}

المجتمع الواقعي والمجتمع الخيالي.. تعلّم التمييز بين الفانتازيا والعقل




يعتبر إغناثيو دي ليانيو Ignacio de Liano (مدريد، 1948) أحد أبرز المفكرين الإسبان في الأربعين عامًا الأخيرة، وبالإضافة لتخصصه في الفلسفة هو أستاذ علم الجمال وأحد أهم نقاد الفن التشكيلي. له العديد من الكتب الهامة في المجال الفكري والفلسفي من بينها "الفلسفة والخيال" و"لغة الخيال" و"الكذبة الاجتماعية" و"دائرة المعرفة". ولأنه كان أحد الأصدقاء المقربين من سلفادور دالي، كتب عنه كتابين: "طريق دالي" و"فك شيفرة سلفادور دالي".

ينشغل دي ليانيو في مجمل إنتاجه الفكري بالمجتمع الحديث والقوى المؤثرة فيه، سواء أكانت قوى أيديولوجية، دينية، ثقافية أو فنية. لذلك، اهتم في كتابه "الأديان السياسية" بتفكيك الشيوعية والرأسمالية والإسلام السياسي من وجهة النظر الاجتماعية والفكرية وليس بناء على النص. كما يصنع جسرًا بين الفلسفة والأدب والمجتمع والسياسة، باعتبارها أسئلة الإنسان المعاصر. وفي أثناء ذلك، يعيد قراءة الفلسفة الألمانية على ضوء النقد.

هنا مقالة له ننشرها بإذن منه، يتناول فيها المجتمع والفن والوضع الثقافي، وتتأسس على فكرة الشذرات.

[ترجمة: أحمد عبد اللطيف]

يُغرم فلاسفة القرن الثامن عشر، وكثيرون غيرهم على نفس النهج، برسم لوحات عن السياسة الأدبية، وتصميم مجتمعات خيالية جاهزة للترحيب بكل هؤلاء الناقمين على المجتمع الواقعي، الذي لم يعبأ هؤلاء الفلاسفة أنفسهم بالنظر إليه بعمق. إنهم مغرمون بالنظريات بنفس درجة ازدرائهم للأفعال.

ثمة أنظمة يُعاش فيها على هامش الحياة، وفي فترات الأزمات، سواء سياسية أو أدبية، يخترعون "دولًا خيالية" ويعلنون الرغبة في تحسين المجتمع وأنسنة الحياة، لكن جلّ ما يفعلونه تشييد قلاع من الوهم، عواقبها الوخيمة لم تخضع لدراستهم.

ما من نظرية سياسية، مهما كانت جميلة وعبقرية وواعدة، بوسعها أن تحلّ محل تجربة تعرف كيف تعمل في الواقع الميكانيزمات الاجتماعية.

حين يحل المجتمع الخيالي محل الواقعي، وبدلًا من طرح سياسة مبنية على معرفة الواقع تنهض أخرى مجردة أو أدبية، يستطيع الفيلسوف السياسي أو السياسي الفيلسوف أن يحقق لها، بدوره الوهمي وكلمته الوهمية، شعبية واسعة، ويوزّع العزاءات والفضفضات، كأنها ورق يانصيب، أو يجمع المتفق، كأنها أرباح، لكن الشيء الوحيد الذي يفعله هو منح سحب الدخان والعمى الذي فيه أعمى يقود عميانًا.

ذات مرة كتب ألكسيس دي توكفيل أن "الأشياء نفسها التي تدفع باستمرار إلى كتابة كتب جيدة يمكن أن تقود نحو ثورات كبرى"، وأنا أسأله: "كيف استنبطت يا سيد توكفيل أنها كتب جيدة تلك التي أدت إلى ثورات كبرى؟".

إن المبدأ الأساسي يكمن في تعلّم التمييز بين الفانتازيا والعقل، بين المجال الذي يسمح بتطبيق الفانتازيا والذي لا يسمح إلا بصرامات العقل والحساب، إذ لو فعلنا عكس ذلك، حين نحتاج إلى تصليح ماسورة سنبحث عن رقم تلفون فيلسوف طوباوي.

