ترجمة: لطفية الدليمي
غيابُ المعنى يخلعُ الألوان من حياتنا ويجعلها باهتة. كلّ شيء مع غياب المعنى يتضاءل إلى لون رمادي خافت، ويتحرّكُ بكيفية آلية وبلا مبالاة كاملة نحو وجهة تعبث بها أيادي القدر، تمامًا مثل مسافرين من غير بوصلة تقود وجهتهم قد نجد أنفسنا حينها نعيش من غير أهداف واضحة، غير واثقين من وجود أيّ معنى مقبول ومقبول لكفاحنا في الحياة. لو كنتَ قد شعرتَ بهذا الشعور من قبلُ فستكون قد مررتَ بحالة يسمّيها الفلاسفة أزمة وجودية Existential Crisis.
أسطورة سيزيف: عن عبثيّة الحياة
تُعدُّ أسطورة سيزيف Myth of Sisyphus الإغريقية القديمة المثال الاستعاري الأكثر شهرة عن عبثية الحياة (أو بعبارة أخرى: افتقادها إلى معنى). تحكي هذه الأسطورة عن سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة بقضاء حياة أبدية وهو مرغمٌ على دفع صخرة ثقيلة إلى أعلى جبل شاهق. يحصل هذا الأمر فقط ليشاهدها تتهاوى على الأرض عندما تكاد تقتربُ من القمّة. يبدو سيزيف في هذه الأسطورة عالقًا في فخّ أداء ميكانيكي لمهمّة لا معنى لها ولا غاية ترتجى منها، وبهذا الترتيب صار سيزيف رمزًا صالحًا لتوصيف الوجود البشري، كما يرى ألبير كامو Albert Camus.
رأى كامو أنّ الوجود المأساوي للإنسان يكمن في بحثه عن المعنى في عالمٍ يمثلُ الافتقاد إلى معنى خصيصة متأصّلة فيه. الوجود البشري - كما يراه كامو- مكتنفٌ بعبثية خالصة هي جزء من نسيجه الجوهري، وهو (الوجود البشري) يتآكله صراعٌ مستديمٌ وأبدي بين البحث العقيم للمرء عن الفهم العقلاني Rational Understanding للعالم وإيجاد حلول عقلانية لمعضلاته من جهة، في مواجهة عالمٍ لاعقلاني وغير مكترث بالوجود البشري من جهة أخرى. صرّح كامو بهذا الشأن في بعض ما كتب عام 1942: "العبث ليس شيئًا يختصّه الإنسان له، وليس شيئًا يختصّه العالَمُ له. هو في وجود الإنسان والعالَم معًا".
حياة بغير معنى: هل تستحقُّ العيش؟
قدّم كامو حُججًا أراد منها تأكيد ما رآه حقيقة الوجود البشري: أسطورة سيزيف هي حكاية كلّ فرد بشري. كتب في هذا الشأن عام 1942: "يعمل العامل اليوم لأداء المهام ذاتها كلّ يوم، وطيلة أيام حياته. مصير العامل هذا ليس أقلّ عبثية من المصير السيزيفي؛ لكنّه يتلبّسُ لبوسًا مأساويًا فقط في تلك اللحظات النادرة التي يصبح فيها العامل واعيًا بحقيقة حالته الوجودية".
السؤال الجوهري الذي سعى كامو للإجابة عنه - وهو السؤال الذي أظنُّ أنّ بلوغ جواب له هو المهمّة الأساسية لأيّة فلسفة جادة ورصينة منذ بواكير الاشتغال الفلسفي حتى اليوم- هو: هل تستحقُّ الحياة أن نعيشها أم لا؟ افتتح كامو مقالته الشهيرة المعنونة بـ أسطورة سيزيف (نشرها لاحقًا في كتاب- المترجمة) بالقول إنْ لا أحد يفكّرُ في الإنتحار عندما يشتغل في موضوعات الوجود أو الميتافيزيقا أو العلم حتى في تلك الحالات التي تواجهه فيها معضلات مستعصية؛ لكنّ العديد من هؤلاء أنفسهم فكّروا في الإنتحار عندما واجهتهم موضوعة (غياب المعنى) المتأصّلة في حيواتهم.
الإجابة البسيطة والواضحة لهذا التساؤل العميق والمؤلم، ومن غير تعقيدات طنّانة، هي: تستحقُّ الحياة بكلّ حمولتها العبثية المتأصّلة فيها أن نعيشها من أجل ذاتها فحسب. سجّل كامو في مقالته تلك توبيخًا قاسيًا بحقّ محاولات الفلاسفة الوجوديين السابقين للهروب من العبث ومحاولة التلاعب معه أو إعادة تكييفه. يجب أن نكفّ عن البحث من أجل غاية أسمى خبيئة؛ بل علينا - بدلًا من هذا السعي المخاتل- أن نقبل الحياة بكلّ عبثيّتها، ونحتضن غياب المعنى فيها. يتوجّبُ علينا العيش بنزاهة وصدق وحرّية وشغف بدون الوقوع بين مخالب الإستسلام لليأس والعدمية: هذا هو ما يحسبه كامو الشكل الأعلى للثورة ضدّ العبث وغياب المعنى. "أنا أتمرّد، إذًا أنا موجود I rebel, therefore I exist" كانت إعادة صياغته المفاهيمية للكوغيتو الديكارتي الشهير، وهو ما دافع عنه وشرحه بإسهاب في كتابه "المتمرّد The Rebel".
