في الغرب، نتذمَّر ككلاب قلطيَّة متحمّسة، بدون أن نقدّر مدى حداثة حريتنا في توجيه الانتقادات اليوميَّة حول السياسة، الرياضة، المناخ، الطعام، أو حتى حول مواضيع متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة العالميَّة التي قد تتركنا بلا وظائف. العديد من الحريات الفرديَّة التي تعرِّف الديمقراطيَّات الغربيَّة - حريَّة الرأي، حريَّة الصحافة، حريَّة التظاهر، حريَّة التنقل، حريَّة الضمير، وحريَّة التجمع - هي تطورات لهذا النمط من التذمر الشخصي، والذي يُعتبر، إلى حد ما، جوهر المواطن الغربي. في الثانية التي تستغرقنا لقول "آه!" تطلق في العالم الرقمي نحو ستة آلاف تغريدة، تُضاف إلى عدد مهول يبلغ 200 مليار تغريدة سنويًا، تمثل الشكاوى منها نسبة كبيرة.
مع "العولمة الرقميَّة"، شهدنا ما توقعه عالم الاجتماع الأميركي نيل بوستمان في كتابه الصادر عام 1985 "تسلية أنفسنا حتى الموت". عنوان تصعب ترجمته حرفيًا [من الإنكليزيَّة] ولكنه يعني شيئًا يشبه "نقتل أنفسنا بالسعادة"، يشير إلى الثقافة الشعبيَّة كنوع من الترفيه الذي يعمل مثل "السُّوما" عند هكسلي، وهو دواء بلا آثار جانبيَّة يبقي السكان العالميين منشغلين بثبات، ويقمع كل إرادة لتحسين الروح أو تحقيق شيء غير موجود لديهم بالفعل. عندما قرأنا بوستمان وهكسلي منذ عقود، تأثرنا بتوقعاتهم المتعمقة حول مجتمع الاستهلاك، والدعاية، والتلاعب، وعلم النفس الجماعي، واستغلال العلم، والشموليَّة، والقضاء على التفكير النقدي. كل هذا كان يبدو لنا أمرًا لن نعيشه أبدًا. كان "عالم جديد شجاع" لهكسلي خيالًا علميًا، وهو جنس أدبي مخصّص للـ"مهووسين". أما كتاب بوستمان فكان مقالة ذكيَّة من الثمانينيات، وعبئًا تحليليًا افتراضيًا على عالم هكسلي، حيث تصوّر "الحضارة" كفقاعة من التخدير التكنولوجي والسعادة المصنعة والإشباع الفوري. هذا لم يكن ذلك ليحدث لنا.
لكن بعد ذلك جاءت العولمة، وهي تلك الترابطيَّة الكوكبيَّة الطاغية التي بدأت في عام 1492 عندما اكتشف كريستوفر كولومبوس القارة الأميركيَّة، ودشن العصر الحديث، ثم بلغت ذروتها مع ستيف جوبز وبيل غيتس، من خلال الهاتف الذكي والحاسوب الشخصي، اللذين يمكّنان 8 مليارات شخص من التواصل في الوقت الفعلي. هذا الهاتف الذكي، الذي قدمه جوبز للعالم في عام 2007، أصبح اليوم أداة يوميَّة تبدو وكأنها كانت موجودة دائمًا، في حين أنها في الواقع الطوطم التكنولوجي والإعلامي والثقافي للعصر السيبراني. يكاد يكون من المستحيل تخيُّل عصرنا الحالي بدون الإنترنت، أو الهواتف المحمولة، أو وسائل التواصل الاجتماعي. لكننا، نحن القادمون من قرن الحداثة الأدبيَّة، والسرد الداخلي، والحكاية المجزأة، والسيرة الذاتيَّة، من القرن الذي شهد فرويد، وبيكاسو، وفوكو، وفيتجنشتاين، وكوري، وبوفوار، نتساءل: ما هو وضع الثقافة اليوم؟
في عام 2014، نشر الصحافي الأميركي كارل تارو غرينفيلد في صحيفة "نيويورك تايمز" مقالًا جاء فيه: "لم يكن من السهل في أي عصر من العصور السابقة، كما هو في القرن الحادي والعشرين، أن نتظاهر بمعرفة كل شيء بدون أن نعرف شيئًا في الواقع"، مشيرًا إلى نموذج التفاعل المحموم في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يجبرنا على مدار الأربع وعشرين ساعة على إثبات أننا لسنا أمّيين. وحذّر الصحافي قائلًا: "نحن نقترب بشكل خطير من 'تقليد' ثقافي جديد يمثل نموذجًا جديدًا للجهل"، قبل أن يعترف بأنه أيضًا "محتال ثقافي" استسلم لإغراء التباهي بالمعرفة على الشبكات الاجتماعيَّة.
