}

لماذا كتب دوستويفسكي "الجريمة والعقاب"؟ لم يكن لديه خيار

جيمس باركر 18 نوفمبر 2021
ترجمات لماذا كتب دوستويفسكي "الجريمة والعقاب"؟ لم يكن لديه خيار
(Gabriela Pesqueira, Getty)

 

ترجمة: سارة حبيب

يلتقي المسيح بدوستويفسكي. يلقي عليه نظرة، يمعن التحديق بغية التقاطِ لحظةٍ تشخيصيّة عبر تلك العينين الشبيهتين بأنفاقٍ من العذاب، ثم يقوم بعملية طردِ أرواحٍ شريرة عاجلة. بخفة وعلى نحو طارد، من غير جلبةٍ، وبأسلوب المسيح، يقول: "الحفلة انتهت، أيها الشيطان الصغير. اخرجْ". صوتُ طنينٍ خفيف، وينتهي الأمر. في تلك اللحظة، ومع خروج المعربد الشيطاني منه، يتحرّر دوستويفسكي من بواسيره، من إدمانه على المقامرة، نوباته المرضية، حالات الحمّى، اكتئابه، وساوسه، توقعاته المستقبلية المروعة، وهواجسه. يتحرّر من زنزانةِ جمجمته. ولا يكتب بعد ذلك أيّ كتبٍ، قطّ.

إن كتاب "الآثم والقديس" لـِ كيفن برمنغهام – وهو أستاذ فلسفة وعالم أعصاب- المستوحى من سفر التكوين، والذي يقدّم حكاية برمنغهام عن رواية "الجريمة والعقاب"، سيجعلك مترددًا بين رأيين حول دوستويفسكي، تقريبًا مثلما كان ذلك الروسي العظيم ذاته متردّدًا بين رأيين (على الأقل) حول نفسه. فمن ناحية، ستشعر بالرهبة والإعجاب بجلَد دوستويفسكي الكتابيّ، تفانيه في الوصول إلى أعماق التجربة، أمانته الفنية، هشاشته/ قوة تحمّله، مخيّلته غير المحصنة، وما إلى ذلك. ومن ناحية أخرى، سوف تتساءل فيما إذا كان جزءٌ كبير من "الجريمة والعقاب"- وهو كتابٌ فضفاض ومرهق، كما سيقرّ حتى المعجبون به- ليس إلا علمَ دراسةِ أمراض.

بالكاد يمكن تسمية ما يحدث في الرواية "حبكةَ". فمجمل "الجريمة والعقاب" يدور حول لحظة عنف واحدة. راسكولينكوف، وهو تلميذ مختال ومعدم يتنقّل بين أحياء سان بطرسبورغ الفقيرة، يقتل بكلّ وحشية عجوزًا بغيضة - مسترهنة- وأختها البريئة التي صادف وجودها في المكان. لماذا يفعل ذلك؟ لماذا يرفع الفأس؟ ليس لأجل المال، ليس لأجل التسلية، وليس لأجل العاطفة كذلك؛ ما لم تكن عاطفةَ الأفكار الباردة، لأن راسكولينكوف - بالإضافة إلى كونه مجنونًا عمليًا- هو فيلسوف نوعًا ما. إنه يتأمل في قيمة (أو انعدام قيمة) حياة إنسان واحد؛ في كون المجرمين غير معصومين؛ وفي قدرة فعل ما - ضربة قاضية- على تغيير الواقع. إنّ انفصال راسكولينكوف عن المجتمع، وعن منظومة الخير الإنساني، انفصالٌ تام ومكتمل. إنه كائن ترول منعزل، ذئبٌ متوحد. أو هو، بكلمات أخرى، وكما قال إيغي بوب، شخصٌ حديث فحسب. يتبدى راسكولينكوف كشخصٍ منبوذٍ خارجٍ من مسرحيات بيكيت؛ يجوس في وعيه مثل شخصية من قصص كافكا؛ ويتمتم لنفسه مثل ترافيس بيكل (بطل فيلم "سائق التاكسي").

