}

سينما الحي اللاتيني في باريس مهددة بالزوال!

بوعلام رمضاني 16 أغسطس 2021
تغطيات سينما الحي اللاتيني في باريس مهددة بالزوال!
شعارات الاحتجاج على إغلاق سينما الحي اللاتيني



تلفت أنظار المارة عنوة بسبب مظهرها الخارجي البائس الذي يوحي بقرب نهاية وجود ثقافي أضحى جزءًا من تاريخ الحي اللاتيني الثقافي والتاريخي الواقع في الدائرة الباريسية الخامسة. أقصد بها سينما "لا كليه"ـ La clef (المفتاح) الواقعة على بعد خطوات من جامعة السوربون الجديدة، ومسجد باريس المطل شامخًا بهندسته الأندلسية التي تسعدني لما تجسده من رمزية حضارية إسلامية تبهر السياح المفتونين بباريس، وتبكيني في الوقت نفسه باعتبارها رمز مجد لم نعرف كيف نحافظ عليه، وأبدية علاقة ربطتني بالصديق الدكتور الراحل حسين، المسؤول الثقافي لمسجد أراده منارة ثقافية غير ظلامية، كما يريد أعداء دين راح ضحية أوساط نخبوية عالمة، وأخرى شعبية جاهلة ومتعلمة. دخلت مؤخرًا هذه القاعة ـ المتهاوية والمتهالكة والحية دائمًا رغم خطر بيعها لجهة سياسية، كما سنرى في السطور اللاحقة ـ بمناسبة تغطيتي اليوم الذي أفردتها لحراك الجزائر، تأكيدًا لتوجهها الفني الملتزم وغير التجاري، كما يراد لها أن تكون منذ أكثر من عامين، على حد تعبير ديريك وولفندان، الناطق المخول للتحدث للإعلام عن فصول تراجيديا لم تنل كورونا من ديمومتها الوجودية رغم نيلها 90 في المئة من اهتمام الإعلام. هنا قصة مأساة سينما "لا كليه" الضاربة بجذورها في واقع سياسي ماكروني، والمهددة بالزوال منذ الحادي عشر من حزيران/ يونيو الماضي، رغم تجند الآلاف من سكان الحي الذي تقع فيه، والجمهور الذي تعود على وجودها، علاوة على سينمائيين معروفين توجهوا برسالة مفتوحة إلى آن إيدالغو، عمدة بلدية باريس، لإنقاذها من المصير الثقافي المميت.

واجهة سينما لا كليه في الحي اللاتيني  


يعود تاريخ سينما "لا كليه" الواقعة في 34 شارع دوبانتون إلى عام 1990، وتحتوي على قاعتين (65 و120)، وهي ذات طابع تعاوني مستقل، ونزعة فنية تجريبية، وانطلقت بعرض وترقية الأفلام الأفريقية والأميركية الجنوبية، وخاصة أفلام المخرجين سليمان سيسيه، وإدريس دراكو، ويوسف شاهين. أغلقت أبوابها في حزيران/ يونيو 2009، واستأنفت نشاطاتها في أيلول/ سبتمبر 2010، ببرمجة موجهة نحو سينما العالم والأفلام الملتزمة، وضربت موعدًا جديدًا مع الغلق نهائيًا عام 2018، بعد بيع بنايتها عام 2015، لتدخل مرحلة غير مسبوقة في تاريخها، بعد أن تجندت مجموعة من أجرائها القدامى لإنقاذها من مخالب زبائن سياسيين ظاهريًا، ومركنتليين جوهريًا، حسب تعبير ديريك، الذي حاورته داخل القاعة الأولى الخالية من المتفرجين، وفي سكون مطبق إثر انتظار سمح لنا بالوقوف عند واقع سينمائيين مستعدين للتشرد والتسول بغرض إنقاذ بيتهم الفني والثقافي والحضاري التاريخي، ولتحويل قضيتهم المبدئية إلى مسألة وجودية امتزجت من خلالها نزعات الشكسبيرية، والعبثية، والسريالية، والرومانسية، والواقعية الجديدة والقديمة، في قالب سيمفوني بديع. أجراء السينما، وعلى رأسهم ديريك ولفندان، الذي لا يخجل من التحدث للصحافة في هيئة مشرد، راحوا يتحدون كل المصاعب والتحديات بمبدئية قناعاتهم وتكتيكاتهم الظرفية في الوقت نفسه، معتمدين على تعاطف ومساعدة المؤمنين بنضالهم، وليس بتوجهاتهم السياسية حتمًا، وبادروا إلى تمويل تشاركي يحمي سينما مرادفة لوجودهم من تحولها إلى مصدر ربح تجاري يبرره ارتفاع أسعار العقار في الدائرة الخامسة التي تقع فيها.




