تقديم
يعمل البروفسور أنغوس فليتشر Angus Fletcher (الحاصل على الدكتوراه من جامعة ييل في حقل اللغة الإنكليزية) أستاذًا للغة الإنكليزية ودراسات الفيلم في جامعة ولاية أوهايو. يشغل فليتشر موقعًا فاعلًا في المشروع المسمى (سرد Narrative)، وسبق له التدريس في جامعات ستانفورد وييل وجنوب كاليفورنيا. ألّف كتبًا عديدة أذكر منها التالية:
- الزمان، المكان، والحركة في عصر شكسبير (2009) Time, Space, and Motion in the Age of Shakespeare (2009)
- الحكاية الرمزية: نظرية في النمط الرمزي (2012) Allegory: A Theory of Symbolic Mode (2012)
- أعمال مدهشة: المكتشفات الخمسة والعشرون الأكثر تأثيرًا في تأريخ الأدب (2021) Wonderworks: The 25 Most Powerful Inventions in the History of Literature (2021)
- أحدث الكتب المنشورة للبروفسور فليتشر هو الكتاب الموسوم: التفكير القصصي: العلم الجديد للذكاء السردي Storythinking: The New Science of Narrative Intelligence المنشور عام 2023 عن دار نشر جامعة كولومبيا الأميركية. وأدناه القسم الثاني والأخير من ترجمة لمقاطع منتخبة من الفصل الأول من الكتاب.
منطق الفلاسفة
ظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كل أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر البرونزي، وفي البلدان المتوسطية، وفي الصين القديمة وأميركا الجنوبية، وفي كل المواقع القديمة التي يحفظ لها التاريخ الحفري سجلات مدوّنة أو آثارًا مشهودة شاخصة.
منذ البدء رأى الفلاسفة في صناعة الحجج Arguments وظيفة أساسية لهم، لذا تراهم انخرطوا في مناقشات حجاجية قاسية لم تهدأ يومًا ما. تنازعوا فلسفيًا بشأن موضوعات عديدة: من أين جاء العالم؟ وممّ صُنع؟ ولماذا وُجدنا نحن البشر في هذا العالم؟ برغم الحجاج القاسي بين الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أمر واحد: القصة ليست أداة يمكن الاعتماد عليها في التفكير. هم رأوها وسيلة لا تخلو من جنبة انحيازية (تمييزية)، ووسيلة تتبع هوى خالقها، ومغالية في الاعتماد على الحقائق الحاضرة. لذا كرّس الفلاسفة أنفسهم لإيجاد أداة تفكير أكثر صرامة، وشيئًا فشيئًا تشاركوا قناعة راسخة بأن تلك الأداة هي المنطق Logic.
في سنة 350 قبل الميلاد تمكّن الفيلسوف المقدوني متعدد الاشتغالات Polymath، أرسطو، من جمع وتوحيد الأقيسة المنطقية المتناثرة بعمله الكبير: الأورغانون Organon. يضم الأورغانون ستة كتب أسّس فيها أرسطو قواعد المنطق الأربعة: الاستقراء Induction، الاستنتاج Deduction، فهم (تفسير) النتيجة Interpretation، الجدل المنطقي (الديالكتيك) Dialectic. ظلّت هذه القواعد المنطقية تخدم كأساس للفلسفة في معظم أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وغرب العالم وشرقه، ثم في معظم الإمبراطورية الإسلامية إبان عصرها الذهبي، ثم لاحقًا وأخيرًا ومنذ القرن الثاني عشر حتى القرن السادس عشر ظلّت هذه القواعد الأرسطوية شائعة وراسخة في كل جامعة غربية عظيمة من جامعة بولونيا الإيطالية حتى جامعة باريس وجامعة أكسفورد.