"أن لا ترى إلا الغطاءَ القاسي التي ينكمشُ العالم تحته"- كتب دوستويفسكي، قبل "الجريمة والعقاب"، في رسالة إلى أخيه ميخائيل، "أن تعرف أن انفجارًا واحدًا للإرادة كافٍ لأن يحطّمها ويندمج بالأبدية، أن تعرفَ وأن تكون مثل الكائن الأخير...فذاك شيءٌ مريع!". لكن، هل كان دوستويفسكي الكائن الأخير، أو واحدًا من أوائل عصر جديد؟

إنّ سيرة حياته هي سلسلة من الأحداث التي لا تفيها حقها سوى صفة "دوستويفسكيّة". ويبدو أن الروح بالمعنى الهيغلي لها (Geist) كانت تطارده؛ لقد وجدت روح العالم الهيغلية فيه منفعةً تجريبية قاسية. تموت والدته بالسلّ عندما يكون عمره خمسة عشر عامًا. ثم يموت والده بعد سنتين على نحو غامض؛ أو ربما قتلًا من قبل عبيدٍ متذمرين. ثم، ومع محاولته كسب رزقه بشق الأنفس من مهنة أدبية في سان بطرسبورغ النتنة، يغرق دوستويفسكي الشاب في الدين والقذارة الشخصية؛ بالإضافة إلى غرقهِ في السياسات الإصلاحية التي كانت تحتدم في كافة أرجاء روسيا النظام القديم: اجتماعاتٌ سرّية، وبيانات حماسية. وفي عام 1849، يُعتقل في تمشيطٍ قامت به أجهزة المخابرات القيصرية وتوجه إليه تهمٌ بالشغب والتآمر. لكن، وبعد أن يُساق أمام كتيبة الإعدام في ميدان سيميونوفسكي، وبحضور حشد غفير، يتم إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بدوستويفسكي ورفاقه المفكرين الأحرار، بطريقة مسرحية (قرع طبول، خيّالة)، وبمبادرة في اللحظة الأخيرة من القيصر نيكولاس الأول نفسه. ثم، بكرمٍ استبدادي، وعبثية قاسية، تُستبدَل عقوبتهم: ليس الموت، بل النفي إلى سيبيريا. هكذا، يقضي دوستويفسكي أربع سنوات من الأشغال الشاقة في معسكر اعتقال أومسك، وخمس سنوات أخرى كجندي في الجيش السيبيري.

ثم، وفي عمر الثامنة والثلاثين، يعود إلى سان بطرسبورغ. وقد أبدع برمنغهام، في "الآثم والقديس"، في الحديث عن البيئة الفكرية، الاضطراب المتذبذب، التي استقبلت دوستويفسكي هناك. العدمية، الأنانية، المادية... الإنسان يُعاد تصوّره. وفي الآونة ذاتها، ينشر عالمٌ في مجال وظائف الأعضاء كتابًا مؤثرًا بعنوان "منعكسات الدماغ"، ليقول فيه، بالاستناد إلى تجاربه على عدد من الضفادع سيئة الحظ، إن النشاط العقلي ليس إلا منعكسات. "الحيوية، العاطفة، التهكم، الحزن، الفرح، إلى آخره، ليست إلا نتائج لانقباضٍ، يزداد أو ينقص، في مجموعات محددة من العضلات". ويدرك دوستويفسكي إلى أين سيُفضي كلّ هذا: الفرد، محاصرًا داخل رأسه، يصبح تحت رحمة خلاياه العصبية.





في تلك الأثناء، لا يكفُّ دماغه عن التسبب له بنوبات؛ نوباتُ صرعٍ في الفصّ الصدغي، أو ما يسميه دوستويفسكي "مرض السقوط". وثمة أمر آخر. كان دوستويفسكي في حينها يقرأ عن محاكمة جريمة القتل التي ارتكبها في فرنسا شخص يدعى بيير فرانسوا لاسينير. لاسينير شخصٌ هادئ، كثير الأناقة، وغير نادم، يقرأ كتب روسو، ويكتب الشعر. وهو سيكوباتيّ أحمر البشرة؛ إنه نوعٌ جديد من البشر. وعندما يضعونه على المقصلة، يلوي لاسينير جذعه لكي يتمكن من مشاهدة شفرتها وهي تنزل على رأسه. ينشر دوستويفسكي، في مجلته الأدبية "فيرميا"، مقالة من خمسين صفحة، مترجمة عن الفرنسية، حول لاسينير باعتباره "شخصية استثنائية". إن محاكمات القتل، يكتبُ دوستويفسكي في ملاحظة استهلالية، "أكثرُ إثارة من كلّ الروايات الأدبية المحتملة لأنها تلقي الضوء على الجوانب المظلمة من روح الإنسان، تلكَ التي لا يحبّ الفن الاقتراب منها".