منذ سبتمبر 2019، دخلت جمعية "هوم سينما/ Home Cinéma"، التي تمثل الأجراء، في صراع قضائي، محتلة السينما بالشكل الذي يمكنها من ربح الوقت، والدفاع عن قضيتهم في حدود ما يسمح ولا يسمح به القانون في الوقت نفسه، على حد قول ديريك، ذودًا على الثقافة بوجه عام، والسينما المهددة بالموت بوجه خاص: لم يكن أمام زملائي الأجراء السابقين في السينما إلا احتلالها بطريقة حضارية، لفتح مفاوضات مع مالك السينما، والممثل لبنك صندوق التوفير، بهدف الحفاظ على توجهها الفني التاريخي الذي عملنا على ترسيخه لسنوات". القاعة التي بقيت حية بفضل تضحيات أبنائها من السينمائيين الملتزمين والمعوزين، وبالمساهمات الرمزية والحرة التي يقدمها المتفرجون المؤمنون بقضيتهم، تستمر في رفع ستارها الحديدي، كما فعلت أثناء تنظيم يوم كامل لعرض أفلام عن الحراك الجزائري، وبرمجت هذه الأيام سلسلة أفلام، وتستعد لتنظيم مهرجان قريب، ودعوة سينمائيين مساندين لمعركتهم القانونية والكافكاوية مع القضاء. في آخر اتصال هاتفي لمعرفة مستجدات القضية، بعد محاورته قبل حوالي شهر ونصف الشهر، أكد ديريك أن لا جديد طرأ ليؤثر سلبيًا ونهائيًا على وجودهم، وأنه معتصم حتى ساعة كتابة هذه السطور مع زملائه في انتظار القرار القضائي النهائي، تأكيدًا لعزيمتهم التي لا تلين. أضاف يقول: "أصدرنا كتابًا حول القضية، ونحن سعداء بالإقبال الذي وجده في المكتبات العامة والخاصة، وسطرنا سلسلة من النشاطات تحت عنوان "الهروب الصغير"، وتتضمن عرض أفلام وورشات تهدف إلى تحسيس الشبان بأهمية السينما، فضلًا عن صدور العدد الجديد من مجلتنا الدورية، ودعوة عدد كبير من السينمائيين الفرنسيين والآخرين المنحدرين من أصول عربية وأفريقية".

الناطق الإعلامي باسم الرافضين لإغلاق سينما "لا كليه"، ديريك وولفندان (يمين)، يتحدث إلى الزميل بوعلام رمضاني


تكمن خصوصية المعركة الثقافية والقضائية التي يخوضها أهل السينما المهددة بالزوال في خلفيتها ومراميها السياسية المقترنة بتوجه اقتصادي يتضارب مع توجههم الاجتماعي ودورهم الاجتماعي في مجتمع لا تعد فيها الثقافة تجارة محضة، كما يراد لها منذ انتشار ظاهرة غلق المكتبات بسبب المضاربة العقارية التي تطال البنايات المؤجرة في أحياء راقية. مأساة سينما "لا كليه" واحدة من الحالات التي تدفع ثمن هذه المضاربة على حد قول ديريك، الذي أضاف: "بعد عدة طلبات لتدخل السيدة آن إيدالغو باعتبارها عمدة بلدية باريس التي تملك حق شراء القاعة، قبل أي طرف عمومي، أو خاص، يواجه الزملاء المتطوعون في جمعية "هوم سينما" منذ العام الماضي، جان مارك بوريلو، الرجل الثاني في حزب حركة الجمهورية السائرة ـ La république en marcheـ الماسكة بزمام الحكم في فرنسا حتى ساعة الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في أيار/ مايو المقبل.




من جهتنا، لا نثق في بوريلو، الذي يترأس فوجًا يزعم التخصص في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني المتعلق بالثقافة. نحن لا نثق في هذا الفوج المقاول الذي يريد شراء السينما لهدف تجاري وربحي خالص، الأمر الذي تركنا نبذل المستحيل لإنقاذها من عملية تحويل سافر عن توجهها التاريخي من خلال تمويل تساهمي، وعلينا جمع 4 ملايين يورو المبلغ الضروري والحتمي لتحقيق هدفنا النبيل". في الملف الصحافي الكبير الذي زودنا به ديريك ما يؤكد دعم الصحافة العامة بكافة توجهاتها الأيديولوجية المتضاربة، والثقافية بوجه خاص، للجمعية السينمائية الأخيرة في باريس، ومن أشهرها صحف "لوموند"، و"ليبيراسيون"، و"لو فيغارو"، ومجلة "تيليراما" الثقافية.
بلدية باريس لم ترد بالإيجاب على طلب الجمعية المرابطة والمعتصمة في سينما "لا كليه"، ولا على طلب السينمائيين ومؤسسة المخرجين، علمًا أنها تمثل الخلاص للقاعة المهددة بالاختفاء نهائيًا في عاصمة الأنوار. وجاء في البيان الصحافي الذي نشرته مؤسسة المخرجين في المجلة الثقافية المذكورة: "هل مازالت هناك مكانة للسينما الحرة والجمعوية في باريس، وهل يعقل أن لا تتدخل بلدية باريس من خلال عمدتها التي عبرت عن إيمانها بدور الثقافة في مناسبة سابقة، وهل يعقل أن لا تدعم أولئك الذين ينيرون حياتنا الثقافية التي أصبحت عرضة لظلام دامس في السنوات الأخيرة، وهل يعقل أن تترك إحدى القاعات السينمائية المعروفة بنزعتها الفنية التجريبية الجريئة تتحول إلى مركز تجاري للثقافة بعد وقوعها في مخالب سياسيين أقوياء يناهضون الفن الملتزم والمقاوم والمتمرد".



