}

أليخاندرا بيثارنيك.. الكلمات تصنع الغياب

تغريد عبد العال 31 أكتوبر 2021
تغطيات أليخاندرا بيثارنيك.. الكلمات تصنع الغياب
أليخاندرا بيثارنيك
تقول الشاعرة الأرجنتينية، أليخاندرا بيثارنيك، التي انتحرت وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، بعد أزمة نفسية "أن تكتب هو أن تبحث في ضجة الأجساد المحترقة عن عظم". هذه الشاعرة مكنها الألم من الذهاب بعيدًا نحو أعماق الأشياء، وكانت تلك هي رغبتها الأخيرة، بعد ذهابها الى أماكن كثيرة، وعيشها في بيت أبيها حتى وصولها إلى الثلاثين. انتقلت أليخاندرا إلى باريس، ودرست هناك الفلسفة والأدب والرسم، وعادت في ما بعد إلى بوينس آيرس، وعاشت في شقتها الخاصة. كتبت أليخاندرا كلمتها الأخيرة "إيسيدورا" على السبورة السوداء في غرفة عملها. وهو اسم الشاعر الذي كانت أليخاندرا معجبة به؛ "إيسيدورا دوكاش"، الذي انتحر هو الآخر في شقته في باريس.
تنطلق تجربة أليخاندرا الشعرية من عدم التكيف مع محيطها، فأتى شعرها صاخبًا بالعزلة والألم، وكانت مشغولة بإيجاد مكانها الخاص، وهي ابنة لمهاجرين روس، كان المنفى جزءًا من شعرها وكينونتها الخاصة، حتى وجدت في الكتابة ملاذها. وما هو مثير للاهتمام، أيضًا، هو علاقتها مع معالجها النفسي، ليون أوستروف، فقد أصبح صديقها وتبادلا الرسائل حين كانت في باريس. صدرت الترجمة العربية للرسائل عن دار المدى عام 2019، بترجمة الشاعرة رجاء الطالبي. قدمت هذه الرسائل أندريا أوستروف، ابنة معالجها ليون، التي رأت في هذا الإصدار "رد اعتبار" لهذه الكاتبة، ولطبيبها النفسي، كون هذه المراسلات تتميز عن باقي مراسلاتها مع الشعراء بنوع من الخصوصية. ففي عام 1988، جمعت الشاعرة الأرجنتينية، إيفون بوردالوا، مجموعة قيمة من الرسائل المنشورة وغير المنشورة في كتاب عنونته "مراسلات بيثارنيك". وفي عام 2003، صدر كتاب رسالتان، الذي ضم الرسائل التي أرسلتها أليخاندرا إلى الشاعر والقاص والرسام، أنطونيو بنيتو. في كتاب رسائلها إلى ليون أوستروف تفصح أليخاندرا عن كينونتها، وعن حبها للشعر والفن، وكيف تحلم أن تعيش في هذا العالم، هي التي كانت تشعر دائمًا أنها لا تنتمي إلى هذا العالم، وها هي تقول لأوستروف في إحدى الرسائل: "سعادتي الكبرى هي أن أرى لوحات، هذا ما اكتشفته، معها أفقد الاحساس بالزمن والفضاء، وأدخل في حالة غريبة من الانجذاب". وتقول له أيضًا: "أمنيتي الوحيدة هي أن لا أفقد ايماني ببعض القيم الروحية، كالرسم والشعر، فإن فارقني إيماني بها موقتًا فسأجن". كانت أليخاندرا مؤمنة بأن الفن والشعر هما طريقها، لكنها، ورغم إيمانها بالكلمة، كانت مدركة أن عليها أن تدرس وتعمل، وإلا ستكون صعلوكة متشردة، كما عبرت لأوستروف الذي كان يشجعها على البقاء في باريس والعمل فيها. فهناك نسجت أليخاندرا كثيرًا من الصداقات الأدبية والفنية، مع الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، وخوليو كورتاثار، وسيلفينا أوكامبو، وسيمون دو بوفوار.
كتب الكاتب الأرجنتيني، ألبيرتو مانغويل، الذي التقى أليخاندرا في بوينس آيرس عام 1967، أي قبل وفاتها بخمس سنوات، عن علاقة أليخاندرا بمرضها وبالكتابة، وعن صداقتهما، قائلًا إنه كان يرغب في اللقاء بها، لأنه كان يعد أنطولوجيا لنصوص تبدأ قصة غير مكتملة لشكسبير، فأرسلت له أليخاندرا قطعة مذهلة اسمها "الموت والمطر". و"لم ينشر الكتاب، لكننا أصبحنا أصدقاء"، هكذا أسر مانغويل. كانت أليخاندرا تكبر مانغويل بسنوات، لكنها بدت الأصغر. وصف مانغويل غرفة الكتابة خاصتها في شقتها في بوينس آيرس: مقعد وسرير ولوح أسود، تكتب عليه أليخاندرا قصائدها التي تعمل عليها كنحاتة، تزيل الكلمات الزائدة لتصل إلى العمق، وأحيانًا تمحو الجمل لتبقي على جملة وجملتين، ثم بعدها تكتب هذه القصائد على دفتر ملاحظاتها. "أن تكتب يعني أن تعطي للمعاناة معنى"، هكذا كتبت أليخاندرا على دفترها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1971.