وبما أن الطبيعة الفيزيائية للأشياء لا تتغير أبدًا، لأن القوانين التي تحكمها غير قابلة للتغيير ودرجة السيولة التي تؤثر عليها مجرد عملية إحصائية، يستطيع الإنسان التوصل لمعرفة أسرارها في زمن قصير نسبيًا. لا يحدث الشيء نفسه مع الطبيعة الأخلاقية. لا الزمن ولا العلم يكفيان لبلوغ معرفة السلوك الإنساني. إن آخر ما سنبلغ معرفته في هذه الحياة هو نحن أنفسنا.

من الصعب دراسة السلوك الشخصي وسلوك الآخر بدون الاستسلام للعواطف، وهو استثناء ناتج عن الشغف بالمعرفة.

عندما نهجر استخدامًا كرّسته التقاليد، فالطريقة الوحيدة لإعادة استخدامه هو كسوته بألوان جديدة.

نشعر باللهفة حين نفكر أن توقعاتنا المحببة يمكن أن تتحقق. إن لم تتحقق هذه التوقعات، يملؤنا شعور بالإخفاق، ونحاول قولبة تطلعاتنا على آفاق أضيق، لكن مجرّبة.

بالعودة إلى الاستخدامات القديمة والعادات، ثمة راحة يجدها المرء فيها بعد التعب من إخفاق الآمال واللهفة.

لن يمتدح المديوكريون (المتوسطون) المواهب الكبيرة بلا تحفظ. لماذا؟ لأن سبب بروز المواهب الكبيرة هو وجود مديوكرية المديوكريين. المديوكريون يفضّلون كيل المديح لمديوكريين آخرين. هكذا يشعرون بمتعة الكرم والنبل، ويحدسون أن ثمار موهبتهم الطارئة لن تتعرض لخطر.





يميل الناس العاديون لاعتبار من يلفتون الانتباه برفع القضايا الغريبة سامين ومذهلين. ويعتاد الناس العاديون الخلط بين العظمة والإيحاء بها، بين العبقرية والأداة، وبين الرسم الجمالي وضربات الفرشاة الصارخة.

لقد اعتاد المزيفون الأيديولوجيون أن يكونوا كاريكاتيرات لأنفسهم. هكذا يركبون نجاحهم. والتجربة علّمتنا أن أغلب الناس يفضّلون الكاريكاتير على اللوحة.

إن فناني وكُتّاب زمننا، في أغلبهم، بائعو أوهام. هدفهم الرئيسي خلق الوهم بأن عملهم هام، وفوق ذلك، إقناع أنفسهم بأنهم هم أنفسهم مهمون.

أرفع خير يمكن أن يحصل عليه الفرد هو الصداقة. ورغم أن هذا الشعور يتأسس، مثل أي شعور، على شكل من أشكال الأنانية، إلا أنها أنانية تتبنّى الغيرية.

الصديق الحقيقي مرآة لنا، لما نستطيع أن نكونه وما يجب أن نكونه. تبرر الصداقة الحقيقية، بل وتطالب بـ الحياة المستقبلية.

الأشخاص الذين يلمعون في الحياة الاجتماعية ليسوا أكفأ الناس للصداقة.

الحياة الاجتماعية بديلة للصداقة، بل وتعويض عن غيابها.

الذين يعرفون التكيف مع الوحدة وحدهم المعَدّون ليكوّنوا صداقات. الانطوائيون لا ينقصهم عادةً أصدقاء يشرقون، في غيابهم وفي لحظاتهم الصعبة، في الحياة الاجتماعية اللامعة، أصدقاء على طول وجودهم يجمعون صداقات كأنهم قصاصات صحافية.

حين يسأل الإنسان نفسه، يجيبه العلم: "أنت مجموعة من ميكانيزمات تتمتع بالقدرة على التفكير". لو أراد الإنسان التعمُّق فيما هو أبعد، سيكتشف أنه ما من معرفة قادرة على الجواب عن أسئلته المتعلقة بمصيره ما دام حيًا ومتأملًا وملقى في العالم، بدون الحصول على موافقة منه على حدث متسامٍ مثل أن يرى نفسه مطوّقًا باحتياجات ورغبات وقدرات، يجهل منطقها وأصلها. هنا يظهر الدافع الذي يقوده نحو الاستسلام للعلم، وخاصةً إلى الإيمان. هكذا يعتقد أن بوسعه الوصول إلى إضاءة لغز الوجود.