هذه النظرة الكاسحة قد تدفعنا إلى التساؤل عما إذا كنا أمام تحوّل في مفهوم الثقافة الغربيَّة. في الواقع، يسمح العصر السيبراني بوصفه ديمقراطيَّة رقميَّة لملايين الأشخاص الذين يمتلكون هواتف ذكيَّة أن يحددوا ما يعتبرونه ثقافة وبأي شكل يريدون استقبالها. في هذا المسار من التثقيف الذاتي، لم يعد دور المثقف الكلاسيكي - ذلك المثقف المُبَجل في القرن العشرين - ضروريًا أو ربما قد يستبدل بنجم إعلامي يدير برنامجًا على يوتيوب. وفقًا لهذه المعايير الجديدة، من الواضح أن الثقافة بعد الثورة الرقميَّة لن تكون كما كانت سابقًا.
ماريو فارغاس يوسا، آخر الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب باللغة الإسبانيَّة، ندّد بهذا في عام 2012 ضمن كتابه "حضارة الفرجة"، الذي تُرجم إلى الإنكليزيَّة بعنوان "ملاحظات حول موت الثقافة". كانت وجهة نظر مثقف مستاء، بين غي ديبور ونيل بوستمان، يصف المشكلة على أنها مسألة أولويات مختلة: "الترفيه، والهروب من الملل، هو الشغف العالمي"، كما كتب ت. س. إليوت، في كتابه "ملاحظات لتعريف الثقافة"، حين تحدث عن "نظام عضوي ومعتقدات مشتركة لا يمكن تخطيطها أو فرضها بشكل مصطنع". بهذا الوصف للظاهرة على أنها انهيار عالمي لعقليَّة معينة، كان المؤلف الأنجلو أميركي محقًا في تصور الثقافة العالميَّة ككائن عضوي ذي حياة خاصة. ربما من الممكن التكهن بأن شكوى المثقفين اللاذعة، كما في حالة فارغاس يوسا - والإهانات التي يوجّهها الكاتب الإسباني أرتورو بيريث-ريفيرتي للأشخاص الذين لا يقرأون - لن تستطيع إحياء الثقافة القديمة. لكن ماذا عن المثقفين؟ هل ما زال يوجد هؤلاء المعلّمون (الحكماء) الثقافيون الذين ظلوا يتمتعون بحصانة لعدة قرون، إن لم يكن آلاف السنين؟ نعم، يوجد بعضهم. لكن فكرة المثقف اليوم تبتعد شيئًا فشيئًا عن كونه شخصيَّة مقدَّسة في مجال المعرفة، وتقترب أكثر من مفهوم دوايت أيزنهاور: "المثقف هو شخص يستخدم كلمات أكثر مما يلزم ليوحي بأنه يعرف أكثر مما يعرف بالفعل".
في البلدان الغربيَّة، أصبحت الكلمة تُستخدم بازدراء على نحو متزايد، بل حتى يُضاف إليها أحيانًا صفات مثل "مزعوم" أو "مدَّعٍ". إن وظيفة التلقين القديمة، دور التبشير بين الجاهلين، يؤديها اليوم النشطاء السياسيون والمحرضون الإعلاميون على شبكات التواصل الاجتماعي. ففي الدول الغربيَّة، جردت الرقمنة المثقفين الكلاسيكيين من هالتهم ككائنات مستنيرة، وحوّلتهم إلى كائنات زائدة عن الحاجة، في طريقها نحو الانقراض. لأن المتعلم الذاتي يكتفي بآيفون. لا يحتاج إلى أحد يُملي عليه بنبرة متعالية كيف يفكر، أو ما الذي يقرأ، أو ماذا يقول.
