}

معرض "هيغل في القرن الواحد والعشرين".. أهمية التاريخ

أحمد محسن 8 ديسمبر 2021

أقامت "جامعة روما الثالثة" أخيرًا معرضًا هائلًا في محاولة جديدة لفهم "هيغل في القرن والواحد والعشرين" من عدة زوايا فنية. وإلى جانب الأعمال الفنية المتنوعة، شهد المعرض محاضرات لكل من باولو دانجيلو، فرانشيسكا إيانيللي، فدريكو بيتيللو، وبيار لويجي فالينزا، قبل أن يغلق أبوابه في الشهر الفائت (تشرين الثاني/ نوفمبر 2021)، تاركًا السجال مفتوحًا عن حضور هذا الفيلسوف الألماني في أيامنا.

أولوية الروح

بشكل عام ترفض معظم الأفكار الحديثة التصور القديم للمجتمع، بوصفه وحدة متماسكة تقوم على أسس طبيعية، ما يجعل التماسك عضويًا. وتقريبًا، من خلاصات الفكر الحديث اليوم، أن المجتمع عبارة عن وحدة، ولكنها قائمة على الضرورة، ووحدتها ليست في أساس وجودها. أما ما يميّز هيغل، فهو أنه حاول تفسير العلاقات الخارجية مع الكيانات المغلقة، من دون استبعاد الوساطة. هذا في الفلسفة، أما في العمل الفني، فاستخدام المواد/ التفاصيل ليس تفصيلًا هو الآخر. ومن هنا، يمكن تحليل "خيارات" فرانشيسكا تولي، التي اختارت حجرًا أسود صلبًا، بالإضافة إلى البرونز، لتضع بينهما تمثالًا صغيرًا داخل التمثال الأساسي، لبشريين يتصارعان. ويبدو اختيار مكان الصراع، في أول التمثالين، دليلًا واضحًا على أزلية هذا الصراع، أي أنه يحدث منذ البداية، مثل الخير والشر، وهو عالق بين عالمين أيضًا، متناقضين، لا يمكنهما الالتقاء. ليس هناك أي محاولة للالتفاف في العمل، هناك شيء من التسليم بتفرعات الحقيقة، وبأحقية الحقيقة في اكتسابها اسمها بالقياس إلى الزمن الذي تحدث فيه. يرتفع تمثال "المتصارعان" على علو يقارب المترين، مثبتًا فوق الحجر الأسود، ولا ينزلقان إلى الأسفل رغم قوة الجاذبية. ويبدو هذا إعلانًا هيغليًا على توازن الروح وقدرتها على تنقية الخيال من الخيال.

بالنسبة لعدد من الباحثين، استعادة هيغل اليوم قد تعني استعادة ماركس. لعدة أسباب بقيت راهنية الأول مشروطة على نحو شبه دائم براهنية الثاني، واحتاجت العلاقة الفلسفية بين الرجلين إلى توضيح دائمًا. لوقت طويل أيضًا، حاول ماركسيون محو الأثر البورجوازي الهيغلي على الماركسية نفسها، وفي الوقت ذاته انكب باحثون على تبيان هذا الأثر وتوضيحه على المستوى النظري في الماركسية. بهذا المعنى، إن كان ماركس حاضرًا في أيامنا، فهذا يعني أن هيغل حاضر هو الآخر، من دون أن يعفي هذا المشتغلين بالأمر من عوائق شائكة ومعقدة، وذلك رغم أن الأثر الهيغلي الناجز يتميّز بمرونة هائلة.

