}

رحيل ألمودينا جرانديس.. صوت ألم الحرب الأهلية الإسبانية

أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف 29 نوفمبر 2021
تغطيات رحيل ألمودينا جرانديس.. صوت ألم الحرب الأهلية الإسبانية
ألمودينا جرانديس


حين علمت ألمودينا جرانديس بإصابتها بالسرطان، فضّلت الصمت، وقررت أن تتحمّل ألمها وحدها، من دون أن تبعث للجمهور بخبر شديد الألم والحزن. ثم أفصحت منذ شهور عن مرضها، بكل أمل في أن تتخطاه، وبرسالة تدعم بها المصابين وتشاركهم بها آلامهم. والقراء الإسبان، هؤلاء الذين تعرّفوا على تاريخ بلدهم الحديث من خلال كتاباتها عن الحرب الأهلية وما بعدها، انتظروا بالأمل نفسه أن تعلن عن تجاوز الأزمة، خاصةً أنها لم تنقطع عنهم، وظلت ملتزمة، كما كانت دائمًا، بمقالها نصف الشهري في جريدة "الباييس" المرموقة، حيث كانت ترسل تأملاتها حول التاريخ والحياة اليومية والذكريات. وفجأة، يوم السبت 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، انقطع إلى الأبد صوت ألمودينا، في خسارة أقل ما يقال عنها إنها فادحة، ليس فقط لأصدقائها وقرائها، وإنما للأدب المكتوب بالإسبانية، وللإنسانية التي فقدت صوتًا جريئًا وعاقلًا ومحبًا ومتعاطفًا مع المهزومين.
ولدت ألمودينا جرانديس في مدريد عام 1960، ودرست في كلية الجغرافيا والتاريخ في جامعة كومبلوتنسي، نزولًا عند رغبة أمها التي اعترضت على دراسة اللغة اللاتينية والعمل ككاتبة، لتدفعها في طريق "مهن تجيدها الفتيات"، كما صرحت ألمودينا في حوار لها. وبعد تخرجها، عملت الكاتبة المدريدية في كتابة نصوص للموسوعات، ومثّلت في فيلم "انتكاسة" للمخرج أوسكار لادويري، قبل أن تكرّس حياتها للكتابة، موزعةً نشاطها بين الكتابة الأدبية والصحافية.
نشرت جرانديس روايتها الأولى ذات الصبغة الإيروتيكية في عام 1989، لتفوز "مراحل لولو" بجائزة سونريسا بيرتيكال، التي دشنتها ككاتبة، إذ حققت نجاحًا لافتًا وترجمت إلى عشرين لغة. وفي العام التالي، تحولت إلى عمل سينمائي. ثم توالت أعمالها "سأهاتفك يوم الجمعة"، و"مالينا اسم تانجو"، و"أطلس الجغرافية البشرية"، و"الهواء الصعب"، و"قلاع من الكرتون"، وكلها أعمال تدور في الربع الأخير من القرن الماضي، وتتميز بالواقعية والاستبطان والاتكاء على تفاصيل الحياة اليومية. مع ذلك، رأى عدد من النقاد أن الأثر الأكبر لألمودينا جرانديس بدأ في عام 2010 مع سلسلة روايات "أحداث من حرب ممتدة"، وهو مشروع ضخم تناول ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية، والمرحلة الانتقالية عبر عدد من الروايات، منحت فيها ألمودينا أصواتًا للمهزومين.




تقول ألمودينا عن هذا المشروع: "كانت الثقافة الرسمية صاحبة الانتشار الأكبر (في ما يخص الحرب وما بعدها) تتكئ على الرواية المصمتة والهروبية التي احتفظ بها جيل الأجداد"، وهي رواية استقى منها أبناء الأجيال التالية، فصاروا لا يدركون التاريخ الإسباني الحديث، لأنهم انطلقوا منها. وفي تصريح لها، أكدت ألمودينا أن الفرانكوية ديكتاتورية نموذجية، لأنها استطاعت تطوير أساليب الرعب، فكانت تنشر القمع حتى لا يتحرك أحد، ولا حتى يرغب في تغيير الأشياء. ورغم تحيزها وإعجابها بالانتقال الديمقراطي، إلا أنها كانت ترى أنه، بعد أكثر من ثلاثين عامًا، لا يزال يعاني الفشل على المستوى الأيديولوجي بالنسبة للأجيال التالية. من هذا الالتزام اليساري، انطلقت الكاتبة الإسبانية لقراءة التاريخ القريب، الأكثر تأثيرًا في حاضر بلدها ومستقبله. وهي قراءة لا تسعى فقط لحفظ الذاكرة، وإنما أيضًا لتكون جرس إنذار أمام مستقبل لا ضمانة فيه لعدم العودة لحرب أهلية جديدة.
يتكوّن مشروع "أحداث من حرب ممتدة" من روايات "إنيس والبهجة"، و"قارئ خوليو بيرني"، و"ثلاث حفلات زفاف لمانوليتا"، و"مرضى الدكتور جارثيا" و"أم فرانكشتاين".



