تمنح جائزة "غوردون بيرن" للكتابة الروائية والواقعية على حد سواء، شرط أن تتسم بجرأتها وابتكارها، أو تلاعبها بالأسلوب، أو تجاوزها للحدود والأنواع، أو حتى تحدّيها لتوقعات القراء. فإذا ما حالفك الحظ وكنت من الفائزين بها، ستتاح لك، إلى جانب قيمتها المادية والمعنوية، فرصة الإقامة لمدة ثلاثة أشهر في المنزل الريفي للكاتب والصحافي البريطاني غوردون بيرن في بيرويكشاير على الحدود الأسكتلندية؛ وهو الكوخ الذي شيده بعد وفاة والده، وما لبث أن أدرك عدم استفادته المثلى منه، إذ كان لا يمكث فيه إلا لفترات قصيرة، فرغب بشدة بأن ينتفع به غيره، سيما وهو بالنسبة له، أفضل مكان يستجلب الإلهام، ومعتكف لا مثيل له للكتاب.

السير على خطى بيرن

منذ أن تأسست في عام 2012، أي بعد وفاة بيرن بثلاثة أعوام متأثرًا بسرطان القولون، تحرص اللجنة المانحة لغوردون على اقتفاء خطى بيرن، سواء في اختيار أعمال تقترب، أو على الأرجح، تتماس مع روح الفنان الذي صنع لنفسه مكانًا فريدًا في الكتابة البريطانية المعاصرة، وتصل إلى المدى الذي تباينت فيه موضوعاته؛ من القتلة المتسلسلين، إلى عالم الشهرة، والجريمة والرياضة والفن، وغالبًا ما كان يطمس الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، مستجيبًا لأحداث حقيقية ومذهلة ومروعة في بعض الأحيان.

ولد بيرن عام 1948 في مدينة نيوكاسل أبون تاين، شمال شرقي إنكلترا، لأسرة من الطبقة العاملة. وعلى الرغم من أنه بدأ حياته المهنية كصحافي، فقد برز في الكتابة الروائية والواقعية بالقدر نفسه. روايته "ألما كوجان" التي تخيلت الحياة المستقبلية للمغنية البريطانية ألما كوجان في حال عدم موتها عام 1966، فازت بجائزة ويتبريد لأفضل رواية أولى، وعرَّفت مبكرًا باهتماماته كما رصدها النقد في رواياته الثلاث اللاحقة "فولالف"، "خدمة المنزل في شمال إنكلترا"، "وُلد أمس: الأخبار كرواية". كذلك في كتبه الواقعية: "مصروف الجيب"، "زوج شخص ما، ابن شخص ما"، "سعيد مثل القتلة"، "في الطريق إلى العمل". وجاء كتابه الأخير، "الجنس والعنف، الموت والصمت"، على شكل مجموعة من المقالات عن الفن، كتتويج لمشواره.

من هنا استهدفت الجائزة الكتابة "الأكثر جرأة وابتكارًا"، تلك التي غالبًا ما تجد قراءها خارج النطاق السائد. لكن بوسعها دائمًا أن تخترق التاريخ وتستجوب الماضي، أو تعمل على إعادة صياغة شخصيات وأحداث تاريخية من أجل خلق واقع جديد وحيوي. وهو ما جعلها ترحب بالكتاب من خلفيات ناقصة التمثيل في الثقافة الأدبية السائدة، هؤلاء الذين اعتبر بيرن نفسه واحدا منهم، مشيرًا إلى وصولهم الصعب جراء خروجهم عن المتن العام.

غوردون بيرن

نصيب القارئ من المعاناة

تنوعت العناوين الخمسة المدرجة في القائمة القصيرة لجائزة غوردون بيرن 2022 التي أعلن عنها يوم 3 أغسطس/ آب، بين السيرة الذاتية والقصص الإبداعية والجريمة الحقيقية والخيال. ووصفتها اللجنة المانحة للجائزة بأنها "شاملة في الشكل والطموح"، و"تستكشف بلا هوادة موضوعات من التعاطف الراديكالي إلى طبيعة العقل إلى الواجب المصاحب للحرية". يأتي في مقدمتها كتاب ديفيد وايتهاوس الواقعي "حول ابن" (About a Son) الذي تمكن من الوصول إلى عمق التجربة الإنسانية ويشكك في حقيقة أن النار لا تحرق إلا من يقبض عليها أو تقبض عليه، ففي هذا الكتاب ثمة نصيب للقارئ من المعاناة لا يمكنه تجنبه.