إن أشكال الحياة التي يمنحها زمننا للفرد أكثر بكثير في تنوعها مما أتيح على طول التاريخ، لكنها أضغف خامةً. كأن ثمة علاقة طردية بين التنوع والسيولة.

كانت أشكال الحياة مرتبطة في زمن آخر بمحورين جوهريين: العقيدة الدينية، بقداساتها وشرائعها، والعلاقة بالوسيط الطبيعي، اللانهائي في تنوعه والجمالي في سحره. أشكال الحياة المعاصرة لها محوران أساسيان: العمل، بأشكال التخصص التقني اللانهائي، وغزارة العروض في وسائل الإعلام، ما يجعل الجانب الفني ممكنًا.

 لقد اهتمت الفلسفة الإسبانية بشكل خاص بحياة الناس، بـ "الإنسان من لحم ودم"، بعبارة أونامونو. يلاحظ ذلك عند سينيكا، كيبيدو، جراثيان، بالمس، كامبوامور، سانتايانا، أونامونو، أورتيجا، دورس، ثوبيري، خوليان مارياس، ماريا ثامبرانو. اهتمت كذلك بشكل خاص بالعلاقات بين مختلف الشعوب، وهي رؤية ذات منظور عالمي، كما في أعمال بيتوريا وسواريث وممثلون آخرون لمدرسة سلامنكا. البؤرة الثالثة للفلسفة الإسبانية تكمن في الاستعراض العقلي لتجارب تجاوزت العقل وتطمح إلى الاقتراب من نواة الوجود: إنها الموضوعات الأساسية في كتابات سان خوان دي لا كروث حول الموسيقى، وكذلك مفكرون إسبان آخرون من القرن السادس عشر والسابع عشر.

تتمتع الفلسفة الإسبانية بميل حدودي. منذ القرون الوسطى، اعتمدتها شخصيات مثل اليهودي ابن ميمون، والمسلم ابن رشد، والمسيحي رامون لول، رائد المشروعات الفلسفية المجددة مثل مشروع "اللغة الفلسفية" و"الكتابة العالمية"، ومؤلف واحدة من الروايات الفلسفية العظيمة الأولى: بلانكيرنا.

إن انصهار العقل النظري والعقل الشعري نجده في الفيلسوف العصامي، لابن طفيل، والناقد الحاد، لـ جراثيان، التي اعتبرها شوبنهاور في قمة الأدب العالمي، و"الرواية- النيفولا" التي كتبها أونامونو حول "الإنسان من لحم ودم، من يولد ويعاني ويموت"، والبيوريتاني الأخير، قصة خورخي سانتايانا، وهو مؤلف تموضع في برج مشغول بمواد قلعة انكلترا القديمة والجديدة، ومنذ ذلك الحين حدّق النظر في الطابع الشعري والرؤيوي للدين.

الذكاء بشكل أساسي حدودي. وحدوديته تكمن في النشاط المراقب المحتفظ بيقظته من فوق برج.

وانصهار العقل النظري والعقل الشعري يتأسس على "العقل التصويري" عند إوخينيو دورس، و"العقل الشعري"، و"العقل الصوفي"، و"العقل الإيروتيكي" و"عقل الأحلام"، عند ماريا ثامبرانو. هذه المفكرة أصابت عندما حملت "العقل الحيوي" و"العقل التاريخي" من أستاذها أورتيجا إلى مستوى شعري، كان بالفعل مهيأً له عندما جعلت من الحياة البشرية "الواقع الراديكالي"، ورأت هذا الواقع مثل رواية عن الحقيقة أو وظيفة مسرحية جادة.

حين تتحد الفلسفة والشعر تتوقف النتيجة على جودة الفلسفة وجودة الشعر المتحدين.

في رواياتي أركاديا، لعبة صالات الصالات، انحرافات، ضد نهاية القرن، وكذلك في ألعاب ساكرومونتي، اتبعت هذا النموذج في الانصهار. انصهار ترجع جذوره، في نهاية المطاف، إلى انصهار المحسوس بالجلي، كما يمكن أن نجده في الفلسفة الثمينة "الذكاء الذي يشعر"، لـ خابيير ثوبيري، تلميذ عظيم آخر من تلامذة الأستاذ العظيم أورتيجا.