ثمة معنى آخر لعلاقة أليخاندرا بمرضها يفسره مانغويل، فيشرح أنها ربطت مرضها بشعرها، محاولة أن تعطي بعدًا جماليًا له، وحتى قراءاتها لكافكا، وميشو، وبورخيس، كانت تحللها لتصل إلى السؤال الأعمق. ولكن رغم كل هذه المعاناة، كانت أيضًا تتمتع بحس الدعابة والمرح.
نشرت أليخاندرا في حياتها القصيرة ثمانية كتب أكسبتها مكانًا في اللغة الإسبانية، لأن لها وقعًا خاصًا، ولغة خاصة. يقول مانغويل أيضًا: "يمكننا أن نسمع أصداء الشعر الفرنسي في شعرها، لكنها لم تسمح له بكامل الحضور، فظل أسلوبها غامضًا وآسرًا".
في رسائلها إلى أوستروف، كانت أليخاندرا تسأل ذلك السؤال "كيف أحيا؟"، خصوصًا أنها كانت تحاول أن تكون في المنفى الدائم، فكانت ليس فقط تطلع صديقها ومعالجها أوستروف على أفكارها، بل على طبيعتها، وعلى تفاصيلها التي تنتمي إلى وجودها، ولسؤالها عنه. أخبرته في إحدى الرسائل عن لقائها بسيمون دو بوفوار لتعد ريبورتاجًا عنها: "نسيت أن أخبرك بأن سيمون دو بوفوار سألتني لماذا أنا خجولة، وكيف ستسير أموري في عمل الريبورتاجات مع هذا الخجل الكبير؟". كانت أليخاندرا صريحة وجريئة في الكشف عن اللحظات "الضعيفة"، فكانت تكتبها بحرية. كانت تحدثه عن الخوف، كما كانت تحدثه عن الشعر والكلمات والرسومات، تقول له في الرسالة نفسها "أشير دائمًا إلى الخوف غير المفهوم الذي انتابني، والذي أشعر به كلما تجرأت على إعادة إنتاجه"، "الخوف ملتصق بوجهي كقناع من الشمع".
كانت رسائل ليون أوستروف أقل من رسائلها، لكنه كان كأب بالنسبة لها، يشجعها ويتفهمها، فيقول لها: "لا تستسلمي، دافعي عن نفسك، وعن مشاريعك". كان يشجعها على البقاء في باريس، لأنه كان يرى في ذلك علاجًا لها. أهدت بيثارنيك كتابها الثاني "البراءة الأخيرة" لليون أوستروف، كما أهدت له قصيدتها الجميلة "اليقظة" من كتابها الثالث: سيدي/ صار القفص عصفورًا/ وطار/ وصار قلبي مجنونًا/ لأنه يعوي للموت/ ويبتسم خلف الريح/ لأوهامي/ ماذا أصنع بالخوف/ ماذا أصنع بالخوف.




