}

ما حقيقة الحيوان؟

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 16 أكتوبر 2021
تغطيات ما حقيقة الحيوان؟
الفرنسي دي لافونتين أشهر من كتب القصص الخرافية (Getty)

"أستعمل الحيوانات لتعليم الإنسان"

جان دي لافونتين

ظل الإنسان دومًا ذلك الهدف الشقي لكوارث ومصائب الدهر. ظل موضوعًا لدراسات وأبحاث علمية تقارنه بأنواع حيوانية من حيث الشكل، والطباع، والسلوك، والذكاء. لذلك ظل الفلاسفة، منذ ليل الأزمنة، والأنثروبولوجيون في الأزمنة الحديثة، يصفونه بـ"الحيوان العاقل". لكن العلماء اليوم، وبعد تراكم المواقف والآراء التي تشبه الإنسان بالحيوان، خصوصًا تلك الصادرة عن علماء يدرسون مختلف الأنواع الحيوانية، أصبحوا يعبرون عن رفضهم لهذه المنهجية، فليس كل من درس القردة طيلة عشرين سنة مؤهل لدراسة الإنسان. وثمة دراسة قديمة (نسبيًا) لكلود ليفي شتراوس تحمل عنوان "دروس الحكمة من جنون البقر"، ذهبت مباشرة إلى ضرورة استخلاص الدروس/ الحكمة من هذه الأمراض.

بعد ظهور مرض "جنون البقر"، وجَّه كلود ليفي شتراوس إلى ضرورة استخلاص الدروس/ الحكمة من هذه الأمراض (3/ 11/ 1997/Getty)





الإنسان مريض بالحيوانات
نشر فريدريك كيك، الباحث الفرنسي في مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية، بحثًا تشخيصيًا تحت عنوان "الناس مرضى بالحيوانات"، ضمن عدد خاص بمجلة "كريتيك" حول محور "هل يجب تحرير الحيوانات؟". وأعاد نشر البحث نفسه، مع تغييرات في النتائج، في كتاب علمي جماعي، تحت عنوان مغاير: "الأمراض الحيوانية تكشف عن تضامن من أجل الحياة". وقد قدم تشخيصًا للوضع الحيواني والإنساني الحالي. فمنذ عشرين سنة، أصبحت الحيوانات حاضرة ومرئية في الفضاء العام بقدرتها على جعل الإنسان مريضًا. فقائمة الأزمات الصحية التي تتابعت في فرنسا، مثلًا، جد بليغة: جنون البقر في 1996، إنفلونزا الطيور في 2005، إنفلونزا الخنازير في 2009.. وبمناسبة كل أزمة من هذه الأزمات، نكتشف من جديد أن الحيوانات تشبهنا ما دامت تعاني مثلنا من الأمراض نفسها. فالأبقار تصبح "آكلة للحوم" حين أكلت لحوم خرفان مصابة بالـ"رُجاف". كما تحولت الطيور إلى "قنبلة حاملة للفيروس"، وهي تعبر سماء أوروبا، بين آسيا وأفريقيا. والخنازير جعلت الإنسان يعطس حين أقاموا معها داخل محلات للتربية الصناعية في أميركا قرب الحدود مع قرية مكسيكية. وبذلك بدأ الإنسان داخل مجتمعاته يضع حواجز بين الناس والحيوانات، إلى أن كادت الحيوانات تختفي.



الإنسان والحيوان.. المصير المشترك

جاك دريدا: ماذا يحدث حين أقف عاريًا أمام قط؟ (25/ 1/ 1988/Getty)




ماذا يحدث حين أقف عاريًا أمام قط؟ هذا سؤال غريبٌ طرحه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. هذه التجربة العادية في الظاهر، جعل منها نقطة انطلاق نحو تأمل عجز الإنسان ومحدوديته. كما أنه سؤال يمكن استغلاله لإبراز عماء التقليد الميتافيزيقي للإنسان ومركزيته الذاتية، أي تفوقه عن باقي الكائنات.
لزمن طويل، كرس الفكر الإنساني تحديد الحيوان بما ينقصه ويفتقر إليه: العقل، اللاوعي، الحياء، الضحك... واليوم أيضًا، مازال خيالنا خاضعًا للتصور الديكارتي لـ"الحيوان ـ الآلة"، العاجز عن امتلاك اللغة، المجرد من الذاتية، إذًا المجرد من كل الحقوق. لقد أحسنت سوزان سونتاغ التعبير والتفكير حين قالت: "لو كان الحيوان يتكلم لما كانت هناك مجازر".
لكن الأمور بدأت تتغير شيئًا ما، كما أراد أن تثبت دراسات كتاب مشترك حمل عنوان "ما الحيوانات؟"، تحت إشراف "جان بيرنوم" (غاليمار، 2017). ويمكن ملاحظته هذا التغير يوميًا. فحياتنا اليومية تذكرنا، باستمرار، بالقرُب الذي يربطنا بالحيوانات. وإن ذلك يحضر في أذهاننا بمجرد التفكير بـ"البقرة المجنونة"، أو في الجُبنة الفرنسية التي تحمل اسم "البقرة الضاحكة"، أو في الرعب الذي يجتاحنا بمجرد سماع الإصابات بـ"إنفلونزا الطيور"، أو "إنفلونزا الخنازير"، واليوم لم يعد يخفى على أحد على الكوكب عن أصل فيروس كوفيد 19.
بعد هذه النتائج المرعبة، أصبح التطور العلمي يدعو إلى ضرورة وضع الحدود بين الإنسان والحيوان. لنقرأ الأعمال العلمية لعلماء الحفريات، وعلماء الحيوان، أو علماء السلوك الحيواني، فإننا سندرك كيف أن حياة الإنسان والحيوان "المشتركة" هي اليوم أمام اختبار صعب، بل أمام أصعب الاختبارات. وسنطرح على أنفسنا أسئلة حاسمة من قبيل: كيف النظر إلى الاستثناء الإنساني نظرة نسبية دون السقوط في الخلط الخطير بين كل الكائنات الحية؟ كيف يمكن للإنسان أن يتحمل جميع مسؤولياته تجاه الحيوان، بل الاعتراف بالمصير المشترك معه، من دون أن يتصرف هو نفسه كما تتصرف الحيوانات؟



