كتاب لوتا شولركفيست "أسرار مارنا هاوس – حكايات من غزة" صدرت مؤخرًا طبعته بالعربية (عن منشورات دار المنى بالسويد) بترجمة من الشاعر الفلسطيني وليد الهليس الذي يعيش في السويد، والذي عاش الشهور الأولى من المحرقة في المدينة وشهد في صورة حية ومباشرة فصولًا من تلك المحرقة التي راح ضحيتها الآلاف من أطفال المدينة ونسائها ورجالها، وجرى بث معظم أحداثها على شاشات الفضائيات العربية والعالمية، والتي دفعت أهوالها المحكمة الجنائية الدولية مؤخرًا لإصدار قراراتها بحق قادة العدوان في سابقة عالمية لم تحدث في تاريخ قضية فلسطين الطويل والمرير.
فصول كتاب "أسرار مارنا هاوس" تقارب لوحات تجولت بين المدينة وناسها الذين عاشت معهم الكاتبة كأصدقاء لسنوات طويلة، وتابعت من خلالهم ومن خلال ما وقع لهم بعضًا من سيرة غزة وفلسطين في موضوعات مختلفة لها علاقة وطيدة بالحرب والسلام كما بالعمل وشؤون المعيشة والتطور، وبالطبع بمفاهيم أهل غزة للحياة عمومًا ومقارنتها بمثيلتها في أوروبا والبلدان المتطورة عمومًا. نجد تلك المفاهيم تشغل جانبًا مهمًا من حوارات الكاتبة مع أصدقائها الغزيين وبالذات النساء منهم... لوتا شولركفيست التي حملت حبًا وصداقة حميمة للفلسطينيين وتعاطفت مع قضيتهم الوطنية وقضاياهم اليومية قدمت في كتابها صورًا تتناول قضية الزواج بكثير من الاهتمام وخصوصًا دور المرأة الفلسطينية في بناء الأسرة، والذي رأت أنه دور متميز بما هو أعباء خاصة تتحملها المرأة الفلسطينية خصوصًا في أزمنة الحروب ومواجهة أخطارها وتسليط الضوء على قضية اهتمام المرأة الفلسطينية بالتعليم سواء لها بشكل خاص أو لأبنائها، رغم الظروف الاستثنائية التي لا تساعد نساء غزة على تلقي العلم الأكاديمي بسهولة.
قارئ كتاب "أسرار مارنا هاوس" يلمس براعة الكاتبة السويدية في رؤية أبعاد حياة الفلسطينيين ورؤيتهم لمستقبل بلادهم، وخصوصًا حرصهم على توثيق الماضي واستعادة تراثه الحضاري، فالكتاب ومن خلال حكايات مشوقة يقدم رؤى وحكايات هامة خصوصًا في الحرص على تحقيق ذلك حتى من خلال الجهود الفردية التي دفعت رجل أعمال من أبناء غزة إلى تأسيس "متحف" بالجهود والإمكانات البسيطة. هنا بالذات تقدم الكاتبة حكاية "تل العجول" الأثري والذي اكتشفت في ترابه بعثات أوروبية متعاقبة الكثير من القطع واللقى الأثرية التي تميط اللثام عن علاقات المنطقة بالحضارات القديمة وبالذات الفرعونية، وهي الجهود التي أوقفتها الحروب بل ودمرت ما تحقق منها قبل أن يكتمل الحلم بتأسيس متحف حقيقي حديث.
في جوانب وصفحات عديدة من الكتاب تقدم الكاتبة صورًا لتفاصيل الحياة اليومية من خلال مشاهد ولوحات صغيرة ليوميات العائلات التي عرفتها وعاشت معها، ويلفت الانتباه فيها حواراتها بالذات مع النساء وتفاصيل عيشهن وما يحملن من مفاهيم وعادات يومية هي سلاحهن في مواجهة الواقع الراهن ومصاعبه وبإمكانيات محدودة.
"مارنا هاوس" الذي اختارته الكاتبة عنوانًا لكتابها (وعنوانًا لغزة وحياتها فيها) هو فندق قديم أداره أحد أبناء غزة وكان يؤمه بالذات الصحافيون والإعلاميون الذين اعتادوا زيارة قطاع غزة لتغطية أحداث غزة، وبالذات الحروب المتلاحقة، وسنرى "أبطال" تلك الحكايات يقدمون موشورات كاشفة لشكل الحياة السياسية في غزة وخصوصًا تحت حكم الإسلام السياسي وما شهدته من تبدلات قسرية أثرت على الناس عمومًا وعلى النساء في صورة خاصة.
ليس "مارنا هاوس" رواية ولكنه مع ذلك ينظم عقد حكايات يومية تشكل سيرة مجتمع في أقصى درجات توتره، فهو يقاوم ويعيش جزئيات أيامه بكثير من الطموح في متابعة تشكيل حياته بصورة ناضجة أو لنقل أنها تجاهد كي تكون كذلك، وفي الكتاب اهتمام بالغ بتفاصيل روحية وعاطفية تسمح لنا أن نعتبره كتاب سيرة بامتياز، وإن تكن سيرة تتجاوز فردًا أو بضعة أفراد إلى محاولة رسم صورة المجتمع ككل وملاحظة سيرورة هذه السيرة وما تواجهه من أحداث دامية كان لها قسوتها الاستثنائية التي حطمت أطره كمجتمع وتركته في كل مرة يبدأ النهوض ومحاولة البناء من جديد، وأهمية هذه "السيرة" أنها تتشكل بقلم ليس محايدًا ولا استشراقيًا بل قلم صديق يعي ظروف الفلسطينيين في القطاع الصغير والمحاصر وما واجهوه وما زالوا يواجهونه من عسف وقهر غير مسبوقين.
ومع أن "مارنا هاوس" سجل كل تلك الأحداث قبل وقوع المحرقة الحالية في قطاع غزة، إلا أنه يقدم ما سبق هذه المحرقة من حروب دامية عاش فيها القطاع ظروفًا مشابهة لظروف المحرقة الحالية، وهي ظروف لا تختلف عن الراهن سوى في أنها كانت حروبًا قصيرة لا يتجاوز أطولها الشهرين، فيما تتواصل اليوم فصول المحرقة لعام طويل قاسٍ ويزيد.
هو كتاب محبة من كاتبة حملت قلمها وصدقها وجاءت لتكتشف الحقيقة الصافية من أفواه أصحابها ومن صدقية التدمير الشامل الذي واجهه أهل القطاع وواجهته بيوتهم وشوارعهم، وظلوا رغم ذلك ينهضون في كل مرة ويتطلعون إلى الحياة والمستقبل بأمل وشجاعة.