ولد الأديب التشيلي أنطونيو سكارميتا في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1940، ورحل في سانتياغو في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 2024، عن 83 عامًا، بعد حياة مليئة بالإبداع المتنوع في مختلف الوسائط الفنية، وإن كانت بصمته الأكبر والأبرز تجلّت في مجال الأدب، وتحديدًا الرواية، مقارنةً بغيرها، إذ يُعتبر سكارميتا من أبرز كتّاب الأدب في أميركا اللاتينية منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وقد اشتهر أكثر برواياته الفنية العميقة، ورؤيته الفريدة، ولغته الخاصة، وشخصياته التي جسّدت على نحوٍ لافت، وجهات نظره المتعلقة بقضايا محلية وعالمية وإنسانية بالغة الأهمية، مثل الهوية والحرية، كما التمثيل الصادق لصراعات الواقع الاجتماعي المضطرب، والصراعات السياسية، خاصة في أميركا اللاتينية.
سمات وثيمات في أدبه
من بين أكثر الأمور اللافتة في أعمال سكارميتا ولعه الشديد بالاستعارة، وحتى شرحه لماهية الاستعارة وطبيعتها وكيفية استخدامها والتدليل بأمثلة عليها، في أكثر من عمل من أعماله. يلاحظ، أيضًا، حبه أو حتى هوسه الكبير بالسينما. لا يقتصر الأمر على ذكر أبطاله لعناوين بعض الأفلام أو أسماء الممثلين فحسب، بل ثمة ذهاب متكرر إلى السينما لحضور الأفلام، حتى وإن اضطر أبطاله للسفر من البلدة إلى المدينة لدخول السينما، وثمة إشارات أيضًا إلى عمل البعض في دور السينما، أو الولع الخالص بالعمل في صناعة السينما وبالتمثيل، والرغبة في دراستهما. يتّسق هذا مع العشق المعروف عن سكارميتا للسينما، سواء على مستوى التدريس أو كتابة السيناريو أو الإخراج، أو حتى القيام ببعض الأدوار الثانوية في أكثر من فيلم، وإن لم يُعرف عنه كتابة النقد السينمائي.
أما أكثر الأمور لفتًا للانتباه وبشدة، في أكثر من عمل لسكارميتا، فهو الحضور الملحوظ لسعاة البريد، وعملية تبادل الرسائل أو الخطابات. أزعم أنه لم تخلُ رواية من رواياته من حضور للرسائل ولسعاة البريد. تجلّى هذا في إسناده البطولة لشخصية "ماريو" ساعي البريد في روايته الأشهر، "ساعي بريد نيرودا"، أو لأحد أبطال روايته "التمرد" وكان ساعيًا للبريد أيضًا، ونقرأ في الرواية رسائل كاملة تتبادلها الشخصيات. وهذا بخلاف ظهور شخصيات ثانوية أو الإتيان على ذكر مهنة ساعي البريد في أكثر من عمل. ومن ثم، يمكن القول إن سكارميتا قد خلّد هذه المهنة أو الوظيفة، في تاريخ الأدب المعاصر، بتسليطه الضوء عليها. حتى وإن كان أغلب سعاة بريد سكارميتا تقريبًا لا يقومون بنقل أية رسائل إلا فيما ندر، أو لا يكترثون لوظيفتهم، غير المجدية أصلًا، من جميع الجوانب، حتى بالنسبة للمجتمع المحيط غير المهتم بهم أو بوظيفتهم أو برسائلهم. وهذا لأسباب مختلفة، منها الحرب، أو تجنبًا للأخبار السيئة، أو حتى بسبب الجهل والأمية. وفي حين كان ماريو بطل "ساعي بريد نيرودا" يقرأ الرسائل من حين لآخر للسكان الأميين، كان ساعي البريد في "التمرد" يقرر أن الرسائل التي تحمل أخبارًا عن الموت من الأفضل ألا تصل لأصحابها.
لغته وشخصياته
تتّسم لغة سكارميتا بالشاعرية في أغلب الأعمال، حيث الثراء اللغوي المكثف، المتعدد الطبقات، وجماليات الوصف البصري السينمائي، وسلاسة التعبير، وكثرة الاستعارات. مع الحفاظ دائمًا على الحس الساخر، مما يمنح القارئ تجربة جمالية ممتعة وثرية، في أغلب الأحيان. ورغم هذا، لا يعطي سكارميتا أهمية بالغة للغة وألعابها، بحيث تطغى على تدفق وسلاسة السرد أو الوصف، أو تفشل في نسج وتكوين ونقل أحاسيس ودواخل الشخصيات، بل العكس تمامًا.
