}

باريس تهدي عرّابة فن الراي الجزائري "ساحة ذهبية"

فائزة مصطفى 20 يونيو 2021
تغطيات باريس تهدي عرّابة فن الراي الجزائري "ساحة ذهبية"
الشيخة ريميتي في إحدى حفلاتها
ما إن تبلغ حي بارباس الشهير وسط العاصمة الفرنسية، حتى يتهيأ لك وكأنك في مدينة عربية محاطة بأسواق شرقية، ثم تستحضر أجواء مدن مغاربية وأفريقية عندما تغوص أكثر في الأزقة الجانبية، لتشعر بأنك في إحدى ساحات مدينة وهران عندما تصل إلى شارع بولونصون، حيث تسمع صوت ديفا الأغنية الجزائرية منبعثًا على إيقاع تصفيقات سكان حي كوت دور، وهم يحتفلون بتدشين أول ساحة تحمل اسم فنانة عربية في باريس، ويستقبلون عيد الموسيقى العالمي بطريقة استثنائية.



الأم الروحية لموسيقى الراي
تجمع سكان حي كوت دور (القطرة الذهبية) من الفرنسيين والمهاجرين وسط ساحة صغيرة الخميس الماضي، يتقدمهم مسؤولون محليون أشرفوا على حفل إطلاق اسم الشيخة ريميتي (1923 ـ 2006) على المكان، ومصطلحات الشيخة، أو الشيخ، والشاب، والشابة، هي ألقاب تطلق على المغنين، خاصة في نوع الراي، حسب عمرهم الفني. ورد قرار تسمية هذه الساحة في الجريدة الرسمية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، لكن جائحة كورونا دفعت إلى تأجيل تاريخ التدشين. ووقع الاختيار على هذا الحي الشعبي، كونه المكان الذي عاشت فيه سيدة الراي الأولى منذ مغادرتها الجزائر مُكرهة عام 1978 إلى غاية وفاتها المفاجئة. كان الحي قبلة للمغنين والملحنين والموزعين الموسيقيين القادمين من البلدان المغاربية والأفريقية، من الخمسينيات إلى غاية تسعينيات القرن الماضي، وظل حاضنة لما يسمى بأغاني المنفى. وإن اختفت محلات الكاسيت والأسطوانات اليوم، إلا أنه ما زال يحتفظ بذاكرته كاستوديو مفتوح انبثقت منه روائع موسيقية بإيقاعات متجددة ومنصهرة، كما ساهمت هذه المنطقة في تطوير الأغنية الجزائرية والمغاربية وحتى الأفريقية، والترويج لها وعصرنتها، بل كانت ممرًا نحو بلوغ أسماء كثيرة مجد العالمية، على غرار فنان الروك أند رول الراحل، رشيد طه، الذي سيطلق اسمه هو الآخر على أحد شوارع الحي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.




أشرف على احتفالية تدشين الساحة كل من المركز الثقافي أف جي، أو باربارة، والسلطات المحلية للدائرة الثامنة عشرة الباريسية، وتناوب على إلقاء الكلمة كل من رئيس البلدية، إريك لوجوان، ومديرة معهد ثقافات الإسلام، ستيفاني شزالون، والمؤرخة نعيمة ياحي. وفي حديثه لـ"ضفة ثالثة"، رأى لوجوان أن الفنانة الراحلة علم من أعلام هذا الحي الباريسي العريق، كما أنها تعد أيقونة للثقافة الشعبية في بلادها الأصلية، وفي فرنسا أيضًا، ويضيف: "لقد تركت هذه الشخصية بصمتها في تاريخ فن الراي، وأيضًا هنا حيث عاشت، إذ غنت في مقاهي الحي وأعراس الجيران، وأشاعت البهجة في الشوارع، لذلك خصصنا لها فضاء لتكريمها، وتكريم ذاكرة كل المهاجرين، مثلها الذين غنت عن همومهم وأحلامهم". ويرى رئيس بلدية الدائرة الثمانية عشرة الباريسية أن ريميتي تمثل التاريخ المشترك بين البلدين الذي يتقاطع أيضًا في لحظات الفرح، ويشكل رابطًا لتقارب الشعبين.



