}

"ليلة الكتاب".. القراءة كحاجة وجودية تحت الشمس والقمر والمطر

بوعلام رمضاني 24 أغسطس 2021
تغطيات "ليلة الكتاب".. القراءة كحاجة وجودية تحت الشمس والقمر والمطر
قرية بشريل

لم يحدث في حياتي المهنية، أنْ قُمت بتغطيةٍ ثقافية في عزِّ الصيفِ مرتديًا بذلة شتوية، وحاملًا مظلة تَقيني من أمطارٍ لم تنلْ من عزيمة منظمين يَضرِبون موعِدًا سنويًا مع تظاهرة "ليلة الكتاب" منذ 26 عامًا في قرية بشريل (Bécherel).

عشتُ تجربتي المهنية الجديدة وغير المسبوقة مؤخرًا، في قرية أضحت مدينةً ثقافية يَحُجُّ إليها عشاق القراءة والسياح متحدين الطقس السيء والمتقلب خدمة لأرواحهم غير المتقلبة والباحثةِ بانتظامٍ وباستمرارٍ عن كلِّ ما هو جميلٌ في صفحاتِ الكتبِ وفي أرجاءِ كلِّ ما يحيطُ بهم من عِطْر التُّراث والتاريخ والمعمار والذاكرة الحضارية.

قرية بشريل الغارقةِ في تاريخِ فرنسا المسيحية والملكية والإقطاعية، والتي تُطلق عليها تسمية مدينة الكتاب والواقعة في إقليم بريتاني شمال غربي فرنسا بين مدينتي رين (Rennes) وسان مالو (St Malo) والتي تبعدُ عن باريس العاصمة بـ 416 كيلومترًا، ليست قرية عادية بكل المعايير.. لماذا؟ ببساطةٍ شديدةٍ، لأن الجمهورية الحالية التي ترفع شعاراتٍ مُنافية لشعارات القرون الوسطى، لم تتنكَّر لإرثِها السياسي السلبي، وتجاوزته ثقافيًا محافَظَةً على ماض سياسي لا يتماشى مع القيم السياسية الحالية حتمًا، ومُعزِّزَةٍ في الوقت نفسه نفسَ الماضي من منظور حضاري وثقافي مرادف لذاكرةٍ مُشرعة على ما هو سلبي وإيجابي، وارتباط الروائي الكبير شاتوبريان بهذه الذاكرة خير دليل على صحة ذلك، وقصر كومبور الذي عاش وأبدع فيه، والذي يُعدُّ اليوم مزارًا لكلِّ الفرنسيين بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والدينية والعرقية، يعد أهم مؤسسة استثمار في الاقتصاد الثقافي في فرنسا.

ملصق تظاهرة "ليلة الكتاب- بشريل"

"بشريل" عطر تاريخ ثقافي

تتواجدُ بلدة "بشريل" جغرافيا بين مدينتي سان مالو وكومبور اللتين خلدهما الروائي شاتوبريان (1768- 1848) في كتابه الشهير "مذكرات من وراء القبر"، وهي جزء من منطقة ايل أي فيلان  (Ille-et-Villaine) والتابعة إداريًا لمدينة رين منذ 2014، وانتخبت على رأسها العام الماضي وحتى غاية 2026 ملينا بارنمونتييه عن حزب الجمهوريين اليميني، وهي العمدة التي أسعفني الحظ بمُحاورَتها قبل ذهابها في عطلة ببعض الدقائق، بعد أن اطمأنت على التسيير الحسن للتظاهرة.

