}

"ربيع الشعراء".. إذا الشعب يومًا رغب في الشعر!

بوعلام رمضاني 4 أبريل 2021
تغطيات "ربيع الشعراء".. إذا الشعب يومًا رغب في الشعر!
ملصق المهرجان وإصدارات شعرية في مدينة روان/ فرنسا
بين من يقول إنَّ الشِّعرَ قد ماتَ، أو في تراجع، وآخر يُفنِّدُ مُتَّخِذًا من "ربيعِ الشعراء" دليلًا لا يَقبل الطعن، تميل الكفَّة إلى صاحبِ القول الثاني غالبًا، إذا ما استندنا إلى برنامج تظاهرة "ربيع الشعر" الفرنسية. هذه التظاهرة التي تتحدى أصحابَ المقولة الأولى منذ 23 عامًا، لم تُبطل ادعاءهم قبل أن تقرَعَ كورونا طبولها العام الماضي فحسب، بل نُظِّمت في كافة أنحاءِ فرنسا بين (13 ـ 19) من الشهر الماضي تحت شعار "الرغبة"، في عز الوباء المستمر حتى لحظة كتابة هذه السطور.
صحةُ إصرار الرافضين لمقولة موت الشعر، برَّرتها حوالي 1200 فقرة شعرية بُرمجت بعدة وسائل في زمن تكنولوجي لم يتمكن من قطع الطريق على شعراء باتوا أقوى من كل أنواع التحديات الأدبية والتقنية التي يُقال إنها أصبحت تُعيق التواصل المباشر بين الشعر وبين محبيه، وبذلك بقي حيًّا يُرزق، حسب الشاعر بول شاوول.

بول شاوول: الشعر حي يرزق (وكالة أنباء الشعر)


"ربيعُ الشعراء" الذي نُظِّم هذه السَّنة في ظِلِّ العام الثاني لوباء كورونا، عرف مُشاركة عشرات الشعراء الفرنسيين، وغير الفرنسيين، ومن بينهم شُعراء عرب تَقدمهم أدونيس، وفينوس خوري ـ غاتا، وسلوى النعيمي.
أدونيس الكبير أدبيًا، مهما اختلف معه أبناء جِلدته سياسيًا وفكريًا، صَنع الحدث بـ"فيديو شعري" بتوجيه وإشراف ابنته نينار إسبر، إلى جانب الفرنكو لبنانية، أندريه شديد، الفرنسية والسورية واللبنانية الأصل (1920 ـ 2011)، التي حضرت بشعرها، وبِمُسابقة حَمَلت اسمها.



الرغبة كوقود

ملصق مهرجان "ربيع الشعراء" لعام 2021 


الدارس لبرنامج تظاهُرة "ربيع الشعراء" لا يملكُ غيرَ خيارِ رَفع القُبَّعة لمنظميها الذين يحظون برعاية وتشجيع وزارة الثقافة، والمركز الوطني للكتاب، والفيدرالية الوطنية للفنون المعاصرة، وبعدد غير قليل من مؤسسات الخدمات العمومية. ترفع القبعة لجيش يَحمل أسلحةَ نشر الإحساس بكل جميلِ ومرهف ومطيل لعمر الوجدان، لأن كل الوسائل التي استعملها جيش الخفاء مُتنوعة ومذهلة إلى الحد الذي لا يُبهر بسبب عزيمته التي لا تلين فحسب، بل يُؤكد أنَّ لا شيء يقف في وجه الشعر لإسعاد النفوس بجماليات الكلام غير العادي، ولتمرير مواقف الإنسان من الحياة بكل ظواهرها ومظاهرها المتناقضة، وحتى لمعالجة المرضى ولإطعامهم وجبة روحية، مثلهم مثل تلاميذ في سن الزهور.

الرغبة كوقود لا يُستنفد، لم تكن شعارًا غير دقيق بالمرة، وتكريم الشاعر الكبير، فرناندو بيسوا، في مطلع تقديم التظاهرة، أقوى دليل على تناغم وانسجام التظاهرة مع شعار تجنَّد لتكريسه ولاستنطاقه العشرات من الشعراء الفرنسيين والأجانب والعرب والأفارقة. ليس بيسوا فقط الذي احتفى بالرغبة في الدورة الثالثة والعشرين لـ"ربيع الشعراء"، فقد تبع خطاه شعراء قضوا، وآخرون ما زالوا يعيشون بالخبز والشِّعر.
كان على رأس هؤلاء الشعراء، الذين تم الاحتفاء بهم في افتتاحية ملف التظاهرة، كنماذج حيّة للشعر الذي جسَّد مفهوم الرغبة كمتلازمة حتمية للحب والحياة بوجه عام، الشاعر البرتغالي الكبير، فرناندو بيسوا، الذي كتب يقول تحت شعار التظاهرة بالبنط الكبير: "يا له من قلق عميق، ويا لها من رغبة بشيء آخر. شيء آخر غير بلد، وغير وقت، وغير حياة. يا لها من رغبة لحالات روحية أخرى ربما!".
شعراء غير معروفين، وشاعرات غير معروفات بالقدر الكافي، في العالم، وفي أوروبا، وفي العالم العربي، وفي أفريقيا، حضروا تظاهرة الربيع، بشعرهم وليس بأجسادهم، بسبب كورونا، للتأكيد على وجودهم، رغم كل المصاعب والتحديات.