في مساء عيد الهالوين عام 2015، كان مورغان ههير يسير مع أصدقائه وسط مدينة نونتون وإذا بحفنة من الأشرار تعترض طريقهم، لينتهي به المطاف في أحد المستشفيات لافظًا أنفاسه إثر طعنة غائرة. كان مورغان شابًا واعدًا في العشرين من عمره، يحب تأليف الموسيقى والرسم والضحك ولعب الكرة مع زملائه ويحلم بالسفر بعيدًا والعيش بجانب البحر.

ما سبق ليس إلا شرارة الانطلاق في كتاب صاحب رواية "السرير" التي نشرت في ثماني عشرة دولة وحازت على جائزة بيتي تراسك لعام 2012. فمنذ اللحظة التي سمع فيها والده الخبر، بدأ في الاحتفاظ بمذكرات غير عادية، تحولت تدريجيًا إلى سجل هائل لا يحوي تفاصيل الحادث فحسب، بل تضم بين جنباتها أيضًا، التطور المخيف لحزن عائلته، وجلسات محاكمة القتلة، ومعركة الأب المكلوم لكشف الأكاذيب والأخطاء والتستر على المجرم الحقيقي. إنه الحدث الذي بوسعه أن يغير من يمر به تغييرًا جذريًا كما يتضح من خلال الكتاب.

الحق في الحداد

كان فوز الكاتبة الهندية بريتي تانيجا بجائزة "إليوت" عام 2018 عن روايتها الأولى "نحن أولئك الشباب" بمثابة جواز مرور، تأخر طويلًا، إلى عالم الفن. إنها الرواية التي أرسلتها إلى العديد من دور النشر ولم تتلق إلا الصمت، "صمت يصم الآذان" على حد قولها. وها هي تدخل قائمة غوردون هذا العام بروايتها الثانية "في أعقاب كارثة" (Aftermath). التي تعالج بدورها جريمة قتل وفي نفس السن تقريبًا، لكن الجاني هنا فرد واحد، هو عثمان خان، سجين أطلق سراحه بعد ثماني سنوات، وسمح له بالسفر إلى لندن لحضور برنامج تعليمي للسجون كان قد شارك فيه.

لقد قامت تانيجا بالفعل بتدريس الكتابة الروائية في السجن لمدة ثلاث سنوات، وكان عثمان خان أحد طلابها. وفي 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، بينما يجلس في قاعة مع آخرين بعد خروجه بعام واحد من السجن، ذهب إلى دورة المياه لجلب أشياء كان يخفيها هناك؛ سترة وسكينين. في هذا الهجوم غير المبرر قتل شخصان؛ ساسكيا جونز وجاك ميريت، المشرف على البرنامج. تمزج تانيجا بين الصحافة والمذكرات والشعر والنقد الأدبي في مرثية حزينة لمعالجة الحادثة، معتمدة على التاريخ والذاكرة والشعراء السالفين لفحص الطبيعة المنهجية للفظائع. "في أعقاب كارثة" محاولة عميقة لاستعادة الثقة في الذات والآخر بعد تجريب العنف، واستعادة الأمل بين الأرواح التي يعتقد الكثيرون أن لا حق لها في الحداد.

الكتّاب المدرجة أسماؤهم في قائمة "غوردون بيرن": من اليمين: غرايم ماكراي بيرنت، دايفيد وايت هاوس، بريتي تانيجا، ليا يبي، ومارغو جيفرسون