جابهت سطوة المنطق الأرسطوي العتيدة تحديًا بيّنًا خلال عصر النهضة الأوروبية عندما عمد الفلاسفة الطبيعيون ذوو العقول التجريبية (من أمثال ليوناردو دافنشي، غاليليو غاليلي، ويليام هارفي) إلى استبعاد (بل وحتى مهاجمة) الكتب المدرسية الخاصة بالمنطق الأرسطوي لأنهم وجدوه قصير النظر محدودًا، تنخره الهشاشة، وغير ذي فائدة، لكن المنطق استعاد بعض مجده الغابر فكانت له عودة خلال عصر التنوير بفعل جهود ديكارت وعبارته التأسيسية في الكوغيتو (إشارة إلى العبارة اللاتينية Cogito Ergo Sum: أنا أفكّر إذًا أنا موجود، المترجمة)، وكذلك علم الفلك الرياضياتي الذي وضع أساسه إسحق نيوتن، ومفهوم العقل المتسامي الذي جاء به إيمانويل كانط. منذ تلك الجهود المتقدّمة في جبهة المعرفة البشرية راح المنطق يندفع حثيثًا في توسيع مكانته في نطاق الفلسفة.
مع بدايات القرن التاسع عشر أثمرت هذه الجهود عن مولد الرومانتيكية Romanticism بعد أن نفخ هيغل روح الحياة في الديالكتيك الأرسطوي مما آذن بميلاد الماركسية وبقية الفلسفة القارية (الأوروبية). مع أواخر القرن التاسع عشر صار المنطق الأرسطوي أساسًا في انبثاق الفلسفة التحليلية Analytic Philosophy عندما وسّع غوتلوب فريغه Gottlob Frege من نطاق القوانين المنطقية الأرسطوية لتكون حسابًا Calculus يمكنه تناول أية محاججة. تمكّن تشارلس سبيرمان Charles Spearman بداية القرن العشرين من توسعة نطاق المنطق الأرسطوي المحدّث ليصبح المبدأ الحديث الذي يقوم عليه "الذكاء العام" ، ومن هذا المبدأ (مبدأ سبيرمان) ورثنا إيماننا الراسخ بالتفكير النقدي، والمثالية الإبداعية القادرة على الإتيان بفعل خلاق، والاختبارات المعيّرة Standardized Testing (إشارة إلى اختبارات سبيرمان المعروفة في فحص وتحديد حاصل الذكاء IQ، المترجمة). ثم أخيرًا، ومع العقود الأخيرة من القرن العشرين ساهم هذا المنطق في إطلاق الذكاء الاصطناعي الحاسوبي.
يعمل الذكاء الاصطناعي بذات الأقيسة المنطقية Syllogisms (و، أو، لا) التي أسّسها أرسطو وعدّها قوانين المنطق الأزلية الخالدة. هذه الأقيسة المنطقية الثلاثة يتم تحويلها لدوائر إلكترونية (بوّابات منطقية) في وحدة الحساب المنطقية ALU التي تمثل عقل الحاسوب. الحق أن هذه الأقيسة المنطقية الثلاثة هي قواعد الفكر الوحيدة التي يستخدمها كل حاسوب أو ذكاء اصطناعي. هذا يعني أن كل أعاجيب تعلّم الآلة Machine Learning إنما تقتفي أثر الأورغانون الأرسطوي. يمكن تلخيص الأمر في العبارة التالية: أي شيء يمكن أن تفعله - أو ستفعله- خوارزمية حاسوبية إنما يتأسس على منطق خالص ممثل في الأقيسة المنطقية الأرسطوية الثلاثة.
هذا هو ما جعل معلّميّ يعزفون عن ربط القصة بالتفكير. تمكّنت منهم دهشة مديدة راسخة بلحظات الإلهام واسعة النطاق التي تأتي مع الفلسفة، ابتداءً من الفلسفات الهندية القديمة حتى الانعطافة اللغوية التي جاءت مع نشر كتب فتغنشتاين وتأسيس مدرسة التحليل اللغوي والفلسفة التحليلية البريطانية. اعتاد معلّميّ على قياس مدى الذكاء Cleverness بمعيار الـ IQ المجرّد، والإبداع بالقدرة على تصميم مبتدعات جديدة. رأى معلّميّ المستقبل ممثلًا في شواخص الذكاء الاصطناعي العجيبة، وراحوا ينظرون إلى الفطنة البشرية على أنها مكافئ أوحد للمنطق وثماره الفكرية: من الرياضيات إلى السيميائيات إلى العلوم الحاسوبية، ومن هندسة إقليدس إلى نظرية سي. أس. بيرس C. S. Pierce في الإشارات إلى برهان آلان تورنغ على الذكاء العام للآلة، ومن المبادئ السياسية لدستور الولايات المتحدة الأميركية إلى الطرق الهرمنيوطيقية للإنسانيات الحديثة.