في إسبانيا، مع ذلك، لا تزال مهنة المثقف تحظى باحترام طبيعي، يمارسها أشخاص يعظون يوميًا، وإذا لم يفعلوا ذاك، يهاجمون الشعب لإصراره على عدم بلوغ مستوياتهم من الحكمة. في ركننا من أوروبا، من الشائع أن نجد كلمة "ثقافة" تُستخدم كأنها شعار مقدَّس أو تعويذة تتيح الوصول إلى مقامات محظورة على بقية البشر.
هذا الأمر ليس من قبيل الصدفة. لقد استُغلت الثقافة كأداة للتلاعب السياسي في إسبانيا بشكل فعّال خلال حقبة الديمقراطيَّة. بل وتوجد اعترافات صريحة بهذا النشاط. فقبل خمسة عشر عامًا، لجأ خوان لويس سيبريان إلى دعابة أميركيَّة حول المهن غير المحببة - "لا تخبر أمي أنني سياسي، قل لها إنني أعزف البيانو في نادٍ ليلي"، وطبقها على نفسه كصحافي، حين نشر في عام 2009 كتابًا بعنوان "عازف البيانو في ماخور".
في عام 2010، نُشرت النسخة الإنكليزيَّة بعنوان "عازف البيانو في ماخور: مستقبل الصحافة"، بمقدمة من الصحافي المخضرم البريطاني-الأميركي هارولد إيفانز، المدير السابق لجريدة "صنداي تايمز". وقد أوضحت تلك المقدمة كيف قامت الصحافة الإسبانيَّة بتوجيه الشعب خلال فترة الانتقال السياسي، حيث ساعدت الأرواح المُضطربة على بدء حياة جديدة وتوجيهها نحو العالم الغربي المبهر. ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، فقد كانت الصحافة المؤسسة الوحيدة القادرة، حسب إيفانز، على تثقيف 35 مليون شخص لم يسبق لهم العيش في دولة ذات سيادة. وأضاف موضحًا: "عندما أقول الصحافة، أعني صحيفة إلباييس". هذا التعليق كان موجهًا إلى الجمهور الناطق بالإنكليزيَّة، بينما يدرك الإسبان تمامًا أنه خلال الأربعين سنة التي تلت وفاة فرانكو، كانت صحيفة "إلباييس" محور السلطة السياسيَّة- الثقافيَّة، حيث تدور حولها شبكة من الشركات الإعلاميَّة والتعليميَّة والنشر. لم تكن هناك فواصل واضحة بين هذا الكيان وبين الحزب الاشتراكي، بل ربما كانت غير موجودة بالمرة.
منذ بداية الانتقال الديمقراطي، ضخّت هذه النواة منتجات ثقافيَّة تحمل قيم الحريَّة والمساواة والتضامن، مغلفة بتصاميم متألقة وأنيقة، بهدف تأسيس ثقافة إسبانيَّة تماثل ثقافات الديمقراطيَّات المخضرمة. لم تكن إسبانيا التي خرجت من فترة فرانكو، المأخوذة بالملصقات والكرات والمواد القابلة للجمع، قد رأت شيئًا كهذا من قبل. انبهرت أمام "المثقفين الجدد" الذين نُشرت أعمالهم عبر دار ألفاغوارا، وكتبوا أعمدتهم في إلباييس، وشاركوا في البرامج الحواريَّة على سير، وساهموا في مدرسة الأدب وألقوا محاضراتهم في الجامعة الدوليَّة منديز بيلار. كانت أعمالهم تُنشر وتُباع في مكتبات كريسل، التي كانت جزءًا من الكيان التجاري نفسه. كان هذا النظام، رغم انطباعه العالمي الظاهري، محليًا في تأثيره الفعلي، ونجح في خلق عشرات الشخصيَّات الثقافيَّة المتشابهة. ولمدة نصف قرن تقريبًا، أُغرقنا بأعمال لم يكن لها أيّ صدى عالمي، كما يظهر في الحقيقة أن العمل الإسباني الوحيد المعروف عالميًا خلال العقود الخمسة الماضية هو "مئة عام من العزلة" للكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، الذي بيع منه 50 مليون نسخة منذ صدوره عام 1967. يليه "ظل الريح" للإسباني كارلوس رويث ثافون، الذي نشرته دار النشر بلانيتا في عام 2001، وهي دار لا تنتمي لهذا النظام الذي نتحدث عنه.