القريةُ الأصغر في المنطقة والأشهرُ ثقافيًا، لا يتجاوز عدد سكانها 679 مُواطنًا، وتنفرد بتاريخٍ أثريٍّ ومعماري وثقافي مكَّنها من وجودٍ مُتميز وفريدٍ من نوعه، ليس في فرنسا فقط باعتبارها قرية تحولت إلى مدينة صغيرة ذات شخصية (Petite cité de caractére). "القرية المدينة" الغارقة في تاريخ القرون الوسطى الخلافي بامتياز إيديولوجيًا، ما زالت محافظة على عطر تاريخها الحضاري والديني والثقافي من خلال عشرات الآثار المعمارية القديمة رغم كل ما عرفته من تدمير حربي في القرون اللاحقة، وتم ذلك بإعادة ترميم الكنائس والمعالم الأثرية، ومن بينها كنيسة القديس جاك التي أعيد ترميمها في القرن السابع عشر، ومقر الراهبات التابعات للقديس توما دو لافيلناف الذي بُني عام 1705 قبل أن يتحوَّلَ الى مقر للمتقاعدين عام 1720، والذي تم ترميه وتوسيعه في القرن التاسع عشر.

تشتهر "بشريل" القرية والمدينة الثقافية العتيقة ببيوتها التي دخلت رسميًا تاريخ الذاكرة المعمارية عام 1983 بعد دراسة قامت بها مصلحة الحفاظ على التراث الثقافي، وهي البيوت التي يعودُ تاريخ بعضها إلى القرون السابع والثامن والتاسع عشر. تجوَّلنا عبر أزقتها التي تحتضنُ 16 مكتبة، وقُمنا بتعدادها ونحن ننتقل من مكتبة لأخرى، ومن طاولة لأخرى في قلبِ القرية التي تحتضنُ سوقَ الكُتُبِ تحتَ الشمس والقمر والمطر على مدار السنة، والتي تحتفلُ وتحتفي بالكتاب بأبهى الصور والحلل في الأسبوع الأول من كل شهر آب/ أغسطس منذ 26 عامًا، وصادف تواجدي يوم السابع من الشهر الجاري في قرية الكتاب تاريخ صرختي الأولى خارج بطن أمي بفارق يومين لاحقين.

تتوفرُ بشريل على مكتبة وعلى مسرح شيَّدَه الراهب مونييه من ثروته الخاصة عام 1937، وهو المسرح الذي اشتهر بعروض فرقتي آر كوميديا وبرلول. دارُ الكتابِ الشَّفافة والزُّجاجية المظهرِ تُعتبر الرئة التي تتنفس بها القرية العجيبة ثقافيًا، وهي التي دارت فيها مُعظم فعالياتِ تظاهرةِ "ليلة الكتاب" تحت رعايةِ وتوجيهِ نيكول لوفيفر، الناطقة الإعلامية، وزميلتها فاليري أوبرناي التي التحقت بنا ونحنُ نُحاور الأولى حاملة طبقَ أكلٍ خفيفٍ في حدود الساعة الخامسة تحت وطأةِ جوعٍ مُعلنٍ فَرضَهُ حُبُّ الثقافة.

واجهة دار الكتب في قرية "بشريل"  



أصل التظاهرة بلاد الغال

تحدَّثَت نيكول لوفيفر في دار الكتب ردًا عن أسئلتنا المتعلقة بتاريخ التظاهرة، وبرمزيتها الثقافية والحضارية اللصيقة بالمنطقة وبولادتها الإدارية الرسمية قائلة: "جمعية سافان دوار" (Savenn Douar) (تسمية باللغة البريتانية الدارجة) هي التي بادرت لاختيار قرية بشريل موقعًا لإطلاق تظاهرة ليلة الكتاب بعد تجاوب سكانها مع العرس الأول للكتاب الذي نظم عام 1989، وتحمُّسِهم لتحويلِ قريتِهِم إلى تجرُبَةٍ غير مسبوقة في مجال الاستثمار الثقافي في الوسط الريفي، اعتمادًا على تاريخٍ تُراثي ومعماري وحضاري يَضمَنُ إشعاعًا سياحيًا وفائدة اقتصادية.