ما الذي يمكن أن يكون خاطئًا مع هذه النسخة من التاريخ الفكري؟ وما الذي يمكن أن يكون أغفله معلّميّ؟
ما أغفله معلّميّ
لم يكن معلّميّ مخطئين بشأن اعتبار المنطق تفكيرًا. هم أخطأوا في اعتبار المنطق الشكل الأوحد للتفكير. السبب وراء هذا الأمر هو وجود - على الأقل- طريقتين للتفكير: المنطق والقصة. كل من المنطق والقصة بوسعه حل معضلات ليس في استطاعة الآخر تقديم حل مناسب لها، وكل من المنطق والقصة بمستطاعه تخليق أشياء لن يستطيع الآخر تخليقها أبدًا.
ثنائية الذكاء هذه (الذكاء المنطقي والذكاء القصصي) يمكن عرضها بمقاربتين: تحليلية وتجريبية.
في المقاربة التحليلية: توظّف القصة والمنطق طرقًا إبستمولوجية (معرفية) مختلفة ومتمايزة. طريقة المنطق هي المعادلة المساواتية Equation، أو بطريقة أكثر دقة من الوجهة التقنية: الاستدلال الارتباطي Correlational Reasoning الذي يستبعد المؤثرات الفردانية من معادلة هذا يساوي ذاك. تعتمد القصة طريقة الخبرة الذاتية، أو بتوصيف أكثر تقنية: التأمل السببي Causal Speculation الذي يتطلب كلًا من الماضي والحاضر والمستقبل (بمعنى لا يستبعد أيًا منها، المترجمة) من عبارة هذا يسبب ذاك. كل مقاربة لها نطاقها الإجرائي الخاص: المنطق ثابت يعتمد على بيانات كثيفة، في حين أن القصة متطايرة تمتاز بالخفة، وقد تعتمد على بيانات قليلة أو حتى قد لا تحتاج أيًا منها (تخليق ذهني خالص أو ما يسمى في العادة رواية الأفكار Novel of Ideas، المترجمة).
في المقاربة التجريبية: يمكن اقتفاء أثر كل من القصة والمنطق في عمليات ميكانيكية مختلفة في الدماغ البشري. هذا مكافئ للقول (وعلى خلاف ما ظنّه كثرة من العلماء الإدراكيين من قبل، ولا زال قسم ضئيل منهم يعتقد به) أن الدماغ البشري لا يعمل كحاسوب. تعتقد الرؤية الحديثة لعمل الدماغ البشري أنه يعمل جزئيًا كحاسوب لأن بعضًا من أجزائه التشريحية العصبية (القشرة البصرية مثلًا) تعمل عن طريق التمثلات Representations والوظائف المنطقية الأخرى، لكن الدماغ البشري يعمل في معظم فعالياته كماكنة سردية لأن واحدة من بين غاياته الرئيسية التي تطوّرت عبر الفعالية الداروينية هي التأثر بالبيئة المحيطة والاستجابة لها بفعل تكيّفي مناسب يستفيد من فواعل التغذية الاسترجاعية الحسية (الخبرة). هذا الفعل يتطلب تأملًا تسبيبيًا، أي بعبارة أخرى: يتطلب تفكيرًا قصصيًا.
هذا ما تغافله معلّميّ. هم حسبوا أن الذكاء يمكن اختزاله إلى آلية (ميكانيزم) مفردة، وعندما جعلوا تلك الآلية مكافئة للمنطق بات من البديهي أن تُترك للقصة وظيفة وحيدة باقية هي مناقلة الأفكار. هذا الأمر دفع معلّميّ إلى الاستنتاج الصارم بأن الوظيفة الوحيدة للقصة هي المناقلة واسعة النطاق لمفاعيل المنطق وتأثيراته بين جمهور يفتقد الفطنة والمقدرة لأن يكون جمهورًا من كائنات بشرية تسلك سلوكًا منطقيًا بذاتها.