وسواء في إضاءات فلسفية أو في حول الأساس وفي موجز الفلسفة العملية، كان مقترحي استعادة البعد العملي والتكويني للفلسفة، وهو بعد لا يمكن استعادته إلا بمزاوجة الخطاب المنطقي وخطاب الذاكرة. إن التكوين الكلي للشخص يتأسس على ممارسة المنطق مع استخدام الخيال والشعور بشكل منهجي. بمعنى، توحيد منطق المفاهيم مع منطق الذاكرة، بمعنى، الحياة.

ينطلق إعادة تأسيس الفلسفة، في المقام الأول، من تفنيد العدمية المعرفية؛ وفي المقام الثاني، من إعادة طرح معرفة الواقع –المفهوم كجمع للأشياء والحالات-؛ ويتأمل، ثالثًا، الأنا باعتبارها همزة وصل عليا شاعرة بالحالات والأشياء التي يسع تأملها والشعور بها من نقطة المكان والزمان التي يفرضها الجسد.

حين نشك في كل شيء، ينبغي أن نضع الشك نفسه في محل شك. فالشك في كل شيء يفق الشك قيمته.

الشك يفترض اليقين. اليقين، على الأقل، في أننا نشك.

 من يرفض الوحدة Unidad لا ينتبه إلى أن ذريعته التي يرفض من خلالها هي تأكيد لفكرة "الشيء الواحد"، ولا ينتبه إلى أنه، عندما يرفض الوحدة، يؤكد أن لدينا فكرة وحدوية عن معنى الوحدة.

  لا يمكن فهم شيء ولا الشعور به بدون فكرة الوحدة، أو مرجع أولي لها، إذ بدون وحدة من المستحيل فهم شيء أو الشعور به، لأن الأشياء هي الأشياء ولأنها شيء واحد محدد.

ثمة من يرى أنه ما من حقيقة، أن كل شيء مباح، ويمكن الرد عليهم بأن "ما من حقيقة" لا يمكن أن تكون حقيقة (وبالتالي كل شيء يمكن أن يكون محرمًا). ولا يمكن أن تكون حقيقة عبارة كل شيء مباح. ولا هي حقيقة أن من يقول عبارة كهذه يقول شيئًا هامًا.

 ليس من السهل دائمًا الفصل في ما إذا كانت الحقيقة التي تتطلع لحل محل وهم قديم ليست وهمًا آخر، أو أنها ستمنح كمًا وكيفًا من السعادة أكبر من الوهم القديم.

لو أكدت أنه لا يمكن معرفة الواقع فأنت بذلك تقبل أنه يمكن معرفته، إذ أنك تبدو واثقًا جدًا من معرفة أنك لا تستطيع معرفته. بمعنى آخر، أنت تعرف بقوة الواقع الذي تعرف أنك لن تستطيع التعرُّف عليه في المطلق.

أن يريد المرء أن يكون واضحًا بأقصى ما يمكن لا يعني ذلك أن بوسعه فعل ذلك دائمًا، إذ أن الأشياء الأهم تتجنب أن تكون واضحة. لكن، ورغم كونها غامقة، فالرجل الذكي مضطر أن يجلي ما فيها من غموض.





مشكلة العقل تكمن في أنه لا يرى الناس من لحم ودم، وإنما مجرد أشكال مجردة.

المعرفة لا تداوي بنفسها، إذ أنها محض تأمل، غير أنها تسمح لقوى الجسد والنفس أن تفرز تقنيات جسدية، ونفسية أخلاقية، ومنطقية، قادرة على مداواتنا.

بما أن الأنا ليست إلا سلطة الشعور وإدراك أشياء العالم من نقطة الزمان والمكان، فكل ما تعرفه الآنا عن نفسها يأتي من العالم ومن هذا الجزء الحي من العالم الذي هو الجسد.

ما هو أخلاقي ليس إلا تأويل الأشياء بحسب القيمة التي نمنحها لها لتنظيم السلوك.

كل ذوق، وكل تفضيل، مجرد حكم سابق، ثم يأتي العقل ليصنع منه حكمًا مبنيًا على أساس.