حسنًا، في إسبانيا، أرض التناقضات الكبرى، تكفلت الجائحة بتوجيه الضربة القاضية لهذه الإمبراطوريَّة المصنّعة للـ"ثقافة". في بلادنا، أدى فيروس كورونا إلى رقمنة القطاع التجاري خلال ثمانية عشر شهرًا فقط. وكان العامل المحفز هو أن الحكومة الاشتراكيَّة فرضت تبني التكنولوجيا من أجل البقاء. واليوم، في إسبانيا، تمتلك 99.9% من المنازل هاتفًا ثابتًا أو محمولًا، لتصبح الدولة الأوروبيَّة التي بها أكبر نسبة هواتف ذكيَّة للفرد: 55.2% من السكان لديهم هاتف ذكي (بينما يبلغ المتوسط الأوروبي 46.7%). لقد أصبح مشهد "الحافلة المكتبة" التي تصل إلى القرى الريفيَّة لتثقيف سكانها البسطاء جزءًا من الماضي. وفي أثناء الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة، اكتشف جنود الكتائب الدوليَّة أن الكتاب يجب أن يحتوي على الأقل على 350 صفحة ليتمكن من إيقاف رصاصة. لكن يبدو أن الجيل الرقمي الإسباني اليوم لن يختار مجلدًا سميكًا كدرع ضد التلاعب الإعلامي، ولا حتى لحماية نفسه من المفهوم الثقافي الجديد الذي نتحدث عنه: ثقافة فرديَّة، متقلبة، مرئيَّة وسمعيَّة، ديناميكيَّة، متغيرة، وسهلة الوصول بلمسة على شاشة هاتف محمول.
في مارس/ آذار 2020 - عندما أعلنت منظمة الصحة العالميَّة أن فيروس كورونا أصبح جائحة - كان التفاوت الجيلي الناتج عن الفجوة الرقميَّة راسخًا بالفعل في العالم. لكن الحرس الثقافي القديم، الحامي الأخير لجواهر الثقافة الغربيَّة، وجد نفسه فجأة معزولًا، ومريضًا بشدة، أو مقلَّصًا بسبب العدوى المميتة. وبدا أن الناجين منهم يفتقرون إلى الأدوات الذهنيَّة اللازمة لتحليل "الواقع الجديد" فهم صاروا حائرين ومذهولين. وفي الوقت ذاته، وجدت الأجيال الشابة الساحة خالية في العالم، حيث بدت الإمكانيات لتحقيق اختلال في التوازن الثقافي غير محدودة تقريبًا.
مع الموجة الأولى من الذعر والمعلومات العلميَّة المغلوطة حول الجائحة، انخفضت المبيعات العالميَّة للكتب بنسبة تقارب 20%، حيث شاع الاعتقاد أن الفيروس يبقى معديًا على الأسطح مثل البلاستيك والورق. أغلقت المكتبات في جميع أنحاء العالم أبوابها. لكن في الشهر التالي، عادت القراءة لتصبح رفيقًا أساسيًا خلال فترة الحجر الصحي، وارتفعت مبيعات الكتب بسرعة في صيغها الإلكترونيَّة ونسخ الكتب الصوتيَّة، لا سيما كتب الأطفال، والكتب التعليميَّة، والأدب التقليدي. وتضاعفت مبيعات روايات مثل "الحب في زمن الكوليرا" لغابرييل غارثيا ماركيز، و"غاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجيرالد، و"الناقوس الزجاجي" لسيلفيا بلاث على منصة أمازون مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق. ووفقًا لسلسلة مكتبات "ووترستونز" البريطانيَّة، ازدادت عمليات شراء الكتب عبر الإنترنت بنسبة 400% في أبريل/ نيسان.
