلك بغية منع فاساري من رؤية التمثال. ثم قال مايكل أنجلو لفاساري: "أنا كبير في السن لدرجة أني أشعر بالموت غالبًا ما يسحبني من ردائي للذهاب معه، وذات يوم، تمامًا مثل هذا الفانوس، سوف يسقط جسدي، وينطفئ ضوء الحياة!

 

آثار الشمع التي أزيلت عن التمثال 

لحظة الإعلان عن الانتهاء من الترميم  



رابط المقال الأصلي:

https://www.nytimes.com/2021/09/27/arts/design/michelangelo-bandini-pieta.html

 

إليزابيتا بوفوليدو Elisabetta Povoledo: كاتبة من إيطاليا، نشأت في إيطاليا وكندا، وحصلت على درجة الماجستير في تاريخ الفن من جامعة "مكغيل" في مونتريال، وتخصصت في فن الباروك الروماني من إيطاليا. تكتب عن إيطاليا في صحيفة "نيويورك تايمز" والمنصات التابعة لها منذ عام 1992، وقد غطت الاجتماعات البابوية السرية ومحاكمات الفاتيكان وغيرها من الشؤون والقضايا السياسية والثقافية المهمة في إيطاليا، كما راقبت عن كثب شدّ الحبل بين المتاحف الأميركية وسلطات الثقافة الإيطالية حول عودة القطع الأثرية غير المشروعة، وتواصل الكتابة عن سرقة الفن.

ترجمة: دارين حوماني.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.