في أساس الشخص ثمة ديناميكية مصنوعة من قوى تنسجم مع بعضها البعض بشكل غير كافٍ. لو أنها انسجمت بشكل مطلق لانتهى الشخص.

بما أن السلوك يكمن في تنسيق حركات أعضاء الجسد مع حركات الأفكار، ينبغي على نبع هذا السلوك الذي هو الشخص أن يكون تركيبًا من حركات جسدية- عقلية منسقة فيما بينها ومتسقة مع العالم.

يعكس الأطفال فضولًا لا يتوقف حول الأشياء. إنهم فلاسفة، رغم أنهم لا يعرفون. يريدون معرفة كل شيء، لأنهم يشعرون بالدهشة أمام الأشياء، ولأنهم يحدسون أنهم، بمعرفتها، سيكونون قادرين على الوصول لاتفاق مع العالم.

يسمح لي الآخرون أن أرى الواقع من وجهات نظر مختلفة بدون أن أضطر للقيام من الكرسي.

لأكون أنا نفسي، يجب أن أتعلّم تمثيل أدوار متعددة وهكذا سأصيب في تحولي إلى آخرين. إن لم أصب في تحولي إلى آخرين، لن أستطيع الوصول إلى نفسي، بل ولا حتى سأعرف أي شيء هو أنا ذاتي.

لقد كتب سينيكا ذلك في الرسالة 48 إلى لوثيليو: "يجب أن تعيش للآخر، إن كنت تريد أن تعيش لنفسك".

يعتقد الشاب أنه يتحقق كشخص مستقل بفضل التمرد، لكنه لا ينتبه إلى أن التمرد عادةً ما يكون شقًا يعبر من خلاله أسوأ أشكال التبعية.

الكائن الفريد يحتاج إلى البحث عن ذاته، والإنسان كائن فريد يمكن أن يتوه في محاولة العثور على نفسه.

إنه مصنع سيناريوهات يحدد طرق التمثيل التي تتفق مع مسارح الحياة، محض بازار يُبتاع منها هذه السيناريوهات المعدة سلفًا لاستخدامها: هذا هو المجتمع.

كان أفلاطون العجوز يقول إن الحياة لعبة وإن أفضل ما يمكن أن نفعله أن نجعلها ألعابًا أشد جمالًا بأن تحرّك سلسلة العقل المصنوعة من الذهب الماريونيت البشرية، بدلًا من أن يحرّكها سلاسل العاطفة المصنوعة من معادن أشد رخصًا. ليس بيد الإنسان أن يتخلى عن السلاسل، لكن بيده أن يختار المعدن.

 ينبغي أن تصنع الفلسفة منك مشاهدًا يقظًا لذاتك، وأيضًا مفسرًا نبيهًا.

الإنسان مكوّن من مجموعة من التراكيب المعمارية والموسيقية للأشياء والحالات. تسعى الفلسفة العملية إلى مدّه بأحكام مناسبة يقيّم من خلالها هذه التراكيب.

إن أفضل أساس للمرء أساس يدعّم قدرته على خلق تناغم بين تناقضاته والسيطرة على تنافراته ووضعها في مكان ديناميكي.

أبعد من قاعات الدرس، أكثر ما نتعلمه يأتي من التحالف الثلاثي: الحياة والقراءة والأصدقاء، كلما تحقق شرط لا غنى عنه، هو الحفاظ على بقائنا مستقلين وأحرارًا، لنتمتع بيقظتنا أمام كل ما يحدث: ما يحدث لي وما يحدث للآخر. هذا المنهج الواعد له عيبه، إذ لو اتبعته ستخاطر بأن يدينوك بالنبذ.

ما من إدانة أعنف من تلك التي يصدرها قطيع المديوكرية. فالحسد وحده، والضغينة الكامنة بداخله، تتفوق فيها موهبتهم.

السبب الأساسي في تطور الذكاء في مجال علم الوراثة البشرية هو صعوبة انسجام المشاعر بأحوالها المتنوعة كما اختبرها الإنسان مع صعوبة تنسيق حركات أعضاء الجسد، المستقلة أكثر بكثير في الحيوان البشري منه في بقية الحيوانات. إن المشكلة الكبرى التي تمثلها صعوبة هذا التركيب المزدوج منح الإنسان الفرصة ليضاعف قدراته الفكرية.