بعد ثلاثة أشهر من إعلان منظمة الصحة العالميَّة عن فيروس كورونا كجائحة عالميَّة، تم إسقاط أول تمثال لكولومبوس في ريتشموند، بالولايات المتحدة. ففي يوم الثلاثاء 9 يونيو/ حزيران 2020، وبعد أن قضى ما يقرب من قرن في حديقة صغيرة في العاصمة فرجينيا، تم اقتلاع التمثال البالغ طوله مترين، ووزنه 900 كيلوغرام من الحديد المصبوب، من قاعدته، وأُشعلت فيه النيران، ورُشّ بالطلاء، ثم أُلقي في بركة ماء. وعلل المتظاهرون فعلتهم بوفاة المواطن الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد في مينيابوليس على يد شرطي قبل أسبوعين. وصرّح المحرضون بأنهم كانوا يتضامنون مع السكان الأصليين الأميركيين، وتحديدًا قبيلة "بوهاتان" التي كانت الأرض التي يقع فيها النصب التذكاري تعود إليها. وكان هذا التمثال الأول من بين نحو ثلاثين تمثالًا لكولومبوس تعرضت للهجوم خلال الجائحة في الولايات المتحدة من قبل مجموعات من الناشطين الذين اعتبروه رمزًا للإبادة الجماعيَّة. لم يُسترجع أي من هذه التماثيل أو يُعاد إلى موقعه الأصلي.
لم يُجسّد شيء الفجوة بين الأجيال بوضوح كما فعلت هذه الانتفاضات ضد شخصيَّات تاريخيَّة تُعتبر عنصريَّة أو إباديَّة في عدة دول غربيَّة. فخلال فترات الإغلاق، تصرفت الأجيال الشابة بحريَّة بفضل مقاومتها للفيروس، بينما بقي معظم سكان العالم في المنازل، مطيعين للحكومات في محاولة للحفاظ على حياتهم. غير أن مئات الآلاف أدركوا أن الجائحة قد فتحت "نافذة فرص" فريدة وقصيرة الأمد، مما دفعهم لاستغلالها. لقد كان الكوكب المُكمَّم الأفواه فرصة مثاليَّة لعدد من الحركات السياسيَّة أو الناشطين الأفراد للتسلل عبر الشقوق ودفع مطالبهم الخاصة. وكان الأكثر نشاطًا هم "أنتيفا" (اختصار "المناهضون للفاشيَّة")، وهم خليط من الأناركيين والشيوعيين والماركسيين، الذين تخلل صفوفهم العديد من الانتهازيين من مختلف الأنواع.
أما الفائز الأدبي الأكبر في الجائحة، والذي تربع لعدة أشهر على قمة قوائم الكتب الأكثر مبيعًا، فكان رواية "الطاعون" لألبير كامو. نُشرت هذه الرواية لأول مرة عام 1947، ولكنها أصبحت من الكتب الأكثر مبيعًا عالميًا بعد نحو ثلاثة أرباع قرن. إذ ارتفعت المبيعات في المملكة المتحدة بنسبة 1000%، وفي اليابان بيعت نسخ أكثر في ربيع 2020 مما تم بيعه خلال الثلاثين عامًا السابقة. واضطرت عدة مكتبات يابانيَّة إلى حصر عدد النسخ بواحدة لكل شخص، بعد أن اندلعت حالة من الهوس المحموم بالرواية الفرنسيَّة.