تحت عنوان "المعلوم والمجهول"، قدّمت بيتي إلغانيان عملًا هيغليًا بامتياز، أو عملًا يحاكي الشروط الهيغلية إذا أردنا استخدام تعبير أكثر ألفة، ويحصر المادية بهيغل وحده. اختارت الفنانة الإيرانية المقيمة في نيويورك المادية المتمثلة برقعة الشطرنج، لاعتقادها بأنها أكثر العنصر شمولًا لأعمال فيلسوف ما بعد التنوير. يبدو واضحًا، أن فكرتها الأساسية، تدور حول إثبات الحركة المادية، عندما تحدث العفوية وعندما يحدث النظام. وفي تعليقها على العمل، تقول إلغانيان إنها اضطرت إلى تفادي الألوان، مكتفيةً بالأبيض والأسود، لكي لا يخرج العمل عن هدفه الأساسي، الذي يتمثل بخلق أحلام واضحة، من دون الخضوع لأي ابتزاز ناتج عن وجود التفاصيل. بهذا المعنى، تنجح الفنانة بتقديم الديالكتيك كضرورة، وتنحاز بوضوح إلى هيغل ضدّ الآخرين، ولا سيما ماركس. وكما هو متوقع، ليس ما نكتشفه في العمل هو ما تريد إلغانيان نفسها قوله دائمًا. الحرية حاضرة أيضًا، ولكنها مسألة تتجاوز المربعات النائمة في الزيت على الكانفاس، وتستكين في خيال الناظر.



ما الذي يجعل العالم عالمًا؟

ما زلنا على عتبة القرن، ولكن هذا لا يسمح باستسهال القطيعة مع السنوات الأخيرة للقرن الأخير، خاصةً إذا كنا نتحدث عن هيغل وعن ماركس وبالتالي عن الجوانب التاريخية في المادية، أو عن المادية في التاريخ. قدّم الماركسيون مطالعات هامة في هذا الشأن، تبرز بوضوح في أعمال إرنست لاكلو، الذي وصل إلى خلاصة مفادها أن التقليد الماركسي يتكل على فهم حتمي وخالص للتطور التاريخي. وبتأثير كبير من "نظام الخطاب" لميشيل فوكو، عبر التركيز على علاقات القوة في المجتمع، والتي يعبّر عنها بأوضح طريقة ممكنة في اللغة والممارسات اليومية، والاتكال الزائد أحيانًا على لوي ألتوسير، استنتج الباحث أن هذا الفهم الجاف يجعل الماركسية عاجزة عن التعامل مع الواقع. هذه الإشكالية، لا تعود إلى بداية القرن الحالي، بل تعود جذورها إلى مطلع القرن الفائت، ولكنها ليست إشكالية مباشرة، بل لطالما ارتكزت إلى مجموعة تجارب وعوامل، لا يمكن تعميم نتائجها، للوصول إلى نفي الماركسية كباراديغم من حدود راهنيتها في أيامنا. ما هو تقريبًا مؤكد بالنسبة لهوية المعرض الذي جرى في روما، هو أن الروح مستمرة في العالم. التجريد يعني النهاية، يعني الوصول إلى النهاية. العالم عبارة عن قطع متحدة، ولكن ما يجعل العالم عالمًا هو وجود الروح فيه. الفراغ حتمي، لكنه غير مرئي تمامًا في لوحة أغوستينو بونافنتورا "روح فينيسيا". بالأبيض والأسود، يحمل المسافرون حقائبهم في رحلتهم ذهابًا إلى الزمن وعائدين منه. فينيسيا، أو البندقية بالعربية، هي روح أكثر من كونها مدينة، إنها خراب متخيّل وعمارة مشيّدة بالدقائق، لا بالأحجار ولا بالقبور المتراكمة تحتها. إنها مكان، كما يشير بونافنتورا نفسه، يجعل القلب يخفق بشدة، خلال رحلته إلى الفناء. وسنجد حدثًا مشابهًا في أعمال فيليشي شيماتي: "روح الحيوان المجرّدة". لكنها الروح لا تحدث في المدينة هذه المرة، بل تحدث في الكائن الحي. والإنسان، في المدونة الهيغلية، هو كائن يعيش في عالمين لا يمكن أن يحدث بينهما لقاء. هكذا، تتقاطع الكائنات في أعمالها، المؤلفة من مواد متنوعة، وتستعين بفائض من أدوات الكولاج والضوء الاصطناعي، ليحضر فيهما العالمان: الثقافة والطبيعة. لكن الإنسان ليس حيوانًا لأنه يستطيع اكتساب المعرفة، إنه يكتشف نفسه كروح. تدلنا أعمال شيماتي على أن الإنسان المؤكد لا يمكنه فهم ماهية الحيوان، وتختار الحصان رمزًا لهذه المقارنة. المقاربة التي يقدّمها عمل فيليشي هي مقاربة جديدة، وتدور حول أفكار تقريبًا مهملة في الإرث الهيغلي، الذي يعتبر "النقص في جمال الحياة الحيوانية" أمرًا أساسيًا لصعوبة تفسير هذه الحياة، لأن حياة الحيوان مقتضبة وتختصر بتخيلات البشر عنها.