صمود حتى آخر نفس

ديريك وولفندان 


أعضاء جمعية "هوم سينما" المرابطة، والتي ما زالت متحدية الموت المبرمج حتى لحظة كتابة هذه السطور، وفازت في مرحلة أولى بتأجيل طردها ودفع غرامة 80 ألف يورو، مازالوا يتداولون على تسيير السينما الفقيرة والصامدة في وجه قوة سياسية واقتصادية غنية، موظفين كل السبل والحلول الممكنة، راسمين صورة رائعة وغير مسبوقة عن تحمل المسؤولية الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية والسياسية، من دون عنف وشطط، وفي حدود ما تسمح به الشرعية القانونية في مجتمع يحسم فيه القضاء كسلطة مستقلة كل الصراعات مهما بلغ مستواها.




في هذا السياق، رد ديريك على أسئلة لاحقة بقوله: "كما رأيتم يوم تغطيتكم اليوم السينمائي الذي خصصناه لحراك الجزائر (يومها دفع المتفرجون مبلغا حرًا غير محدد في شكل صدقة جارية دعمًا للسينما المهددة بالزوال)، وجدنا حلولًا عملية اعتمادًا على هبات أناس من كل الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، وعلى أنفسنا مضحين بحياتنا الخاصة وعاملين بتطوع كامل ليل نهار من دون هوادة حتى آخر نفس. ماليًا، ومنذ انطلاق صراعنا مع الجهة التي تريد الاستحواذ على السينما لأغراض غير ثقافية، وتتعلق بالمضاربة العقارية، كما تأكدنا من ذلك استنادًا إلى تاريخها وتوجهها، ما زلنا نجمع أقصى ما يمكن لشراء البناية من دون التضحية بدورنا التاريخي والمبدئي، وتجاوز التعاطف معنا المستوى الذي كنا ننتظره من عامة الناس، ومن عامة وخاصة السينمائيين، ومن كل أعضاء الجمعية التي اعتمدت على تسيير ذاتي عمودي، ضاربة مثالًا خارقًا في التضحية. الجمهور يتردد على السينما بشكل دوري ومنتظم، وكل مبلغ حر يقدم لنا يعتبر مهمًا بكل المعايير. نشاطاتنا متنوعة، وتشمل عرض الأفلام، وتنظيم الندوات والورشات، وخاصة منذ مطلع السنة الجارية التي تعد انطلاقة جديدة بفتح استديو 34، الذي يعد مخبرًا في متناول كل السينمائيين بكافة توجهاتهم وحساسياتهم الفنية. إلى جانب اعتمادنا على الوسائل والحلول المذكورة، نكافح في الوقت نفسه ضد كل محاولات الاحتواء والإغراء، ورفضنا كل العروض المقدمة بأغلبية الأصوات بعد حصولنا على معلومات تكشف عن النوايا السيئة للجهة الطامحة إلى الربح بعيدًا عن ادعائها بحماية التوجه التاريخي للسينما التي تتناقض كلية مع نزعتها الأيديولوجية".
وشكر ديريك "ضفة ثالثة" باعتبارها المنبر الصحافي العربي الوحيد الذي التفت إليها.
يجدر التذكير أن "الفوج" الذي يريد شراء سينما "لا كليه" قلعة اقتصادية يمثل حجمها التجاري حوالي مليار يورو، وتحظى بدعم عمومي، وتسيطر على إمبراطورية عقارية تقدر بسبعمئة مليون يورو، حسب موقع "ميديا بارت"، الذي يديره الكاتب والصحافي الشهير، إيدوي بلينال. وللمفارقة فإن "الفوج"، وحسب الموقع المذكور، يقدّم نفسه كمؤسسة مختصة في ريادة الأعمال الثقافية!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.