الألم، عند تقديسه، يفيد في التعمق في الشرط الإنساني، لكنه كذلك يفيد ليخضع الإنسان للمعاناة الناتجة باستمرار عن وقوع الظلم عليه.

الإحسان، مثل أفكار الإخاء والتضامن، يفيد في استسلام الإنسان بشكل غيري لبقية ماعز القطيع، لكنه يتعرض لخطر الاستسلام مربوط اليدين والقدمين إلى من يرعون القطيع.

عندما يشعر الفرد أن الأفكار حول الله وحول الحياة الأخرى لا يمكن إدراكها على الإطلاق وبالتالي مثيرة للرعب، يتبنى فكرة أن ثمة شيئًا آخر أبعد مما يمكن إدراكه.

لهفة الطفل والشاب للمعرفة تهدأ مع مرور السنين، ليس لأنه حصل على جواب مُرضٍ وعدته به المعرفة، وإنما لأنه لمح أن دائرة المعرفة تغلق مع الوقت، وتبدو متكررة، مثل أسطوانة مخططة من كثرة لفها على إبرة الوجود.

حين لا ندرك أن كل فرد يضم بداخله صورًا متعددة لأفراد مصغرين وضمائر مصغرة، وأن هذا التعدد يتفق مع المهارات التي اكتسبها والمرجعيات الشخصية التي تعرف عليها، يحدث أننا نصدر أحكامًا خاطئة، إذ لا نصيب في تحديد ما يمكن أن ننتظره من كل فرد.

لو وضعنا في اعتبارنا أن الأسماء تشير إلى الأشياء بشكل غامض، وأن الأشياء تُقدم لنا بشكل غامض، سنفهم أفضل صعوبة تواصلنا بشكل دقيق مع الآخرين، وأيضًا مع أنفسنا.

كل تعامل بوحشية يأتي كنتيجة لرفض شيء شديد الوضوح مثل وجود أشياء أفضل وأسوأ. وعدم الرغبة في رؤية ذلك إشارة على أن العقل يعاني من خسوف وأن واحدًا من أسوأ أشكال الخرافة يتخفّى في شكل المساواة، ويثقل علينا.

الطقس الذي يُكرّس للمساواة هو أسوأ عدو للتفوق.

ليس نفس الشيء الحث على المساواة أمام القانون وإجبار الجميع على أن يكونوا متساوين. الشكل الأول من المساواة يساوي الحضارة، والثاني يساوي الهمجية.

عندما نحتقر التميُّز، تطرق الهمجية الباب.

لو كنا جميعًا مضطرين لأن نكون متساوين، لتحتم تخفيض مستويات الذكاء والأخلاق، إذ الأشياء الأساسية تساوي بين البشر، والتميُّز يفرّقنا.

رغم أن كل أفعالي محددة بسبب، إلا أن هذا التحديد لا يفرض أنها محددة مسبقًا باختيار السبب.

النقطة الحاسمة في حرية الاختيار ليس في امكانية اختيار شيء بدون سبب محدد للاختيار، وإنما في أن ولا واحد من الأسباب التي تقدم لي تجبرني على اختيار أحدها بالضرورة.

أنا حر الاختيار، بمعنى، أتمتع بحرية الإرادة، ليس لأن إرادتي غير محددة، وإنما لأني قبل تكوين إرادتي لفعل شيء، أستطيع اختيار السبب أو الهدف الذي يحدده.

الإرادة دائمًا محددة، لكن التأمل المؤدي إليها ليس هكذا. تأمل قرار هو البحث المنطقي عن السبب الذي ينبغي على الإرادة تحديده .

الحرية نبتة تتغذى على مادة الرفض، وعلى الإصرار أمام ما يُرفض. على الرفض الذي يُفرض على إرادتنا؛ وعلى تأكيد الحكم أو السبب الذي على أساسه نرفض ما يُفرض علينا.

كل شيء غامض، بما في ذلك عبارة كل شيء غامض. لو فقدتَ هذا الشعور لن يفقد العالم معناه، لكنك أنت من تفقد هذا المعنى.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.