صوت مهزومي القرن العشرين
هز خبر رحيل ألمودينا جرانديس المفاجئ الأوساط الأدبية والصحافية، وفي خلال ساعات قليلة كتب النقاد والكُتّاب مقالات ليس فقط على سبيل الرثاء والشعور بالخسارة، وإنما كذلك النظر في منجزها الأدبي، وما حققته من نجاح على المستويين النقدي والجماهيري، وهو نجاح صعب أن يجتمع في كاتب واحد. في مقالها، كتبت تيريسا كونستينلا أن ألمودينا "تمتعت بالقوة اللازمة والرسوخ لتمنح مهزومي القرن العشرين الإسباني الملحمة الأدبية التي كانت تنقصهم. وبداية من 2007، مع نشر "القلب المجمّد"، عثرت جرانديس على ما تريد قوله. ورغم أنها كانت كاتبة متحققة، وذات نثر صلب، إلا أنها بتوقفها لأول مرة عند حيوات الجمهوريين المنفيين، رأت الثقب الأسود الذي ضاع فيه جزء كبير من إسبان القرن العشرين".
لقد أدركت ألمودينا أنه لا يمكن فهم الحاضر الإسباني بدون فهم الماضي القريب، الحرب الأهلية والديكتاتورية والانتقال الديمقراطي. ولأنها لا تثق في الرواية الرسمية، أو ترى على الأقل أنها رواية في حاجة إلى تفكيك، راحت هي في روايتها إلى الهامش والأحداث الصغيرة لتفهم الحدث الكبير، اتبعت في ذلك أسلوب جالدوس في القرن التاسع عشر، وهو أسلوب سمح لها بقراءة البلد الممزق بالحرب، أضافت له الحكايات الحقيقية والمختبئة.
في "إنيس والبهجة"، اتبعت خطى الاشتراكيين المنفيين في فرنسا، الذين اقتحموا وادي أران في جبال البرلس في تشرين الأول/ أكتوبر 1944، وفي "مرضى الدكتور جارثيا" تسلط الضوء على الشبكة التي أسستها كلارا ستوفر في مدريد لإيواء النازيين في ظل ديكتاتورية شبيهة ومرحبة بهتلر. وفي عملها الأخير، "أم فرانكشتاين"، تكتب سيرة أورورا رودريجيث كاربايرا، التي قتلت ابنتها هيلدجارت حتى لا تفقد سيطرتها عليها، بعد أن قولبتها خلال سنوات لتصنع منها نموذج المرأة المثالية. لقد أسرت أورورا، التي انتهى بها المطاف في مستشفى المجانين في مدريد، الكاتبة ألمودينا جرانديس، فكتبت عنها لتتناول من خلالها حقبة الخمسينيات، وهي الفترة الأقسى في رأيها، إذ إن الأربعينيات، رغم الجوع وغياب فرص العمل، كانت تمنح الأمل بأن فرانكو لن يكون خالدًا. وفي حوار لها، تقول ألمودينا: "الخمسينيات أيضًا كانت سنوات جوع، لكنه جوع مصحوب بالإحباط المطلق، لقد بات معروفًا أن فرانكو سيستمر في السلطة بعد أن قضى على المقاومة الداخلية".




لم تفكر ألمودينا جرانديس في دراسة التاريخ، وعدتها دراسة إجبارية فرضتها عليها الأم. لكن القدر كان يخطط لها مصيرًا آخر بعيدًا عن دراسة اللاتينية، لقد ارتبطت ككاتبة بالتاريخ، وصار فضول المؤرخ المطلع على الوثائق، مع تأمل الروائي الفاحص والخيالي، سبب شهرتها ونجاح مشروعها. وعبر هذا الاندماج، لم تخترع ألمودينا الرواية التاريخية، لكنها نفحت فيها المشاعر، وتمكنت من تجسيد شخصياتها، فنزعت عن التاريخ جفاءه، ومنحت لحكايتها أصلًا واقعيًا.
ولقد اختارت ألمودينا جرانديس لنفسها أن تكون في صف الكتاب الخالدين، وأن تكون كتابتها نبض مجتمعها، وأن يكون صوتها صوت الضعفاء. فكان لها ما أرادت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.