يدخل هذا كلّه، على نحو عشوائي، على نحو جسور، في كتابة "الجريمة والعقاب" التي بدأ دوستويفسكي العمل عليها في سبتمبر/ أيلول 1865، حين كان متضورًا جوعًا ومؤرّقًا في فندق في مدينة فيسبادن، بعد أن خسر كلّ نقوده على طاولة الروليت. إن "الجريمة والعقاب" هي رواية عن مبانٍ شبيهة بالجحور، أبوابٍ بلون السخام، وغرفٍ صغيرة تفوح منها رائحة الجلد المدبوغ والفئران. الهلاوس تنخرُ حافةَ الواقع. المنحلّون السكارى يقولون أشياء رائقة وجميلة. المونولوجات الداخلية تغدو مسموعةً. وفوق ذلك كلّه، إنها رواية عن الذاتيّة: عن قمعها، نزاعها الطنّان، ووحدتها الصارخة. "تفاصيلٌ غير ضرورية أبدًا وغير متوقعة يجب أن تقفز كلّ لحظةٍ في منتصف القصة"، كتب دوستويفسكي في دفتر ملاحظاته. دوافع راسكولينكوف، خلاصه أو افتقاره للخلاص، انحرافاتُ الحبكة والتفافاتها؛ الرنجاتُ الحمراء في آخر الرواية. إنّ "الجريمة والعقاب" هي روايةٌ عن عقلكَ، عقلك المسكين، كونهُ مستقرَّ الوعي الحديث. إنها عن كيف يكون ذلك الشعور، حقًا.

"ما هو الجحيم"، يسأل الأب زوسيما في رواية "الأخوة كارامازوف". "إنه عذابُ ألا تكون قادرًا على الحب". بالنتيجة، ولأجل الخلاص من أنتيّةِ (أو حالة أنتَ) مُهلكة، من حبسٍ جمجميٍّ مُطبق، تستطيع إما أن تجعل رأسك يُقطَع مثل لاسينير أو أن تسلّم نفسك للحب، كما يفعل راسكولينكوف في خاتمة "الجريمة والعقاب" غير المقنعة كثيرًا. في النهاية، يدركه حب زوجته، سونيا، يخلّصهُ، فيتحول عقله: "لم يكن الآن يقرّر أي شيء على نحو واعٍ، كان يشعرُ وحسب. وبدلًا من الجدل، حلّت الحياة نفسها، وفي وعيه صار يجب معالجة شيءٍ مختلف تمامًا". وكما هي الحال عمومًا عند دوستويفسكي، المسيح موجود دائمًا في مكان ما؛ مبتسمًا، ملغزًا. لدى راسكولينكوف إنجيلٌ تحت وسادته، ويتذكر كيف قرأت له سونيا مرة حكاية لِعازَر. أحبْ، أيها المخبول. أحبْ، وانهضْ من بين الأموات.

وماذا لو لم تفعل؟ في الخاتمة نفسها، راسكولينكوف، الراقدُ في مستشفى سجنٍ سيبيري، يحلم تحت تأثير الحمّى: يرى وباء عظيمًا آتيًا "من أعماق آسيا". لكنْ، مهلًا، إنه وباء عقلي. "يصبح الناس الذين يصابون بذلك الوباء ممسوسينَ ومجانين على الفور. لكن لا يحدث أبدًا، أبدًا، أن يعتبر أولئك الناس أنفسَهم أذكياءَ للغاية ومعصومين عن الخطأ حيال الحقيقة كما يكونون وهم مصابون". لقد بلغت الفردانية أوجها؛ التذرية شاملة. "كان الجميع مضطربين، لا يفهم واحدهم الآخر، اعتقد كل شخصٍ أن الحقيقة تقيم فيه وحده، وإذا ما نظر إلى الآخرين، تألّم، لطم صدره، بكى، وعصرَ يديه".


جيمس باركر: ولد في لندن، عام 1968. كاتب ومحرر في جريدة "The Atlantic". يُعرف عنه التنوع الشديد في المواضيع التي يكتب فيها. له كتاب واحد بعنوان: "قيد التشغيل: السيرة الذاتية لهنري رولينز". يعيش اليوم في بوسطن.

رابط النص الأصلي:

 https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2021/11/dostoyevsky-crime-punishment-birmingham-sinner-saint/620175/

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.