تكريم ذاكرة المهاجرين

رئيس بلدية الدائرة 18 الباريسية، إريك لوجوان، حيث عاشت عرابة الراي الجزائرية


شارك المغني مصطفى مقران، وهو أحد أعضاء فرقة زبدة الفنية، في تنظيم الاحتفالية، كما يشتغل مع الفنانة الفرنكوتونسية على مشروع مستمد من تجربة ريميتي، ينطلق في الشتاء المقبل. أكد مقران لـ"ضفة ثالثة" على ضرورة استحضار التقاليد الموسيقية وعوالم الفنانة الكبيرة، وعليه كان الحرص على دعوة الشيخة ربيعة للمشاركة في الحفل، لكونها تقدم النوع الغنائي نفسه، وهو المداحات، أو الراي البدوي، وتستخدم آلة الناي والدربوكة، ما يوحي بأن طيف صاحبة "فاطمة فاطمة" حاضرًا فوق المنصة. ويضيف: "حرصنا على دعوة حجلة وسعاد عسلة، وسميرة براهمية، ونوال بنكرايم، أي المغنيات النساء فقط، لكونهن يرفعن مشعل الديفا، ويواصلن مسيرتها ونضالها كامرأة قوية ومتحررة ومدافعة عن حقوق المرأة، وتكريمها ما هو إلا تأكيد على أن أي فرنسي يدعى مصطفى، أو محمد، له مكان في شوارع باريس".




كما تأسف على تغيب إرث الشيخة ريميتي في بلادها، رغم ما تصنعه من فخر للجزائريين بصفتها صوتًا منفردًا غير خريطة الموسيقى العالمية. ويضيف: "لقد منحت ريميتي للثقافة الشعبية وتراثنا الأصيل نبلًا ووهجًا وانتشارًا، صراحة لا أفهم دوافع الجحود والنكران الذي تعرضت له في حياتها، ثم بعد مماتها". أما المغنية حجلة التي أعادت رفقة باقي المغنيات أغاني ريميتي، ففضلت الحديث معنا عن الجوانب الخفية من حياة من تعتبرها ملهمتها ومعلمتها الأولى، إذ تصفها بالملكة التي تستعيد تاجها فوق المسرح، امرأة صلبة، وذات كاريزما استثنائية، تملك هيبة ووقارًا لا مثيل لهما، إلى درجة أن العازفين والموزعين الموسيقيين كانوا يبجلونها ويحترمونها. تضيف لـ"ضفة ثالثة": "كانت ريميتي امرأة صوفية، وكتومة جدًا على حياتها الشخصية، فنانة عالمية، لكنها شديدة البساطة في طريقة عيشها، ورغم أن كثيرين يعتقدون بأنها لم تنجب، إلا أنها كانت أمًا لعدة أطفال، هم يعيشون في وهران حاليًا، وقد حالت الظروف دون حصولهم على تأشيرات لحضور تكريم والدتهم".



من الفقر إلى المجد
اشتهرت الشيخة ريميتي، واسمها الحقيقي سعيدة بضياف، بجبتها الوهرانية، ويديها المخضبتين بالحناء، ووجهها الموشوم، وبصوت جهوري مثخن. وُلدت في الثامن من مايو/ أيار عام 1923م، في منطقة ستالة بضواحي سيدي بلعباس (غرب الجزائر)، وعاشت طفولة قاسية بسبب الحرب، ومظالم الاستعمار الفرنسي، وما تبعها من المجاعة والفقر والوباء. اختبرت حياة البدو والرحل، واضطرتها الحاجة إلى العمل في مزارع المستعمرين لإعالة أسرتها. أما مدينة غليزان التي نشأت فيها فكانت تعج بالشعراء والمغنين، فانضمت إلى المدّاحات أو النساء اللاتي يؤدين الغناء المحلي في الأفراح، وهناك اكتشفت أن صوتها ليس بالعادي، سرعان ما انتزعت لقب الشيخة. وقد تبنت لقبها صدفة، فخلال غنائها في إحدى السهرات في سنوات الأربعينيات توقفت للحظة لتطلب شرابا، قائلة بلغة فرنسية ركيكة: رميتي موا، بمعنى: صب لي، فسمعها الفرنسيون حينها، وأطلقوا عليها تلك التسمية، أول خطواتها الفنية كانت رفقة الشيخ محمد ولد النمس العازف على آلة الناي، وبفضله تمكنت من تلحين أول أعمالها الفنية في النوع الراي البدوي. لكن انطلاقتها الحقيقية كانت من عاصمة الفن وهران، حينما أذاعت الإذاعة الاستعمارية أغانيها وحفلاتها. اتسمت أغانيها بالجرأة وانتقاد الأعراف الاجتماعية المتشددة، كما دافعت عن قضايا المرأة، وغنت عن الحب والحرية.



سرقة أغانيها

الفنانات نوال بن كرايم، سعاد عسلة، حجلة، سميرة براهمية


مع بداية سنة 1952م، بدأت تسجيل أسطواناتها، أولها كان مع شركة الإنتاج باتيه ماركونيه الفرنسية، حيث صدر ألبومها: الراي الراي، ثم ألبومها الثاني عنوانه: شرك قطع، أثارت هذه الأغنية الجريئة حفيظة الحركة الثورية الجزائرية آنذاك، فاتهمت الريميتي بأداء أغاني لا تتناسب مع الظرف التاريخي، ثم منعت من الغناء في بلادها بعد الاستقلال.