كان قد ظهر ليون أوستروف أول مرة في اليوميات في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1955، ولا ندري كيف انتهت العلاقة العلاجية بينهما، بالقطيعة، أم بالفراق؟ ربما بقرار من أليخاندرا بالتوقف عن العلاج، وهي التي صرحت بذلك في إحدى يومياتها. ولكن ظل اسم أوستروف يتردد بعد ذلك في يومياتها. كان أوستروف شديد الحساسية حيال مواصفات مريضته الجمالية، معبرًا عن ذلك قائلًا: "لقد منحتني إحساس الشاعر دائمًا"، وكانت أليخاندرا تخاطب معالجها على أنها شاعرة تريد العلاج من ألمها.
أخبرها الروائي الأرجنتيني، خوليو كورتاثار، أنه أعجب بكتابها الجديد حين أتت لتوقع كتابها، وقال لها إن قصائدها جعلته يشعر وكأنه يقف أمام لوحات ورسومات السرياليين. أعجبت قصائدها أيضًا كثيرًا من المعاصرين، ومنهم أوكتافيو باث.
تقول أليخاندرا بيثارنيك في إحدى كتاباتها النقدية عن الشعر: "عندما أكتب، لا أتخيل قارئًا، ولا أتخيل أيضًا مصير ما أكتب، لا أبحث عن قارئ، لا قبل ولا أثناء، ولا حتى بعد الكتابة، ولهذا السبب، كما أعتقد، حدثت لقاءات مع قراء مجهولين، هؤلاء الذين منحوني متعة أن أكون قد فهمت، وهنا سأضيف عبارة غاستون باشلار: الشاعر يبدع قارئه، وبطريقة ما سيعبران عن أفكار مشتركة".
في مقالة له في مجلة "باريس ريفيو"، يقول الناقد باتريسيو فيراري: "كان الألم وهلوسات الليل، والفقر، هي جذور فنها اللامنتهي، كانت تقامر صحتها بالشعر، وبمغامرات اللغة. لكنها كانت تشتاق لعائلتها وأصدقائها في بوينس آيرس. كانت بوينس آيرس تمثل لها ذاتها غير الناضجة، كما تقول هي في مفكرتها. ولكنها قررت أن لا تنسحب، بالرغم من ضغوطاتها المالية، ولحظات الشك، ومرضها النفسي والخوف من أن تجن".
كتبت أليخاندرا مرة "أتحدث بالطريقة التي أحكي فيها في داخلي، ليس بالصوت الذي يقرر أن يكون إنسانًا، بل بذاك الذي يصر على أن يكون مخلوقًا في غابة". يحاول بعض النقاد أن يربطوا بين لغة بيثارنيك الخاصة الممتلئة بالرموز وسحر الأحلام والرموز التي قرأتها للشعراء السرياليين، كأندريه بروتون، وأنتونين آرتو. تقول أيضًا في حوار معها "أكتب القصيدة في محاولة لأداوي ذلك الجرح: الانفصال". ففي أعمال بيثارنيك، يحدث ذلك الانفصال بين الواقع واللغة، وحتى تداوي ذلك الانفصال، تذهب أليخاندرا إلى عمق رؤيتها، حيث لا لغة تستطيع أن تقول شيئًا.
وفي قصيدة لأليخاندرا (ترجمة أمل عبد الناصر)، لعلها تصف نظرتها للحياة والكلمات في حياتها، تقول:
الكلمات/ لا تصنع الحب/ تصنع الغياب/ إن قلت ماء، أسأشرب/ إن قلت خبزًا أسآكل؟/ في هذه الليلة في هذا العالم /صمت استثنائي لهذه الليلة/ ما يحدث للنفس هو كونها لا ترى/ ما يحدث للعقل هو كونه لا يرى/ ما يحدث للروح هو كونها لا ترى.
وفي قصيدة أخرى، من ترجمة الشاعر الجزائري الخضر شودار، تقول: لقد قفزت في وثبة من نفسي إلى أول الفجر/ وتركت جسدي قرب الضوء/ وغنيت أحزان ما ولد للتو.
كتبت في مفكرتها في الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر 1962، بعد اقتباس من دون كيشوت: "لا تنسي أن تنتحري"، وفي سبتمبر/ أيلول 1972 تذكرت ذلك!


مراجع:
ـ رسائل أليخاندرا بيثارنيك إلى ليون أوستروف، دار المدى: ترجمة رجاء الطالبي.
ـ ثقافات: تلك التي أجلستها على عتبة نظرتي/ ترجمة الخضر شودار.
ـ أليخاندرا بيثارنيك: في هذه الليلة.. في هذا العالم (قصائد) Boring Books-
-From Paris ,with Love, and Terror : Poetry Foundation , by : Nathan Scott McNamara.
-write the things that burn: The poems of Alejandra Pizarnick, by: Matthew Phipps.
-Alejandra Pizarnick , remembering, Alberto Manguel ,wild Court.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.