مسرحة وتصوير الشعر والشعراء
لأن لا شيء يقف في وجه الشعر، ولأن ليس كل ما يقال عن زمن الزحف التكنولوجي يؤثر سلبيًا على التلقي الحميمي للشعر حتمًا، راح مسؤولو تظاهرة "ربيع الشعراء" يدخلون بيوت الفقراء والأغنياء بفيديوهات أشرطة وثائقية تَعرِض فصولًا مسرحية تقطر بحوارات شعرية ساحرة، سبق أن تمتَّع بها جمهور المهرجان المسرحي العالمي الذي تحتضنه مدينة (أفينيون) سنويًا، والذي يمكن أن ينظم الصيف المقبل في حال تقدم مساعي الحد من وباء كورونا، سيما وأن ضغط الكتاب والفنانين يزداد من يوم إلى آخر على وزيرة الثقافة المحجورة منذ أيام بعد إصابتها بالفيروس.

من العروض التي بُرمجت في تظاهرة "ربيع الشعراء"، عرض (اذهب.. لا أكرهك أبدًا) الذي نرى فيه جيرار فيليب، ومارينا هاندس، يتبادلان الوداع شعريًّا بكاميرا برسيليا تلمون، وماتيو مون سورا، في مسرحية كورناي التي أخرجها المخرج الكبير الراحل، جان فيلار، فضلًا عن عرض (لم تخطئ رغبتي أبدًا) المقتبس من نص (لغة أنا) لبرنار نويل، و(الحيوانات المرضى بالطاعون) المقتبسة من كتاب قصص كتاب لافونتين الشهير، و(خط حياة) لستيفاني بوديه، وأنطوان لومنسترال، و(الجائع) للشاعر والروائي الأفغاني الأصل، عتيق رحيمي.
أكثر الفقرات رمزية من منطلق إنساني يجسد قوة الشعر كوسيلة علاج، العروض الشعرية التي دخلت المستشفيات، بالتعاون بين مسؤولي تظاهرة "ربيع الشعراء"، وإدارة مستشفيات باريس العمومية، في مناسبة اليوم العالمي للشعر. وكان بطل هذه الفقرة الشاعر الكبير، دانيال ماكسيمان، أحد رموز الشعر في جزيرة الأنتيل، وألقى شعرًا موحيًا من ديوانه (ابتكار الرغبات)، الصادر عن دار غاليمار، أمام مرضى في سن الزهور في مستشفى نيكار بباريس.
كما كان مُنتظرًا، اقتحم الشعر الأسواق في ظل إجراءات صارمة تفرضها جائحة كورونا العنيدة وكذلك المدارس تحت شعار (الشعر في المدرسة)، وتنوعت الفقرات المدرسية تحت شعارات وعناوين أخرى، من بينها شعار "جائزة قراءة الشعر"!



الشعر بين الأرض والسماء
تدخل تظاهرة "ربيع الشعراء" الشعر إلى المستشفيات المثبتة على الأرض، وتصعد به إلى السماء مجددًا بإطلاق تلاميذ المدارس بالونات كُتبت عليها قصائد شعرية حول موضوع الرغبة، وتعود بالشعر إلى الأرض مرة ثانية، من خلال قراءات شعرية، مثل التي جرت في مدينة فالنسيان، بواسطة تقنية الزوم، وهي التقنية التي سمحت للشعراء والموسيقيين والراقصين: إريك دوبوا، ولورنس بوفيه، وبيار كوبيل، وميغيل كويلو، وماري فولتا، وفرنسواز جيار، بالمزج بين الشعر والرقص والموسيقى، في عرض آسر تحت إشراف جمعية (رأسمال الكلمات) الباريسية. الشعر الذي يصعد إلى السماء، يعود للمرة الثالثة إلى الأرض، وإلى الطبيعة الخلابة تحديدًا، وهذا ما قام به الشاعر والمترجم، ميشال إيكار عليال.