في الترجمة الإسبانيَّة التي قامت بها روزا تشاسيل، يصوّر كامو مدينة وهران المنكوبة بالطاعون قائلًا: "مواطنونا يعملون بجدٍّ، لكن دائمًا بهدف الثراء. يهتمون بالتجارة، وينشغلون في الغالب، حسب تعبيرهم، بتحقيق الأرباح. وبطبيعة الحال، هم يحبون أيضًا بعض التسليات البسيطة: النساء، السينما، والاستحمام في البحر". أي أن الكاتب الفرنسي الشهير، الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1957، وصف في بداية روايته النساء كنوع من التسلية البسيطة، مشابهة للسينما أو الاستحمام في البحر. وبما أن الأجيال الشابة كانت تستغل غياب كبار السن لتطبيق تصحيحات تاريخيَّة اعتبروها ضروريَّة، كان من الممكن التساؤل عما إذا كان أعضاء "أنتيفا" حول العالم سيقرؤون ما وصفته وسائل التواصل الاجتماعي بأنه "الكتاب النموذجي للجائحة"، والذي أعاد الناشرون طباعته مرارًا خلال فترة الحجر الصحي بتصاميم أغلفة مبهرجة ومقدمات طنانة. تُرى، هل كان من الممكن أن ينتهي المطاف برواية كامو مشتعلة في محرقة مساواتيَّة؟ فقد رأينا أشياء أغرب في أثناء الحجر الصحي، لما باتت الفجوة بين الأجيال هي ما يمكن اعتباره علامة عصرنا.
في اليوم ذاته الذي أسقطت فيه الأجيال الغاضبة أول تمثال لكولومبوس، قامت منصة HBO Max بإزالة فيلم "ذهب مع الريح" من مكتبتها. يُعتبر هذا الفيلم الكلاسيكي العظيم اقتباسًا وفيًا لرواية مارغريت ميتشل، التي تدور أحداثها خلال الحرب الأهليَّة الأميركيَّة، ونالت جائزة بوليتزر عام 1937. السؤال الذي أثير هنا هو: كم من الأفلام ستنجو من عدم القدرة المتزايدة على تقييم الأعمال الفنيَّة ضمن سياقها التاريخي؟ فيلم "العراب" لفرانسيس فورد كوبولا، المتاح حتى الآن على نتفليكس، قد يكون التالي في القائمة، إذ يُكتشف أن الشخصيَّة سوني كورليوني تقول في منتصف الفيلم (1 ساعة و36 دقيقة): "السود يستمتعون جيدًا بالبنوك الملتوية في هارلم"، وبعد بضع دقائق، يعلن جوزيبي زالوكي: "سنبقي هذا العمل مع السود، مع الناس الملونين. بما أنهم حيوانات، فلا يهمنا إن فقدوا أرواحهم". فهل سيتم فرض الرقابة على "العراب" لكوبولا بسبب هذه العبارات العنصريَّة المقتبسة من رواية "العراب" لماريو بوزو، المؤلف المشارك في السيناريو؟ فقد كانت هذه الرواية قد حظيت بإجماع على الثناء عام 1969 كعمل ناقد للمافيا الإيطاليَّة الأميركيَّة الفاسدة، والتي يعرّفها البطل فيتو كورليوني في الصفحة 38 بقوله: "الصداقة هي كل شيء. هي أهم من الموهبة، أهم من الحكومة، وتكاد تعادل العائلة". تعمل ثلاثيَّة كوبولا اليوم كوثائقي رائع يشرح عوالم الجريمة المنظمة في نيويورك، لكنها أيضًا ترسم ملامح اندماج جنسيتيْن في بلد نشأ بفضل هجرة ذوي الأصول الأوروبيَّة.
اعتمادًا على الفئة العمريَّة التي ينتمي إليها الشخص، يُنظر إلى السينما كترفيه بعيد كل البعد عن الثقافة أو تُعتبر هي الثقافة نفسها. يميل المولودون بعد عام 1970 إلى تبني الوسائط المرئيَّة، بينما ترتبط الثقافة لدى الأجيال السابقة بالصيغ المطبوعة. لقد أحدثت الثورة المعلوماتيَّة فجوة جيليَّة تضع عالمين مختلفين في مواجهة بعضهما البعض، كأنهما حضارتان منفصلتان. ومن أبرز نقاط الاحتكاك هو مفهوم الثقافة بحد ذاته، الذي تغيَّر بتغيُّر الصيغة، كما تنبأ بذلك مارشال ماك لوهان في عام 1964.