بالنسبة لعدد من الباحثين، استعادة هيغل اليوم قد تعني استعادة ماركس 



التفسير التاريخي للموضوع

كان هيغل واضحًا في التأكيد على أهمية التاريخ لفهم الحقيقة، في موازاة الأهمية المعرفية لهذه العملية. هناك فارق- لا أحد يعرف إلى أي درجة كبير أم صغير، لكن الجميع يعرف أن ثمة فارق – بين العمليات الاختبارية، التي يمكن تأكيدها أو نفيها بعملية محددة، حيث تحدد مواقع التناقضات من دون التباسات. لكن في الفلسفة، الحقيقة هي عملية متواصلة، لا تخلو من الافتراضات، ولكن لا يمكن تصوير الحقيقة نفسها كفرضية. إنها ذات فاعلة، وتتحرك ذاتيًا وحسب. في "طبقات الروح الحساسة"، تحاول ماييفا غاردينا استخدام النسيج لتتبع مسارات الروح. في عمل شائك ومعقد، لكنه لا يخلو من الإشارات اللامعة، تغوص الفنانة في رحلة شاقة بين الجوهر والمطلق، لتصل إلى الذات. خيط تلو الخيط، تصنع أعمالها المطرزة بحرفة صورةً لطريق الروح، عبر مسارات متعددة جعلت منها ضفائر. قد يشعر الناظر للوهلة الأولى بأن العمل يتقصد الملل، لكنه قد يكتشف أيضًا أفكارًا مبعثرة واضحة ترغب بالنهاية في اتحادها وانفصالها بتكوين "الحقيقة". الروح موجودة في مكان ما، ليس ظاهرًا وليس عميقًا، موجودة في الطريق وفي آخرها أيضًا. الروح مسارات، مثل التاريخ، ومثل حضور التاريخ في الحاضر.


بمعزل عن جهد غاردينا، قد نحتاج ما هو أكثر بكثير لإثبات العلاقة بين هيغل وماركس، أو بين هيغل وماركس معًا من جهة والحاضر من جهة أخرى. لا بد من البحث في المقام الأول بين الصدفة والضرورة. ولا يمكن التفلت من هذا التناقض، بحيث تنكفئ الماركسية دائمًا إلى حدود الحتمية كضرورة، حتى في أعقد حالاتها وأشد تفسيراتها عمقًا، وتتمسك بالتاريخ. هذا التاريخ الذي تحدده دائمًا بالحركة الداخلية للفعل، وليس للعلاقات الخارجية، ما يتيح استعادة فرضية "الوساطة" على نحو متكرر، وفي أكثر من مكان/ وقت/ أو طبقة تتصارع مع طبقات. ومن بين كثيرين، ولكنه ربما يكون أبرزهم، ركز الماركسي المجري جورج لوكاش على فكرة الكليانية دائمًا لفهم التاريخ والوعي الطبقي. تذكرنا أعمال غادينا بتصور لوكاش نفسه للكليانية، الذي استند على التفسير التاريخي للموضوع، في تقاطع واضح مع التفسير الهيغلي. وقد أوضح لوكاش نفسه، في مقدمة كتابه الشهير "التاريخ والوعي الطبقي"، أنه بذل جهدًا حثيثًا لقراءة هيغل بمنهج مادي، لكنه استسلم أخيرًا للبناء الميتافيزيقي الذي حرص هيغل دائمًا على تجنبه. وإذا سلمنا جدلًا بأن الطبقة العاملة اليوم، هي "طبقة تائهة"، بسبب افتقادها المؤلم إلى محدد تاريخي، فهذا يجعلنا نعيد النظر بدقة في التصور الهيغلي للتاريخ، خاصةً عندما يخبرنا لوكاش أن هذه الطبقة، التي يتم التعامل معها على أنها الموضوع/ الذات يتطابق مع التاريخ الحقيقي للبشرية، ليست حدثًا ماديًا يستطيع التغلب على المثالية القائمة على بنية متينة. وهذه محاولة أخرى للتغلب على هيغل، عبر تفسير هيغل. هذا ربما ما يحاول النسيج قوله أيضًا، في "طبقات الروح الحساسة".


