}

جائزة إليوت.. سحب الهامش إلى المركز

سناء عبد العزيز 19 يناير 2022

للاغتراب أسباب شتى، يندرج معظمها تحت مسمى الاختلاف، الذي طالما شكل تهديدَا لصاحبه، بدلَا من أن يُنظر إليه كعلامة على التنوع قيض لها تطوير الوعي البشري. وعلى الرغم من المعاناة، أو ربما بسببها، تميزت الأعمال التي رصدت ظواهره بزخم لا نظير له واستطاعت المنافسة على الجوائز في الآونة الأخيرة بشراسة، ومن هذه الأعمال ديوان الشاعرة البريطانية جويل تايلور "أناشيد وقصائد أخرى/ C + nto & Othered Poems" الفائز بجائزة تي إس إليوت منذ أيام، والذي أشادت به لجنة التحكيم ووصفته بأنه "عمل مشتعل بالغضب والنور".

كتاب عن الصمت والغياب

نشرت تايلور ثلاث مسرحيات ومجموعة قصصية، وثلاثة دواوين؛ "نسيج سكا/ Ska Tissue"، "المرأة التي ليست هناك/ The Woman Who Was Not There"، و"أغنيات علمها لي عدوي/ Songs My Enemy Taught Me 2017"، لكن ديوانها الأخير الذي يتناول الثقافة المناهضة للمثليات في فترة التسعينيات، وصفه النقد بأنه أهمها على الإطلاق، وكتبت عنه الروائية المعروفة برناردين إيفاريستو قائلة: "لقد أبدعت جويل تايلور واحدة من أكثر مجموعات الشعر إذهالًا وأصالة في السنوات الأخيرة".

يشتق الديوان عنوانه من الفعل الإيطالي cuntare، ومعناه "يروي أو يحكي أو يقص (قصة)". وفقًا لقاموس أكسفورد، فهي كلمة تنتمي للهجة نابولي، كما هو الحال في كتاب "حكاية الحكايات"، مجموعة القصص الشعبية الشهيرة من القرن السابع عشر التي كتبها الإيطالي جانباتيستا بازيله.

تتمتع تايلور بموهبة لا مثيل لها كشاعرة وكاتبة مذكرات ومؤرخة. تقول في مقدمة ديوانها:

"هذا كتاب عن الصمت.

إنه الصمت والغياب.

غيابي الذي يبدد

الجزء الأخير مني".

تتألف المجموعة من ستة أناشيد، أو "أغنيات قصيرة''، تشكل حوالي سدس الديوان وقد تم تأديتها في الأصل على خشبة المسرح في مركز باترسي للفنون، أما بقيته فعبارة عن قصائد كتبت بغرض القراءة. ويحتوي على مسرد يشرح كيفية قراءة "القصائد المشهدية" التي تتخذ شكل سيناريوهات مسرحية، مع اتجاهات الإضاءة والصوت، وإشارات الحركة.

جويل تايلور



إرث المحو والاقصاء

ربما لا تتقبل المجتمعات أي اختلاف في الهوية الجنسية، لأنها ببساطة لا تتفق مع عالم لديه أفكاره الثابتة عن الجنس، غير أنها موجودة بالفعل على نحو لا يصلح معه التغاضي عنها، سيما وهي تقابل بشتى أنواع الإساءات، ويدفع أصحابها أثمانًا باهظة لمجرد رغبتهم في أن يكونوا على طبيعتهم. وهو ما أسفر عن ظهور حركة عالمية في نهاية القرن التاسع عشر تهدف للاعتراف بالمثليين وتواجدهم في العلن، وفي منتصف القرن العشرين، بدأ رفع التجريم عن المثلية الجنسية تدريجيًا، وسنت تشريعات تكافح التنمر لتحمي القاصرين المثليين، الأمر الذي تعرضت له تايلور في مرحلة المراهقة في المدرسة وفي الشارع وفي الحانات والنوادي التي كانت ترتادها. وما زالت حتى اليوم تعاني منه، لهذا يبدو تقييمها للوضع الراهن قاتمًا للغاية. اليوم، كما تقول، أصبحت الحرب "قذرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي"، و"نحن نقضي وقتًا أطول في مراقبة بعضنا بدلًا من حماية بعضنا، إن القصد من C + nto هو الاعتراف بالجرائم المرتكبة ضد مجتمع المثليين والعكس بالعودة إلى الوقت الذي كان لدينا فيه إحساس أكبر بالوحدة وبالذات". ولذلك تستحضر في قصائدها الحزن الدفين في زمن غير بعيد:

العنف يتربص في الزاوية:

ولا أحد ينتبه

لصورة ظلية لرجل

يكاد أن يرمي بحجر

مخلخلًا بين يديه.