كما نرى، لا يبدو أن الخضوع العالمي للإنترنت قد حوّل السكان في جميع أنحاء العالم إلى كتلة مكرسة للقراءة. قد يكون من المفيد أن نلاحظ أن نتفليكس كان لديها في يونيو/ حزيران 2024 أكثر من 270 مليون مشترك - من بينهم حوالي 200 مليون ليسوا من الأميركيين، بل من دول أخرى حول العالم - بينما تحتوي أمازون برايم على 200 مليون مشترك. لنذكر أن نتفليكس تأسست في عام 1997 في سكوتس فالي، كاليفورنيا، كشركة لتأجير الأفلام على شكل أقراص DVD، من خلال نظام إرسال الأشرطة بالبريد إلى منازل العملاء. بعد عقد من الزمن، في عام 2007، تحولت إلى ما نفهمه جميعًا اليوم بمجرد سماع اسمها: منصة لبث الأفلام والمسلسلات عبر الإنترنت. في عام 2001، كان لديها أقل من نصف مليون مشترك. واليوم، غيَّر نموذجها السمعي البصري طريقة تناول الترفيه الثقافي في الغرب.
بالنسبة للأجيال الرقميَّة، لا تُعتبر السينما هي "الفن السابع"، بل تمثل الشكل السمعي البصري للثقافة بالدرجة الأولى، في تناقض مع مكانة الترفيه أو التسلية التي لا تزال تمنحها لها الأجيال القديمة. لكن يتعارض الإصرار على تكريم العروض الأولى على الشاشات الكبرى مع حقيقة أنه، وفقًا لموقع Movie Treasures، تم إغلاق 46,798 دار سينما حول العالم بحلول يوليو/ تموز 2024 (وتدمير 23,841 منها).
يبدو أن الأجيال القديمة تستخف بتجاهلها لشباب تدفعهم قيمهم الثقافيَّة إلى نوع من "التعلم الذاتي الرقمي" من خلال الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، والسينما عبر المنصات. وهذه الفجوة بين الفئتين العمريتين لا تتلاشى مع مرور الوقت، بل تتسع بشكل متزايد. تنظم الأجيال الشابة السمعيَّة البصريَّة نفسها في مجموعات افتراضيَّة مفتوحة، على عكس المجموعات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المغلقة للأجيال الأكبر سنًا. مع اهتمامات متنوعة وغير مترابطة، يميل جيل الألفيَّة إلى احتقار النماذج المرجعيَّة الكلاسيكيَّة والمعلومات القادمة من المصادر المعتمدة (الأخبار التلفزيونيَّة، الأسرة، المؤسسات التعليميَّة). في الوقت نفسه، يؤدي القصف الإعلامي لنفس الموضوعات، جنبًا إلى جنب مع رداءة جودة المعلومات نفسها، مع التناقضات المتكررة، إلى تقليل هيبة ما يسمى بالإعلام التقليدي في أعينهم. لكن المفارقة المأساويَّة للفيض المعلوماتي هي أن الانغماس الدائم في الإنترنت لا يبدو أنه يبقينا أكثر اطلاعًا يوميًا، بل أكثر جهلًا.
باختصار، لا جدوى من التجاهل أو التظاهر بعدم وجود هذه الفجوة الجيليَّة الناتجة في جزء كبير منها عن الرقمنة العالميَّة. تبدو الأجيال القديمة غير قادرة على قبول أن الثقافة لم تعد تتصدرها نخبة صغيرة من البرجوازيَّة، تقف على منصة، تعيد إنتاج المعرفة التي تجهلها الجماهير وتحتقر الفئات الأدنى بسبب همجيتها. تعرف الأجيال الرقميَّة أن الثقافة اليوم صارت ثقافة ما بعد عالميَّة، ديمقراطيَّة، سمعيَّة بصريَّة في المقام الأول، يشارك من خلالها كوكبنا الأفكار والعادات والتقاليد بطريقة فوريَّة وموصولة بشكل كبير. فهل ستعود الثقافة يومًا ما إلى ما كانت عليه؟ في عالم رقمي حيث المعلومات متاحة ومجانيَّة لغالبيَّة البشر، أصبحت الثقافة اليوم، إلى حد ما، هي ما يقرّر كلُّ شخص أن تكون.