تجذَّرت الفكرةُ بسرعة -أضافت نيكول تقول- بعد تحوُّلِ عرسِ الكتابِ الأول الصغير من طقس سنوي بمناسبةِ عُطلة عيد الفصح إلى "ليلة الكتاب" في الأسبوع الأول من شهر آب/ أغسطس من كل سنة، بفضلِ سكانٍ قدامى تأثروا بتجربتي قريتي "هاي أون ويي" Hay on Wye الواقعة في بلاد الغال و"ريدو"  (Redu) الواقعة في منطقة الأردين ببلجيكا، وهكذا أصبحت بشريل ثالث مدينة للكتاب أوروبيا والأولى فرنسيًا، و"العضو الثامن في فيدرالية المدن والقرى الثقافية منذ عام 2010".

من رحِم تحمُّسِ المؤمنين بدور الثقافة كفلسفةِ حياةٍ تمزِجُ بين الفنون والسياحة والاقتصاد، وُلِدت "قرية جديدة غير مسبوقة فرنسيًا"، على حد تعبير عمدتها، التي راحت تُضيف قائلة لـ"ضفة ثالثة": "لم تُصبح قريتنا مُرتبطة في أذهانِ أهلها بالكتاب فقط كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، بل أضحت مدينة ثقافية حقيقية وشاملة بمكتباتها التي تُحيط بسوقِ الكُتُب كما سَتَرَوْنَ، وبرسَّاميها وكُتَّابها وخطَّاطيها وناشريها ومُصوريها ومُخرجيها المسرحيين والسينمائيين وبحرفييها وفنانيها ومجلديها، وستكتشفون أسماءَ الكثيرِ منهم في دورة هذه السنة من ليلة الكتاب، وتُبَرِّرُ التظاهرة تسميتها باستمرار التظاهرة التي تبدأُ انطلاقًا من الساعة العاشرة وتستمر حتى الساعة الحادية عشرة ليلًا". وأخذت التظاهرة بُعدًا إداريًا وثقافيًا جديدًا- أنهت عمدة بلدية بشريل قائلة قبل انصرافها بسرعة- بانخراطِ كلِّ مُمثلي مدينة الكتاب في لجنة التشاور من أجل التنمية لدراسةِ كلِّ السُّبل والأفكار التي تُساعد على تطويرها ثقافيًا بالتنسيق مع دار الكتاب والمسرح البلدي ليس فقط لضمان حياة ثقافية مستمرة لسكان القرية فحسب، بل لسكان القرى والمدن المجاورة والسياح الفرنسيين والأجانب الذين يزورون منطقة بريتاني، ومن بينهم العديد من الإنكليز الذين استقروا فيها فضلًا عن السياح الذين يأتون في فصل الصيف كالإسبانيين والألمان والهولنديين بحثًا عن الخصوصيات الفرنسية المشكلة ليوتوبيا قائمة بحد ذاتها.

سوق الكتب في قرية "بشريل" 


فاليري أوبرناي، مسؤولة دار الكُتب، أخذت الكلمة- وهي تتناول وجبة غداءٍ في حدودِ الساعة الرابعة- بعد أن دَعتها زميلتها نيكول إلى الرَّد على أسئلةٍ رأتْ أنها مُؤهَّلة أكثرَ منها للرد عليها، وقالت فاليري عن الأهمية الرمزية القصوى التي تكتسيها قرية بشريل حاضنة ليلة الكتاب: إن إشارة الكاتب الكبير شاتوبريان إليها في كتابه "مذكرات من وراء القبر" (1848)، تكفي للتدليلِ على دخولها تاريخ الثقافة والأدب من الباب الواسع.