كان معلّميّ غارقين في لجة الثقة المفرطة بهذا الاستنتاج حدّ أنهم أغفلوا أو تناسوا عقبة بيّنة: تستطيع القصة مناقلة الأفكار فقط عندما يمتلك الدماغ القدرة على التفكير بصورة طبيعية (تلقائية) في القصة، وبعكس هذا لن تستطيع القصة التأثير السلس والتلقائي في خلايا المادة الرمادية لأدمغتنا. ما رآه معلّميّ طردًا للقصة من مملكة التفكير البشري كان في الحقيقة تأكيدًا لتغلغل الشكل القصصي في نظام التشغيل الأساسي للذكاء البشري. هذا النسق هائل التعقيد للتداخل الخلاق بين المنطق والقصة هو ما ساعد البشر على تخليق حبكات قادت إلى الصنائع الإبداعية الخلاقة لكل شيء في الحضارة البشرية (على المستويين المادي والرمزي، المترجمة): من المصنّعات الفخارية إلى المكائن الطائرة، ومن الديمقراطية إلى الشبكات التجارية العالمية، ومن الزراعة إلى المضادات الحيوية، ومن المنحوتات الفخمة إلى أخلاقيات المعيش اليومي.
هذا الدور القيادي الرائد لفعالية السردية يعني - بين ما يعنيه من تفاصيل كثيرة- أن المنهاج الدراسي المؤسّس على المنطق والذي اعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر لسببين على الأقل:
أولًا: لأنه قلّل إلى حد بعيد من قيمة الكيفية الأساسية التي يفكر بها الكائن البشري بصورة طبيعية، وترتّب على هذا الأمر نتائج سلبية عميقة الأثر من حيث مترتباتها الاجتماعية. مأسست المناهج الدراسية القائمة على المنطق الخالص فعالياتنا المدرسية ودفعت بالتلاميذ إلى مهاوي الحيرة، والشعور بالخجل والفشل، وكبحت التنامي المتوقّع للأخلاقيات الرفيعة عندما تعاملت مع التلاميذ بقسوة مفرطة عبر تقييم العقول البشرية بمقاييس الواجبات المطلوب تنفيذها بدقة صارمة مع عدم الحيود عنها. من هذه الواجبات: الحفظ، التفكير النقدي، التعليل الكمي...، وهذه كلها واجبات يمكن إنجازها بكيفية أفضل من البشر بواسطة هواتفنا الذكية وحواسيبنا المحمولة. أكّدت المناهج الدراسية أيضًا، وبكثير من الحماسة المفرطة، على الأقيسة المنطقية والكمية والبيانات، وهذا ما ساهم في تعظيم مناسيب تشوّه الشعور بالشخصانية الفردية والكينونة الذاتية Depersonalization، والهشاشة، والاحتراق النفسي... وهذه كلها انعكست مفاعيل غير طيبة على اقتصاداتنا وحكوماتنا ونظم الرعاية الصحية لدينا.
ثانيًا: تتغاضى المناهج الدراسية الحالية عن التاريخ الطبيعي لتطوّر أدمغتنا البشرية. ذلك التاريخ يشوبه الغموض. هذا صحيح تمامًا، لكن برغم هذا نحن نعلم أن التركيبة المنطقية للدوائر العصبية في أدمغتنا البشرية ليست انعطافة تطورية حديثة أطاحت بالتقنية العقلية التي طوّرت القصة وأحاطتها بالرعاية الكاملة على مدى حقب زمنية طويلة. كان للمنطق (للتفكير المنطقي، لا فرق) الكثير من الزمن لكي يضع بصمته المميزة على تطوّر الذكاء البشري، ولو أن آليات التطور الدارويني ابتغت طرح القصة جانبًا وتركها تذوي بعيدًا عن متناول فعالياتنا الدماغية لكان من المنطقي أن يمتلك المنطق الهيمنة الكاملة على أدمغتنا بدلًا من أن يرتضي التعايش مع التفكير القصصي.