الفن المستحيل

في جميع الحالات، الحاضر ليس قطعة منفصلة يمكن تحريكها بتلك السهولة على رقعة الزمن. لكي يفهم أثر هيغل الكبير في ماركس مثلًا، عاد ماركوزا إلى كتابات ماركس الأولى. وبيّن عدد من الباحثين، لاحقًا، أن مخطوطات ماركس الاقتصادية والفلسفية التي تعود إلى منتصف القرن التاسع العاشر، لم تنشر إلا في أواخر عشرينيات القرن العشرين، في روسيا تحديدًا، قبل أن تنشر مطلع الثلاثينيات بالألمانية في ألمانيا، وتاليًا، كان ماركوزا من أوائل دارسي هذه المخطوطات. وهو عاد ليدرس أثر الماضي في الحاضر، بتغيّر القرون والأحداث الهائلة من قرن إلى قرن، وبدراسة تاريخ الفلسفة، من خلال مشاركته في سجالات جدية عن أهمية المادية الهيغلية لرفد الماركسية بحجتها الأساسية في مؤلفه الأبرز والأشهر، أي "رأس المال". خلص ماركوزا إلى أن ماركس اعتبر الإنسانية أكثر من فلسفة قابلة للتداول وحسب، بل هي حقيقة تاريخية، أو بتعبير أكثر دقة احتمال حقيقة تاريخية. على نقيض منه، هناك من هم مثل ألتوسير، الذي كان واضحًا بأن الاشتراكية هي مسألة علمية/ مفاهيمية، وكانت الإنسانية بالنسبة إليه جانبًا أيديولوجيًا في الماركسية.


هذا الالتباس الذي تضعنا أمامه وفرة التفسيرات، كان حاضرًا أيضًا في المعرض، تحديدًا عبر عمل تحريكي هام. فإضافة إلى الأعمال التشكيلية، وأعمال أخرى، اختار ماركو لوكاتيللي ورافاييل موريتي إيصال فكرتهما عبر وسائط أخرى. اكتشفا أن التحريك يستطيع التعبير عن الروح على نحو أفضل. وفي الفيديو الذي يقدمانه، تحت عنوان "في الاستحالة التاريخية للفن في عقل الشخص الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين"، يقدمان عملًا ممتازًا، لكنه يبقى أقل قدرة على التعبير عن نفسه من عنوانه الرهيب. خلف الستارة السوداء، يقيم التاريخ، وستنطق الشاشات خلف الستارة باللغة، التي تعد أحد أبرز الأدوات الهيغلية لفهم العالم. ثمة علاقة ملتبسة بين الفن والفلسفة، ولكنها ازدادت عمقًا بسبب العلاقة بين الفن والتاريخ، ما يجعل وجهة نظر الفنانَين الإيطاليين على شيء من الصواب، حين يقرأون هيغل نقديًا بالتأكيد على أن الفن ليس في الطبيعة الديالكتيكية للعمل الفني، بل في صيرورة تحول الفكرة إلى مادة. لا يوجد نهائيات، وهناك عودة دائمًا إلى الوراء، بالنسبة للبشري المقيم في القرن الواحد والعشرين. شيء قائم في الذات، مثلما تقيم الفلسفة في الفن.. إذا استطاع الأخير أن يكتسب صفة الحقيقة.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.