استمر الاحتفاء بالشعر بأشكال تعبيرية متنوعة أخرى تؤكد قدرة الشعر على التواجد في كل الأوقات، وعلى مدار الفصول، وتم ذلك تحت النجوم والقمر من خلال فقرة (ليلة القراءة)، وعاد الشعراء إلى الهواء الطلق مجددًا، وإلى ساحة الشعراء التي تحتضن أسبوعيًا سوق مدينة بارجول.
معانقة الشعر بكل الوسائل والإمكانات، لغرسه في نفوس عامة وخاصة الناس من كل الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، بلغت قمتها داخل كابينة الشعر التي استُلهم شكلها من كابينة التصوير الخارجي الذاتي. المولع بالشعر، أو الباحث عن لذته، لأول مرة، ما عليه إلا أن يقف أمام الكابينة للاستماع إلى قصيدة يلقيها الشاعر الجالس وراء الستار بشكل لا يسمح برؤيته، قبل أن يقتني الواقف خارج الكابينة القصيدة مكتوبة على الورق، كما يقتني صوره الشخصية في كابينة التصوير!



أدونيس في عالم ابنته

أدونيس (مونت كارلو)


شارك أدونيس في تظاهرة "ربيع الشعراء" بطريقة لافتة في اليوم العالمي للشعر (21 مارس/ آذار)، في زمن يُثبت بقاء الشعر على قيد الحياة. هذه المرة، وبسبب التباعد الجسدي الذي تفرضه جائحة كورونا، ظهر أدونيس في فيديو ابنته الفنانة والكاتبة، نينار، التي أدخلته عالمها الفني المعاصر، على حد قولها لجوزيفين حبيقة، من صحيفة "لوريون لوجور" الفرنكفونية. تحدث أدونيس عن هذا الفيديو الذي يُلقي فيه آخر ما جادت به قريحته، وبُث على مدار 24 ساعة على موقعه: "إنه تعميق للكتابة، لأنه مُرتبط بصوت الشاعر، وأعتقد أن الصوت يلعب دورًا أساسيًا في مقاربة الشعر العربي. قراءة الشعر، والاستماع إليه، عمل فني كامل، وليس متعة، أو مرحًا، وأتمنى أن يحتفظ بهذه المقاربة كل الذين يستمعون لهذا الفيديو، وأن تتم تصوير فيديوهات أخرى مع شعراء لبنانيين وعرب وآخرين". أما نينار إسبر، ابنته، فقالت: "تم تصوير هذا الفيديو عام 2010، وأردته تكريمًا للغة العربية غير المعروفة في عدة بلدان، والتي أصبحت تقترن اليوم بصراخ ومظاهرات الإسلاميين المتزمتين. من خلال هذا الفيديو، أردت أن أصوِّر لغة عربية لا تمت بصلة للإرهابيين". الفيديو، أضافت تقول: "يمثل أيضًا متابعة لكتاب ألّفته مع أدونيس أبي عام 2006، في هذا الكتاب، كُنت في ملعبه، أي ملعب الكتابة واللغة، خلافًا لهذه المرة التي ظهر فيها ضيفًا في ملعبي، أي الفن المعاصر". هذا الفيديو الذي شارك فيه والدها في "ربيع الشعراء" الذي أُسدل ستاره في نهاية الشهر الماضي، قُدم من قبل في المغرب، وبلجيكا، وبريطانيا، حسب نينار، الابنة المبدعة على طريقتها.


بعض النماذج الشعرية ومقولة

لا يهم..
لنمت في الثلج.. لنتفسخ في ألم بياض رغبتنا
في وشوشة هدير روحنا.. الوجه قبالة الشمس

غوستاف فلوبير (1821 ـ 1880)



الطاقة الوحشية
حينما يدخل حصان طروادة مدينة
حاملًا فيروسًا يدخل الذعر في العقول ويشل الأجساد
ليس لنا إلا خيار الأبواب غير المحدودة
إنها أبواب الشعر

(سيلفان تيسون ـ 2020)



في وحدة حقول القطن
لست هنا لإعطاء اللذة،
لكن لملء هاوية الرغبة..

برنار ماري كولتيس (1948 ـ 1989)



المستحيل
الشعر يكشف عن سلطة المجهول. لكن المجهول ما هو إلا فراغ دون معنى إذا لم تكن الرغبة موضوعه. الشعر وسيلة تسرق المعلوم والمجهول. إنها المجهول والجاهز بالألوان المعمية بخيوط الشمس..

جورج باتاي (1897 ـ 1962).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.