هل نستطيع أن نجد السعادة في عالم بلا معنى؟
الحياة جميلة في لحظتها العابرة ووجودها غير المؤبّد. لو استطعنا عيش حياة أصيلة في تناغم تام مع هويتنا (من نكون؟)، وكيفية عيشنا ووسائله، فحينها يمكننا بلوغ السعادة التي يتجوهر سرّها الأساسي في الأصالة Authenticity. يرى كامو أنّ السعادة وغياب المعنى ليسا مبدأيْن متعارضين ينفي أحدهما الآخر حتمًا Mutually Exclusive Principles، بل الأمر على خلاف هذه الشاكلة. يكتب كامو في هذا الشأن في مقالته الشهيرة عام 1942: "تمامًا مثلما يجعلنا اندفاعُ الأدرينالين عند خوض التجارب الخطيرة نشعر بحيوية طافحة أعظم من الحياة المستكينة، فكذلك ستكون الحياة أفضل عندما لا يكون لها معنى".
في اللحظة التي نتقبلُ فيها عبثية وجودنا البشري فسوف نتمكّنُ من عيش حياتنا على أفضل وجهٍ وأكثره كمالًا. حينها سيمكننا عيشُ اللحظة الحالية بدون الاهتمام بتحقيق غاية بعيدة المنال في المستقبل. كم هي مثيرة حقًا تلك العبارة التي إختتم بها كامو مقالته عن سيزيف: "الكفاحُ في ذاته نحو القمم العالية مسعى كافٍ لملء قلب المرء بالسعادة. يتوجّبُ علينا منذ اليوم أن نتخيّل سيزيف سعيدًا".
الحياة ليست رِحْلة: عن تغيير رؤيتنا
تمّ تدريبُنا في الحياة لكي نعمل على أهداف مؤشّرة ومحدّدة تحديدًا صارمًا Target-Oriented، نطاردُ كلّ حياتنا هدفًا مخاتلًا يصعبُ بلوغه، وبعدما نمسكُ بالهدف المؤشّر يصبح كلّ شيء منطقيًا، وسنوصفُ حينها بأنّ جهودنا أثمرت أخيرًا في نهاية رحلة سيزيفية بلغت منتهاها. رحلة سيزيفية واحدة فحسب من غير تكرار أبدي. حينها، وحينها فحسب وليس في أي طور آخر، يمكن لنا تسكين أرواحنا القلقة وأذهاننا المكدودة وأجسادنا الموجوعة عبر الوفاء بتحقيق الغاية التي سعينا لها. لكن برغم هذا الذي نحسبه إنجازًا أعظم في الحياة، عندما نبلغ ما نحسبه وجهتنا المشتهاة في الحياة غالبًا ما نجد أنفسنا غير قانعين بالرضى، خائبين، عالقين في مصيدة الشعور العابر، اللحظي، بنشوة الوصول إلى الهدف!! حينها سنحثّ أنفسنا على الإسراع للعثور على أقرب خارطة طريق تعيننا في العثور على الهدف التالي الذي يستحقُّ منّا السعي لبلوغه. إنها رحلة سيزيفية نحن نصنعها بدلًا من الآلهة. أليست كذلك؟ نحن - مثل سيزيف- عالقون في سلسلة من الحلقات المتّصلة من الكفاح اللانهائي نحو غاية عليا لن نحققها أبدًا. "نحن خدعنا أنفسنا طوال الطريق"، هذا ما صرّح به ألان واتس Alan Watts.
ثمّة تفارقٌ واضح بين فلسفة كامو وفلسفة واتس؛ لكن على الرغم من التفارق فإنّ واتس هو أحد المفكّرين القلائل الذين صرّحوا- مستخدمًا أبسط العبارات- بضرورة العيش من أجل الحياة لذاتها. معنى الحياة كما يراه واتس هو ببساطة أن تكون على قيد الحياة فحسب. الكون المادي ليس له غاية يسعى إليها، وكذلك هي حياتنا. في سياق معنى الحياة إقترح واتس أن يُنظرَ إلى وجودنا البشري بالكيفية ذاتها التي ندرك بها الفن؛ فالموسيقيّ لا يعزف الموسيقى لكي يبلغ نهاية مقطوعته الموسيقية، وكذلك يفعل الراقص؛ فهو لا يرقص لكي يصل منطقة محدّدة من قاعة الرقص. هما يفعلان ما يفعلان لذات الفعل وليس لبلوغ غاية أخرى. جوهر الموسيقى هو الموسيقى، وغاية الرقص هي الرقص فقط.
إذا ما نظرنا إلى الحياة على هذا النحو فحينئذ فقط يتّحد سعيُنا مع ما نسعى إليه، وهذا هو الجوهر الحقيقي لكلّ إنجاز ثمين في الحياة. هذه هي الخلاصة الثمينة التي انتهى إليها واتس في كتابه طريق الفلسفة The Tao of Philosophy:
"فكّرنا في الحياة دومًا على أنّها رحلة لها هدفٌ يتّسمُ بالجدّية والعظمة في نهاية الأمر، وكان هدفنا في الحياة هو بلوغ تلك النهاية. لقد أخطأنا الهدف طوال الطريق. الحياة شيء موسيقي، ومن المفترض فينا أن نرقص في أثناء عزف الموسيقى". هل فعلنا ذلك من قبلُ؟ هل نفعله اليوم؟ وهل سنفعله في المستقبل؟
(*) ميسرة كمال Maysara Kamal: حاصلة على شهادة البكالوريوس والماجستير في الفلسفة ودراسات السينما من الجامعة الأميركية بالقاهرة AUC. تغذّي شغفها بالفلسفة بوساطة أبحاثها المستقلة. لها شغف أيضًا بكتابة القصائد والقصة القصيرة ومشاريع النصوص السينمائية.
(**) هذه المادة منشورة في موقع The Collector الإلكتروني بتأريخ 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024.
العنوان الأصلي للمادة المنشورة باللغة الإنكليزية:
Is My Life Just a Cosmic Accident? Finding Meaning in a Meaningless Universe