ردًا عن سؤال "لماذا تسمية ليلة الكتاب علمًا أن التظاهرة تبدأ صباحًا الساعة العاشرة؟"، قالت فاليري: مع تزايُدِ الإقبالِ على تظاهرة عرس الكتاب التي ننظمها بمناسبة عيد الفصح في النهار، وتجاوُبِ أصحابِ المكتبات القارة وباعة الكتب الذين يتَّخذون من ساحة وأزقة بشريل القديمة مقرًا ظرفيًا لهم، وتنوُّعِ الجمهور المكون من عائلات فرنسية ومن سُيَّاحٍ أجانب معجبين بمنطقتنا، فكرنا في تجاوز الجمهور الضيق الذي ما زال يُقبِلُ على عرسِ الكتاب السنوي، وذلك بِبَعثِ تَظاهُرَةِ ليلةِ الكتاب التي تستمر حتى الساعة الحادية في جو احتفالي بهيج يُقبل خلاله الكبار والصغار على الكتب وعلى المعارض الفنية والعروض المسرحية والموسيقية والقراءات الأدبية في الهواء الطلق تحت ضوء القمر بعد تمتعهم بها تحتَ الشمس.

مدينة "سان مالو" الواقعة شمال قرية بشريل، تُعَدُّ هي الأخرى مَرجعية أساسية لِمُحبي الأدب بوجه عام وأدب شاتوبريان بوجه خاص، لأنها المدينة التي وُلِدَ فيها صاحب النصب التذكاري الواقع قبالة جبهتها البحرية البديعة التي تُمْتِعُ السياح بإيقاعاتِ أمواجها الهائجة والناصعة البياض، وبباليه طيور النورس والبطاريق التي تناولها أيضا في كتاب مذكراته باعتبارها فُرجَةً فنية مُعلَّقة بين السماء والأرض، وتُعالج المرضى والتائهين نفسيًا دون كلفة مالية ما.

قضيت يومين كاملين بين أحضانِ عِطْرِ التاريخِ والثقافة والأدب والفنون، تنقَّلت بين دار الكتاب وبين أزقَّة القرية العتيقة الناطقة بنمط عيش مدروس، وبين مدن دينا Dinan  الأثرية التي سطَّرَت برنامجًا ثقافيًا في عز شهر صيفي ممطر. ولأن شهر آب/ أغسطس لم يكنْ شهرًا صيفيا بأتم معنى الكلمة، وامتزجت فيه كل فصول السنة، لم يكن أمام كاتب هذه السطور إلا خيار قيامه بتغطيةٍ ثقافيةٍ شَمِلَت بعضَ المدن المحيطة بقرية بشريل مُرتديًا بدلة شتوية وقبعة رمادية وحاملًا مظلة سوداء، الأمر الذي سمح له بحماية جسمه النحيف ورأسه الأصلع من بردٍ ومطرٍ لم يمنعَا بعضَ السياح الغربيين من التجول أمامَه بأقمصةٍ صيفية حقيقية مثَّلَتْ هي الأخرى معرضًا فنِّيًّا أبرز عضلاتهم المفتولة.

شاتوبريان وكتابه "مذكرات من وراء القبر" 


الأديب والديبلوماسي والسياسي الكبير المبدع شاتوبريان الذي يفتخر به أهل شمال غرب فرنسا، بمن فيهم الذين يختلفون مع توجهه الديني ويُناهضون أفكاره، كان في صُلب رحلةٍ اختتمها صاحبها بالتقاط صورةِ النصب التذكاري للكاتب الكبير المطل على الميناء والجبهة البحرية، وبزيارة غابة وقصر كومبور واللذين قال عنهما في كتابه "مذكرات من وراء القبر": "في غابة قصر كومبور.. أصبحت ما أنا عليه اليوم". يزور اليوم هذا القصرَ الملايين من السُّياح الفرنسيين والأجانب الذين يَقضُون وقتًا طويلًا في المكتبة التي تَعرِضُ وتُباعُ فيها كتبه وتماثيله النصفية وأكياس مزخرفة صُنعت خصِّيصًا لحملها قبل التوجه إلى الغابة المحيطة بقصر ثقافي تاريخي وأدبي وثقافي بامتياز.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.