لكن الوقائع التاريخية تثبت أن صاحبة "غير البارود" أدت أغنية تمدح مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري خلال حفلات نظمتها الإدارة الاستعمارية، بل أكدت وطنيتها في أكثر من مناسبة، واعتبرت نفسها أنها ساهمت بطريقتها في مساندة الثورة كغيرها. مع بداية سبعينيات القرن الماضي، أخرج جيل جديد من الشباب فن الراي من الأماكن الضيقة والنوادي الليلية نحو فضاءات أوسع، إذ عملوا على عصرنته، وإدخال آلات حديثة عليه، كالقيثار الكهربائي، وعليه، يحسب لهم الفضل في شهرة هذه الموسيقى، لكنهم في الوقت نفسه أضروا بمعلميهم الأوائل، من خلال إعادة توزيع أغانيهم من دون احترام حقوق التأليف، تمامًا كما حدث مع الأم الروحية للراي. وعبرت في لقاءات صحافية عن تذمرها من السطو على أعمالها، مثل أغنية لاكاميل التي أداها الشاب خالد، وأغنية سيدي الطالب التي أعادتها الشابة الزهوانية، وغيرهما. لكن منع أغانيها من التلفزيون والإذاعة الجزائريين سبب لها ألمًا كبيرًا، فهاجرت إلى فرنسا وهي قد تجاوزت العقد الخامس من عمرها، لتحقق شهرة لا نظير لها وراء البحر، وصل صداها إلى اليابان شرقًا، والولايات المتحدة غربًا. أضفى الملحنون الغربيون لمسة تكنولوجية على أعمالها، مثل مشاركة الموسيقي البريطاني الشهير، روبير فريب، في تلحين ألبومها الأخير: أنت قدامي وأنا موراك بمعنى: أني أتتبعك، عام 2005. كما حققت ألبوماتها نجاحات على غرار: سيدي منصور عام 1994، ألبومي: نوار، وطراب موسيقى في عام 2000، وسلام مغرب في عام 2001. لم تتوان الشيخة ريميتي عن دعم الشباب من فناني الراي، فطالما مدتهم بالمشورة وشاركتهم الغناء.
ظلت صاحبة "عين إبراهيم" مصرة على الظهور في صورة ترفع فيها يديها المخضبتين بالحناء، وعندما سئلت عن معنى ذلك قالت: "أرفع يدي بالدعاء، والشكر لله الذي أعطاني الموهبة، وخصني بصوت أكسب منه قوت يومي".



مطرب الحي لا يطرب

الشيخة ريميتي 


كانت حفلتها الأسطورية بقاعة الزينيت العريقة في باريس موعدها الأخير مع المسرح، إذ غنت إلى جانب تلامذتها من عمالقة الراي، مثل الشاب خالد، في مهرجان موسيقي عالمي "100 بالمئة راي"، اختصرت فيه مسيرة نصف قرن من بيبليوغرافيا هذا الفن. بعد أسبوع واحد فقط، وفي فجر الإثنين 15 مايو/ أيار عام 2006، رحلت عرابة الفن الجزائري عن عمر يناهز 83 ربيعًا، تاركة وراءها إرثًا موسيقيًا خالدًا، وأغاني تعتبر توثيقًا للذاكرة الاجتماعية، بكل ما تحمله هذه الذاكرة من آلام الجزائريين وأحلامهم وهزائمهم وانتصاراتهم، حيث نعتها صحيفة فرنسية بعنوان: "رحلت أم الراي التي سايرت نصف قرن من تاريخ الجزائر".




أما في بلدها الأصلي، فقد صدحت أغانيها مجددًا في وسائل الإعلام الحكومية بعد قطيعة طويلة، حيث بثت أغنيتها الشهيرة التي تحمل عنوان النوار طيلة أسابيع، وتم تفسير هذه الخطوة آنذاك على أنها أغنية تتناسب مع سياسة المصالحة الوطنية التي أقرتها الحكومة مع الإسلاميين المتطرفين. ومع ذلك، لا تحظى الشيخة ريميتي باهتمام يليق بمكانتها الفنية ونجوميتها. ويذكر كثيرون كيف امتعضت من طريقة استقبالها المهينة من قبل السلطات، حين عادت عام 2001 بعد نحو عشرين عامًا من المنفى. لكنها احتفظت في ذاكرتها بمشهد مئات الجزائريين وهم يتزاحمون لحضور آخر حفلة لها في وطنها. كما تحظى الراحلة بتكريمات لذكراها في مختلف المهرجانات الفرنسية، وتعد أول فنانة عربية يطلق اسمها على ساحة في باريس، فيما أطلق اسم المطربة المصرية الكبيرة أم كلثوم على شارع في ضاحية بوبيني قبل سنوات قليلة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.