}

هبوط الكتاب الفضائي

راوول ألونسو 13 أغسطس 2024
ترجمات هبوط الكتاب الفضائي
(Getty Images)

ترجمة: نجيب مبارك

أتذكّر مانولو إسكوبار* بنظارته ثلاثية الأبعاد وهو يطارد بعض النساء الحقيقيات اللّواتي يرتدين أزياء السكان الأصليين. لقد رأيت ذلك بدهشة عندما كنت أصغر سنًا في أحد برامج الكاميرا الخفية للمشاهير، الذي عرض في يوم القديسين الأبرياء على التلفزيون الجهوي الأندلسي. لقد جعلوا "مجدنا الوطني" يعتقد أن كل ما يراه بتلك النظارات كان غير حقيقي، وأنه كان محاكاة بالكمبيوتر، وهو في الواقع لم يكن كذلك...

عندما رأيت مثل هذه المزحة ذات الذوق السيّئ وكيف وقع السيد إسكوبار الأنيق في الفخ، كان أول شيء فكّرت فيه: "هذا لن يحدث لي أبدًا"، لذا اتّخذت في تلك اللحظة قرارًا حازمًا بأن لا أقع أبدًا في هذا الفخ، وألا أرتدي في حياتي نظارات من هذا القبيل. لكن مرّت السنوات، وما لم يكن في ذلك الوقت أكثر من مجرّد خيال من المدينة الفاضلة المستقبلية، أصبح حقيقة قبل بضعة أشهر مع تقديم جهاز "آبل فيجين" (Apple Vision) والحوسبة الفضائية.

تخيّلوا معي للحظة: أنا في مكتبي، محاط برفوف مليئة بالكتب. أضع النظارات على وجهي وفجأة تعود الكتب إلى الحياة. تطفو الكلمات في الهواء، تتسع الرسوم التوضيحية في ثلاثة أبعاد، ويمكنني التفاعل مع السرد بطرق لم أكن أحلم بها من قبل.

هذا ليس مشهدًا من الخيال العلمي. إنه مستقبل القراءة الوشيك. وكما أشار آرثر سي. كلارك فيما يعرف بقانونه الثالث: "لا يمكن تمييز أيّ تكنولوجيا متقدّمة بما فيه الكفاية عن السحر" (كلارك، "أسرار المستقبل"، الطبعة الثانية المنقحة، 1973). وهذا السحر بالتحديد هو الذي على وشك تحويل تجربة القراءة لدينا بطرق بدأنا للتو نلقي نظرة عليها.

تشير الحوسبة الفضائية إلى التقنيات التي تتيح التفاعل مع البيانات والأنظمة الرقمية في مساحة مادية ثلاثية الأبعاد. ويشمل الواقع المعزّز (AR)، والواقع الافتراضي (VR)، والواقع المختلط (MR)، وغيرها من الأنظمة الغامرة. تعمل هذه التقنيات على تغيير كيفية تفاعلنا مع العالم الرقمي، ولديها القدرة على أن تكون أحد أشكال التفاعل السائدة في المستقبل، مدفوعة بالزيادة في استخدام أجهزة الواقع المعزّز والواقع الافتراضي.

تستثمر شركات مثل Apple وMicrosoft وMeta المعروفة سابقًا باسم Facebook وGoogle بكثافة في تطوير الأجهزة والبرامج. إن التقدم الكبير في معالجة الرسوميات وأجهزة الاستشعار والذكاء الاصطناعي يجعل تجارب الواقع المعزّز والواقع الافتراضي أكثر فاعلية ويمكن الوصول إليها. وقبل كل شيء، تسمح بتطوير نظارات وعدسات أخف وزنًا وأكثر إحكاما وراحة.

وعلى الرغم من أن الحوسبة الفضائية ركّزت حتى الآن بشكل أساسي على مجال أجهزة المحاكاة والترفيه وألعاب الفيديو، فإنّ قطاعات مثل التعليم والصحة والتصنيع وتجارة التجزئة تتبنّى هي أيضًا هذه التقنيات لتحسين التدريب وتصوّر البيانات والتعاون عن بعد وتجارب التسوق.