حيوان في الرأس
"أنا، أنتم، نحن.. كلنا نملك حيوانًا في الرأس. لا تبحثوا عنه. منذ ملايين السنين ونحن نحب بعض، ونكره بعض، ونقصي بعض، وننتج مع بعض، وخصوصًا نهتم ببعض برضا عن النفس، وبشكل غير مسبوق. إننا نقوم بذلك ونحن نحمل حيوانًا في رأسنا" ـ يقول الكاتب والمترجم الفرنسي فريدريك بويار (1961) في مقدمة الكتاب.
إن عبارة "كلنا نحمل حيوانًا في الرأس" تعني أن الأدب، منذ جذوره العميقة، وهو يعطي القول للحيوانات: الخيول، النمور، الأسود. وجعل الذباب والطيور تفكر... كما لو أن الإنسان لم يكتف بالقول والتفكير لوحده. إن الكون مليء بالكائنات، فلمَ لا نجعلها تتكلم وتفكر مثلنا. إن نشاطًا كبيرًا جمعنا بالحيوان، بل وبفضله عرفنا تميزنا واختلافنا عن كل شيء موجود في الطبيعة. وإلا لماذا نأكله؟ لماذا نربيه؟ نقتله؟ نحبه؟ نصطاده؟ نعلمه؟ نضحي به؟ نسجنه؟ نطارده؟ نقلده؟ ونجعله رفيقًا؟ وإلا لماذا جعل منه الأدباء موضوعًا لخيالهم، بل وأوثانًا، دُمى، لُعبًا محشوة، حيوانًا آليًا (مثل الإنسان الآلي)، جعلناه تقريبًا على شاكلتنا وصورتنا؟ لقد رأينا أنفسنا على صورته. لدينا وحشية الذئب، ونعومة الغزال، حيلة الأفعى، أناقة البجعة، بلاهة الدب... منذ زمن بعيد، جعلنا من الحيوان استعارتنا الكبرى... لقد جعلناه إنسانا بقدر ما حافظنا عليه حيوانًا.



الإنسان والحيوان.. الوجود والعدم
يؤطر عالم الحفريات باسكال بيك (1954) سؤالًا مختلفًا عن الأسئلة التي تناولتها باقي الدراسات والأبحاث التي احتواها الكتاب: كيف أصبح الحيوان أمام ما هي عليه الحيوانات؟ فبالنسبة لعلماء الأحياء، الحيوان كائنٌ منظم متعدد الخلايا يولد ويموت، وقادر أيضًا على التحول، يمتلك موهبة الإرادة، متحرك، حساس، يتغذى من أجسام أخرى حية، يتخلص من فَضَلاته ويتناسل. يُلاحظ من عناصر هذا التعريف أن الإنسان حيوان ضمن ملايين الحيوانات، وإذًا، هنا يظهر أن سؤال: إنسان/ حيوان غير ملائم. لكن، بالعكس من ذلك هو سؤال دقيق جدًا بالنسبة للفلاسفة وعلماء الدين، مع غياب تام لتحديد موضوعي للحيوان. فليس هنالك أي معيار مادام هناك "الإنسان الموجود"، و"الحيوان غير الموجود". الأول يشكل كل شيء، والثاني لا يشكل شيئًا؛ الوجود والعدم.



تشبيه الإنسان بالحيوان!
كل من اشتغل بعلم دراسة الحيوان يضع في ذهنه المقولات الفلسفية الداعية إلى مقارنة الإنسان بالأنواع القريبة منه. فمنذ سنوات كتب فيلسوف يدرس في الأقسام التأهيلية هذا القرار النهائي: "ليس كل عالم حفريات دَرَسَ القردة في الكوليج دي فرانس طيلة عشرين سنة مؤهل للحديث عن الإنسان". لن يقبل الإنسان، إذًا، أن يصبح الحيوان الشقي المستهدف.




لقد وجد بعض الفلاسفة في تشبيه الإنسان بالحيوان، أو بباقي الأنواع، حسب باسكال بيك، نفيًا للإنسان وخطرًا قد يوقظ البربرية. ثم إن علماء الحفريات والأنواع غير مؤهلين للحديث عن الإنسان، باستثناء قدرتهم وأهليتهم في الحديث عن الجينات والعظام. ويضيف الفيلسوف الفرنسي سؤالًا على مجمل الأسئلة المطروحة سابقًا: هل الإنسان وُضع داخل فقاعة وجودية جعلته يخرج من الحيوانية؟ لكن كيف؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.