تقودنا هذه الحقائق الأساسية إلى الاقتناع بأن الصفوف الدراسية الذكية، وقطاعات الأعمال الواسعة، والمدن الكوسموبوليتانية الواسعة، تحتاج إلى ما هو أكثر من اتخاذ القرارات القائمة على البيانات الكبيرة، والتصاميم المحوسبة، والأمثلية Optimization التنفيذية، وفي الوقت ذاته تستدعي العديد من الأسئلة ذات النكهة التمردية على المواضعات السائدة: ماذا لو أن الفلاسفة قدّروا القصة (التفكير القصصي) كما فعلوا مع المنطق؟ هل كنّا سنشهد حينها من يحصل على الدكتوراه في الإدراك السردي؟ هل كنّا سنشهد حينها شركات ناشئة في وادي السليكون تصارع لتطوير التقنيات الخاصة بالذكاء الاصطناعي وقطاع الأعمال الملحقة به؟ هل كنّا حينها سنشهد المزيد من الأدب والمكائن الطائرة والديمقراطية والمضادات الحيوية؟
التفكير القصصي يرتقي بحياتنا. ويطمح مؤلف هذا الكتاب أن يمثّل كتابه للتفكير القصصي ما سبق أن مثّله كتاب الأورغانون لأرسطو في حقل المنطق. أطمح في أن يقدّم كتابي هذا تمهيدًا فلسفيًا يعمل على الارتقاء بالقدرة الفطرية لأدمغتنا في تعزيز التفكير القصصي وتدعيم أركانه بدلًا من جعله يذوي لينتهي في قعر النسيان.
أحد جوانب طموحي في هذا الكتاب أن يكون ذا منفعة شاخصة. لن أدّعي أبدًا أن بعض مسعاي في الكتاب تقديم الحقيقة النهائية للقصة والتفكير القصصي، فذاك المسعى يتطلّب قواعد المنطق الصارمة التي لا يطاولها التغيير فضلًا عن الصياغات الرياضياتية، ولا أظن القصة أرضًا خصبة لبذر تلك البذور المنطقية الصلبة. القصة تسعى لتقديم إجابات وقتية لها حد كافٍ Good Enough من القدرة على تناول المعضلات الواقعية في الحياة البشرية. القصة انتقالة من الإجابات المطلقة للمنطق إلى البراغماتية الوقتية للتفكير القصصي.
لم تبرهن هذه النزعة البراغماتية (العملانية) للتفكير القصصي أنها في مجملها كانت عنصر جذب للفلاسفة، إذ حتى عندما يعتزم الفلاسفة ممارسة شيء من العملانية (على النحو الذي فعله أرسطو مع فن البلاغة، أو ما فعله ويليام جيمس لاحقًا مع الإبستمولوجيا "أصل المعرفة ونشأتها") فإن لهم (الفلاسفة) عادة جعل الممارسة سياقًا تجريديًا منطقيًا صارمًا، وعكس هذا الأمر يصح أيضًا: الناس ذوو التوجهات الفلسفية الضحلة يطوّرون في أنفسهم سخرية دفينة من الأقيسة المنطقية ومترتباتها الصارمة. مع هذه الحال يمكن للقصة أن تكون ميدانًا يلتقي فيه الاثنان (العملانية المتشدّدة والنزعة الفلسفية- المنطقية الصارمة) لتكونا شراكة تخدم مسيرة الارتقاء البشري. يمكن لهذه الشراكة أن تمضي بالعمل المواظب حتى نبلغ طورًا تصبح معه حياتنا يوتوبيا منطقية- وتلك يوتوبيا ليست مرغوبًا فيها ولا ممكنة من جانب الأنواع البيولوجية. فعالياتنا الدنيوية ليست مصممة لتنهض بأعبائها وحل معضلاتها الأقيسة المنطقية فقط بل تستلزم مزيجًا متناسقًا من القدرة على حل المشكلات Problem Solving والابتكارات التطبيقية، وستبقى هذه القدرة المحرّكات الدافعة للبقاء الجسدي والازدهار العقلي.
مع الارتقاء المستدام بتفكيرنا القصصي نستطيع أن نجعل حيواتنا الأرضية أكثر مناعة ضد الهشاشة والانكسار، وأكثر صحة جسدية ونفسية وذهنية، وأكثر سعادة. مع تحسّن ممارسة الإدراك السردي نستطيع دفع الغاية الأساسية من الفلسفة إلى آفاق أبعد. لا أظننا سنتخالف بشأن أن الغاية الأساسية من الفلسفة هي "بلوغ حياة طيبة". لنتذكّر دومًا أن "طيبة" نعني بها "أفضل الممكن هنا والآن"، أما "الحياة" فنعني بها "الوجود البيولوجي منذ بواكير الولادة مرورًا بكل أطوار النمو المتعددة".