الطب النفسي بين براثن الشك

يبدو أن الكاتب غرايم ماكراي بيرنت مولع بالكتابة عن الجريمة. عام 2015 ترشحت روايته "مشروعه الدموي" لقائمة البوكر القصيرة، ومنذ أسبوع تقريبًا، دخلت روايته الجديدة "دراسة حالة" (Case Study) قائمة البوكر الطويلة قبل أن تترشح لقائمة غوردون هذا العام. وعلى الرغم من اختلاف لهجتها وأسلوبها فإنها تركز هي الأخرى على الدراما النفسية المتشابكة باستخدام هياكل سردية معقدة من خلال امرأة شابة من لندن عام 1965، تعتقد أن معالجًا نفسيًا قد دفع أختها إلى الانتحار. وحتى تتأكد من شكوكها، تقوم بانتحال هوية مزيفة وتقدّم نفسها له كمريضة، مسجلة تجاربها في سلسلة من دفاتر اليوميات، لكنها سرعان ما تجد نفسها منجذبة إلى عالم لم تعد قادرة فيه على التأكد من أي شيء، حتى شخصيتها. وبينما ينتمي أحد الأصوات الرئيسية في مشروعه الدموي إلى طبيب السجن، المكلف بتحديد ما إذا كان المتهم لائقًا عقليًا للمحاكمة، تركز دراسة الحالة على الطب النفسي ككل، وكيف أن أولئك الذين يمارسونه ليسوا دائمًا مؤهلين لإصدار حكم على سلامة أو عدم سلامة من يعتقدون أنهم مرضى.

تضمنت الرواية مذكرات وسجلات لبعض الحالات النفسية من أرض الواقع، وتتبع في مضمونها هؤلاء الذين يشككون في جدوى الطب النفسي ويرونه نوعًا من الدجل والاحتيال.

سرد عميق لهوية المرأة السوداء

تعود الناقدة وكاتبة المذكرات الحائزة على جائزة بوليتزر، مارغو جيفرسون، بفحص ملهم واسع النطاق للطبقة والثقافة الأميركية والذاكرة الشخصية في كتابها "بناء الجهاز العصبي" (Constructing a Nervous System)، لتستكشف من خلاله الموسيقى والأدب والذاكرة، وتحدد دورها في الثقافة الأميركية باعتبارها مؤثرة ومتأثرة. في كتابها "نيغرولاند"، كشفت جيفرسون عن أعباء الانتماء إلى أسرة من الأميركيين السود الطموحين، وأوضحت بالتفصيل تأثير ذلك على أطفالهم.  وكيف هربت منهم إلى الموسيقى والأدب، ووجدت فنانين ساعدوها على تجاوز توقعات الأسرة الجامدة. من بين الموسيقيين الذين أثنت عليهم بيلي إيكستين، وجوني هارتمان، وبوبي شورت، وآندي باي، ونات كينغ كول، وبينغ كروسبي، وآيك تورنر. تشيد جيفرسون أيضًا بإيلا فيتزجيرالد، التي ازدهرت موهبتها اللاذعة على الرغم من سوء المعاملة والإهمال والانغماس في ثقافة تنافسية ضارية. وتؤرخ لأيقونات موسيقى الجاز والبلوز التي عشقتهم وهي ما زالت طفلة في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى جانب أفكار حول ما يمكن أن يكون عليه الجسد الأنثوي للراقصات داكنات البشرة. 

تكتمل قائمة غوردون بمذكرات ليا يبي "حر: بلوغ سن الرشد في نهاية التاريخ" (Free-Coming of Age at the End of History) التي سبق أن تناولناها في مقال مستقل حين فازت بجائزة أونداتجي. وتتتبع فترة طفولتها في ألبانيا، حين كانت واحدة من البؤر الاستيطانية الستالينية في أوروبا، وكيف اكتشف الألبان الذين اعتقدوا طويلًا أنهم أحرار، المعنى الحقيقي للحرية، وما ترتب على هذا الاكتشاف من انقلاب حياتهم رأسًا على عقب.

ترأس لجنة التحكيم هذا العام الكاتب دينيس مينا والذي وصف اختيار لجنته المؤلفة من كاتب العمود جوناثان ليو والمذيع ستيوارت ماكوني والفنانة والشاعرة هيذر فيليبسون والكاتبة شيترا راماسوامي، بـ"المثيرة والمدهشة"، مضيفا: "كل كتاب في القائمة يستحق الفوز بالجائزة".
ما الحل إذًا؟
هذا ما سنعرفه في مهرجان دورهام للكتاب يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث يتم الإعلان عن الفائز النهائي، ويتاح له الاعتكاف ثلاثة أشهر كاملة في المنزل الريفي المنعزل جالب الإلهام.