المثير أن سكارميتا، رغم كونه من رواد أو طليعة أدباء أميركا اللاتينية إلا أن سرده لا يتّسم بنفس السمات أو الخصائص اللافتة في هذا الأدب، وتحديدًا بما كان مميزًا ويُعد من خصائص أدب الواقعية السحرية. تقريبًا، ليس لدى سكارميتا أي ولع أو هوس بالواقعية السحرية والإغراق فيها. صلته بهذا النوع بالكاد قريبة أو يمكن رصدها، مقارنةً بأساتذة هذا النوع في أدب أميركا اللاتينية. كما أنه لم يكن مغرمًا بالألعاب الأدبية أو الابتكارات والحيل والألغاز السردية، وغيرها، رغم إنجازه مثلًا لرسالة ماجستير عن الأديب الأرجنتيني خوليو كورتاثر. إذ نلاحظ أن الحبكة العامة في رواياته تتّسم بالسهولة والبساطة، وغلبة السرد الخطي تقريبًا، حتى وإن لجأ، من حين لآخر، إلى تقنيات سردية متنوعة، بما في ذلك التلاعب بالزمن، وتعدد واختلاف زوايا الرؤية، أحيانًا.
أما شخصيات سكارميتا فيغلب عليها التعدد والتنوع والثراء، وابتعادها عن السطحية والضحالة، حتى وإن كانت بسيطة أو غير مثقفة أو لم تكمل تعليمها. الأغلبية منها تتّسم بالجنون، والطيش أحيانًا، وتتوفر على قدر كبير من الانفتاح والحرية أو البحث عن الحرية والهوية. أيضًا، تنتمي، في معظمها، إلى الطبقة الوسطى، المهمشة أو المضطهدة، في الغالب. وبصرف النظر عن الانتماء الطبقي أو درجة الثقافة إلا أنها عميقة ومعقدة، وتمثل أطيافًا واسعة من التجارب والخبرات الإنسانية، والصراعات الداخلية والخارجية المرتبطة بالحرية والهوية، كما الغربة والاغتراب بمعناهما العريض. ويلاحظ بشدة مدى تعطّشها لمعانقة الحب، بكل تجلياته، والحنين الدائم والرغبة في العودة إلى الجذور.
تجاوز الحدود
وفيما يخص الخلفية العريضة التي تدور فيها أعمال سكارميتا، فنجدها متعددة، ليست منغلقة أو قاصرة أبدًا على بلده، تشيلي. بالعكس، فالتجربة العريضة للكاتب، وتحدّره من أصول كرواتية، وتحدثه لأكثر من لغة، ومعيشته ودراسته في أكثر من بلد، ومعاصرته لأحداث كبرى، كانت لها أصداء انعكست بقوة في مختلف أعماله. مثلًا، بالإضافة إلى تشيلي، تدور أحداث رواية "التمرد" في نيكاراغوا. وتدور أحداث رواية "لم يحدث أي شيء" في برلين بألمانيا، التي عمل فيها سكارميتا لبعض الوقت سفيرًا لتشيلي وبتدريس السينما.
أما "عرس الشاعر" فبطلها المصرفي البوهيمي النمساوي ترجع أصوله لإحدى جزر الأدرياتيكي. بينما تتمحور "فتاة الترامبولين"، التي يمكن اعتبارها بمثابة الجزء الثاني أو تتمة لرواية "عرس الشاعر"، حول الهجرة الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وعن سكان جزر الأدرياتيكي، المنحدرين من أصل "ماليسيي" تحديدًا، وترمز لهم التشيلية "مجدلينا"، الشقراء الأوروبية الجذور، المولعة بالسينما وعاشقة التمثيل. في الروايتين، كما في غيرهما، يرصد الكاتب، من بين أشياء كثيرة، إنسانية وسياسية واجتماعية، تداعيات الحروب، وظهور النازية والفاشية، وآثار الهجرة والاقتلاع من الجذور والأرض واللغة، بنفس قدر رصده لصعود الديكتاتورية والفاشية في مختلف أنحاء العالم، وفي تشيلي تحديدًا.
السينما
بخلاف الحضور اللافت لفن السينما تحديدًا في حبكات أعمال أنطونيو سكارميتا، مقارنةً بغيره من الفنون، لدرجة أن إحدى رواياته تحمل عنوان "أب سينمائي"، إلا أن علاقة سكارميتا بالسينما وثيقة جدًا وتتجاوز الكلمة المكتوبة. وكان للسينما دورها الكبير في ذيوع شهرة سكارميتا، والتعريف بأعماله الأدبية وانتشارها وترجمتها، وبالأخص إكساب روايته "ساعي بريد نيرودا"، الصادرة عام 1985 شهرة جد واسعة، والتسبب في ترجمتها لمختلف لغات العالم. سيما وأن اقتباسها للسينما نال إعجاب النقاد والجمهور معًا.
فوق هذا، تم ترشيح الفيلم لجوائز عديدة، منها أربع جوائز "أوسكار"، وفوزه بجائزة "أوسكار" لـ"أحسن موسيقى"، بخلاف فوزه بجوائز أخرى مستحقة.