يكشف الديوان في مجمله عن المجتمعات السرية التي شكلتها المثليات حتى يتمكن من استعادة أجسادهن. وتبدو تايلور الشاهدة على العصر في استعراضها المثالي للسياسة كانعكاس للشخصية والشخصية كانعكاس للسياسة مشحونة بطاقة هائلة من الاحتجاج والرثاء. في جزء منه تحتفي بالمثليات، وفي جزء آخر تحاول ترجمة تجربتهن مع دعوة للاتحاد في عالم يتعرض فيه مجتمع الميم بشكل متزايد للتهديد (اصطلاح يشير إلى مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيًا. ويعود السبب في اختيار هذا الاسم إلى أن كل المصطلحات "مثلي، مزدوج، متحول" تبدأ بحرف الميم).

كتبت تايلور أيضًا في مقدمتها أن المجموعة عبارة عن خوض في تاريخها الشخصي، وهي تنظر إلى نفيها كنتيجة لحياتها الجنسية، فضلًا عن التنقيب عن ماضي الآخرين من خلال المقابلات والمحفوظات: "من المهم أن نحافظ على تاريخنا". و"لقد أجريت مقابلات مع مثليات أخرى من تلك الحقبة، وبدأنا معًا في بناء قصة بسيطة عن النفي والاغتراب والصداقة والحزن والحب والشجاعة والتهديد".

جميعنا لا نلائم أجسادنا

تتحدث تايلور أيضًا عن دوافعها لكتابة الديوان: "على جانب من الباب تبدو قبيحًا، وعلى الجانب الآخر تبدو جميلًا. ثمة ثلاث بوصات من الخشب بين رفضك واستحسانك. يتعلق الأمر بتأرجحنا الصعب بين البقاء والتعبير عن الذات. لقد اضطررت إلى كتابة هذا الديوان لتكريم جميع المثليات والنساء اللاتي سرن على نحو خاطئ، فجميعنا لا نلائم أجسادنا تمامًا".

الديوان في جوهره، يدور عن الحب، من خلال حياة قلقة ومضطربة لأربع شخصيات؛ فالنتين، ودوديزيل، وأنجيل، وجاك كاتش - مزيج من مثليات الطبقة العاملة يحلقن بنا، ويبحرن في الليل، لتوجيه ملاذهن المليء بالموسيقى والحب نحو مياه أكثر أمانًا.

تحب تايلور شخصياتها، وتتعاطف معها، وتغمر كل فكرة وصورة وعبارة بإحساس ملحمي:

ولكن إذا كنت حجرًا فأنت لا بد جزء من الجبل

حين تنضم إلى سيل من النساء اللائي يسرن على نحو خاطئ

حليقات الرؤوس مثل صخور متساقطة

تحتفظ بها قريبة منك

لتجتمع حبات المسبحة..

على المستوى الجزئي تروي تايلور قصتهن الأسطورية، ومعاناتهن الهائلة من خلال جمل تحوطها هالة مشعة، حيث تزاوج بين المتضادات؛ الجنس والدين. اللحم البشري ولحم الحيوان، العنف والرقة، الخوف والشراسة، الحب والغضب، ومن تلك الفسيفساء تتجمع رويدًا رويدًا الصورة الكلية. أما على مستوى الأسلوب فقد استخدمت تايلور في ديوانها العديد منها: نص مسرحي، شعر حر، قصائد نثر، تتخللها أحيانًا علامات ترقيم، وأحيانًا لا. ولكن في الغالب، تستخدم المسافات الطويلة والخطوط المائلة للأمام.

في قصيدتها "المثلث الأسود" تشير إلى مثليات المثلث الأسود، وهي شارة استُخدمت في معسكرات الاعتقال النازية لتمييز المعاقين جماعيًا بسبب مثليتهم الجنسية أو بسبب النسوية أو حتى الافتخار بالمثلية والتضامن معها. في هذا الصدد تصرح في حوار معها: "ورثنا تاريخًا من السحق، خطافات صغيرة على الرسغين، وأوشام زرقاء... على الرغم مما قد تكون قد قرأته، إلا أن السحاقيات لا يعتبرن رجالًا. نحن نعرّف السحاق باعتباره حرية. نعرفه على أنه البقاء على قيد الحياة. السحاق هو إرث إقصاء ومحو، ونحن من صنعن من الصمت".

تم اختيار ديوان تايلور للفوز بالجائزة الأكثر قيمة في الشعر البريطاني، من قبل لجنة مكونة من ثلاثة شعراء، كارولين بيرد وزفار كونيال وجلين ماكسويل، رئيس لجنة التحكيم. ويقول ماكسويل: "كل كتاب في القائمة القصيرة كان يستحق الفوز بالجائزة، لقد وجدنا صعوبة بالغة في الاختيار بين عشر مجموعات رائعة، لكن تايلور قدمت في ديوانها أوبرا هائلة عن التحرر من ظلال اللامبالاة والقمع. إنه سيرة ذاتية جميلة، عن حياتها كمثلية، والتنمر الذي عانت منه عندما كانت طفلة في أسرة تقليدية. كما تستعرض فيه على نحو خيالي الحياة الليلية في نوادي السحاقيات، بعضها أشبه بفردوس وبعضها هو الجحيم بعينه". هكذا استطاعت تايلور بمجموعة من القصائد المروعة والموجعة عن الخسارة والمعركة والحب والبقاء أن تورط القارئ في عالمها الهش.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.