على مدى ساعة و50 دقيقة تقريبًا اجتهد البريطاني مايكل رادفورد في فيلم "ساعي البريد" (1994) كثيرًا للاقتراب من روح الرواية، والابتعاد عن النقل الحرفي للأحداث، وتغيير النهاية بعض الشيء. الفيلم الذي تألق فيه النجم الإيطالي الراحل ماسيمو ترويزي في دور البطولة، مجسدًا شخصية ماريو ساعي البريد، والفرنسي فيليب نواريه في دور بابلو نيرودا، يركّز إلى حد بعيد على العلاقة بين ماريو ونيرودا، ويبرز قوة الكلمات والشعر والحب من خلال الصورة والكلمات.
لكن الفيلم، في النهاية، لم يصل إلى مستوى التفاصيل والجماليات والخفة والقوة الحاضرة في ثنايا الرواية. وبخلاف الأداء التمثيلي اللافت، خاصةً لماسيمو ترويزي، فثمة براعة تجلّت فعلًا في اختيار أماكن التصوير، الجميلة والواقعية للغاية، وفي نقل الحالة العامة التي للجزيرة وسكانها العاملين في صيد الأسماك. وبالطبع، الموسيقى التصويرية البديعة فعلًا والمؤثرة التي أنجزها الأرجنتيني المخضرم، وأحد أهم من أبدعوا في الموسيقى التصويرية، لويس باكالوف.
ثمة الكثير من الإثارة المتعلقة بالمراحل الإنتاجية لهذا الفيلم الخالد لعدة أسباب. إذ المعروف أن الرواية نفسها كان سكارميتا قد استلهمها من سيناريو أحد أفلامه الذي كتبه وأخرجه بعنوان "صبر متأجج"، وهو روائي طويل أنجزه عام 1983. ثم صدرت رواية سكارميتا تحت عنوان "الرسالة التي لم تُرسل" أو، وفقًا للعنوان الأشهر، "ساعي بريد نيرودا"، عام 1985. متناولةً، في جانب منها، السنوات الأخيرة في حياة بابلو نيرودا، الشاعر التشيلي الأهم والأشهر في أميركا اللاتينية والعالم، والحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1971.
وعلى صغر حجمها (158 صفحة في ترجمتها العربية) تعتبر أكثر رواياته رشاقةً وعذوبةً وحيويةً وخفةً وسخريةً وعمقًا، وأبرعها في دمج ما هو شخصي ومتخيّل وواقعي وسياسي معًا. وذلك من خلال شخصية القروي الشاب ماريو خيمينيث، المعدوم الأفق، الذي يصبح ساعي بريد الشاعر التشيلي الشهير أثناء إقامته في قرية الصيادين خاصتهم. وبمجرد تعيينه، واقترابه تدريجيًا من نيرودا، تتغير حياته كليةً. إذ تتطور علاقة الصداقة بينهما، ويتعلم ماريو من نيرودا فن الشعر والاستعارة والحب.
تحمّس الممثل ماسيمو ترويزي لتنفيذ الرواية، وبالفعل أُنجزت معالجة السيناريو، وبناءً على طلب ترويزي صارت الأحداث تدور في إحدى الجزر الإيطالية، باعتبار أن نيرودا قد نُفي إليها. من هنا، فالفيلم ناطق بالإيطالية، على عكس الرواية. ويؤدي شخصية نيرودا الفرنسي الذي لا يجيد الإيطالية فيليب نواريه. أيضًا، رغم أن أحداث الرواية تدور خلال مطلع الثمانينيات إلا أن ترويزي جعلها تدور في عام 1950، حتى كأسلوب إخراجي. كما جعل البطل في أوائل الأربعينات من عمره، وليس مراهقًا مثل بطل الرواية.
المعروف أن ماسيمو كان شديد المرض أثناء تصوير الفيلم، وقام بتأجيل عملية قلب، كانت ضرورية جدًا لإنقاذ حياته، إلى ما بعد انتهاء التصوير. ومع ذلك، بمجرد انتهاء التصوير توفي ماسيمو بسكتة قلبية. رغم أنه لم يكن بوسعه تصوير أكثر من ساعة واحدة في اليوم، وقد تجلّى الإعياء البالغ على أدائه الجميل والصادق جدًا في الفيلم. المثير أنه كان قد أصرّ على تسجيل الحوار الصوتي الكامل للفيلم تحسبًا لوفاته أثناء التصوير. وبالفعل، جرى تركيب صوته لاحقًا في الفيلم الذي لم يتسنَّ له مشاهدته. أيضًا، من الغريب أيضًا أن الكثير من المراجع التاريخية، والمواقع الموثوقة، حتى الإيطالية، تذكر اسم ترويزي كمخرج مشارك للفيلم، رغم أن اسم رادفورد فقط هو المكتوب على شريط الفيلم.