إن الحوسبة الفضائية باعتبارها تقنية تدمج العالم الرقمي مع مساحتنا المادية، تستعدّ لإحداث ثورة في صناعة النشر. إذ وفقًا لتقرير صادر عن شركة الاستشارات التكنولوجية المرموقة "ماركيتس آند ماركيتس"، من المتوقع أن ينمو سوق الحوسبة الفضائية العالمية من 32.6 مليار دولار في عام 2022 إلى 116.7 مليار دولار بحلول عام 2027. ولن يؤثّر هذا النمو الهائل على كيفية استهلاكنا للمحتوى فحسب، بل وأيضًا على كيفية إنشائه وتوزيعه.

ولادة "الكتاب الفضائي"

ماذا سنسمّي تجارب القراءة الجديدة هذه؟ كتب غامرة؟ روايات فضائية؟ كتب ثلاثية الأبعاد؟ يقترح البعض أن هذه التكنولوجيا سوف تنهي كلمة "كتاب" وحتى الكلام المكتوب. حتى الآن ما تزال المصطلحات تتطور، ولكن الأمر المؤكد هو أن هذه الأشكال الجديدة ستتحدّى مفهومنا التقليدي لماهية الكتاب.

إن تطوّر مفهوم الكتاب ليس جديدًا. فمن أوراق البردي إلى المخطوطات، ومن الكتب المطبوعة إلى الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية (الكتب الرقمية حيث يستغنى الآن عن النص المكتوب بالكامل)، تغيّرت باستمرار الطريقة التي نستهلك بها الأفكار والأدب والمعرفة.

وكما لاحظ مارشال ماكلوهان، "نقوم أوّلًا بتشكيل أدواتنا، ومن ثم تشكّلنا أدواتنا" (ماكلوهان، "فهم وسائل الإعلام"، 1964). ولهذا، فالكتاب الفضائي هو الخطوة التالية في هذا التطوّر، إنّه أداة سوف لن تغيّر طريقة قراءتنا فحسب، بل ستغيّر أيضًا طريقة تفكيرنا وارتباطنا بالمعلومات.

النص في العصر الفضائي

وعلى الرغم من كلّ هذا الابتكار، فإن النص المكتوب سيظلّ في قلب التجربة الأدبية. وكما قال خورخي لويس بورخس: "من بين أدوات الإنسان المختلفة، فإن الأكثر إدهاشًا بلا شك هو الكتاب" (بورخس، "الكتاب"، 1978). وفي الكتاب الفضائي، سيصبح النص عنصرًا ديناميكيًا وتفاعليًا، يندمج مع العناصر البصرية والسمعية لخلق تجربة متعدّدة الحواس.

تخيّلوا الكلمات وهي تحيط بنا وتتراقص في غرفة معيشتنا، تتغيّر أشكالها وفقًا لمشاعر السرد، أو تكشف عن نفسها تدريجيًا عندما يستكشف القارئ الفضاء الافتراضي تمامًا كما فعل توم كروز في فيلم "تقرير الأقلية" (سبيلبرغ، 2002)، حين عالج البيانات في الهواء بالإيماءات. هذه هي الطريقة التي سيتمكّن بها القرّاء من التفاعل فعليًّا مع النص، مما يؤدّي إلى خلق اتصال أعمق مع المحتوى.

ولا يقتصر هذا التفاعل على الخيال. لنفترض كتابًا تاريخيًا يمكنك معه "المشي" عبر مكتبة الإسكندرية جنبًا إلى جنب مع هيباتيا، أو كتابًا فنيًا يمكنك من خلاله التحدّث مع ليوناردو دافنتشي، أو كتابًا علميًا حيث يمكنك التعامل مع الجزيئات بشكل ثلاثي الأبعاد؛ ستكون الإمكانات التعليمية هائلة.

لاحظ مارشال ماكلوهان "نقوم أوّلًا بتشكيل أدواتنا، ومن ثم تشكّلنا أدواتنا"  (Getty Images)


التحديات والفرص

يقدّم هذا العصر الجديد تحدّيات وفرصًا للتسويق التحريري. فمن ناحية، سيتعيّن علينا إعادة التفكير بشكل كامل في استراتيجيات الترويج والتوزيع الخاصة بنا.  كيف يمكنك "تصفّح" الكتاب الفضائي في مكتبة افتراضية؟ كيف تشارك مقتطفات منه على الشبكات الاجتماعية؟

ومن ناحية أخرى، فإنّ إمكانيات المشاركة لا حصر لها. فكّر في الحملات التسويقية حيث يمكن للقرّاء الانغماس في عيّنة من الفصل، أو التفاعل مع الشخصيات، أو حتى المشاركة في إنشاء محتوى داخل مساحة السرد.  سيصبح الخط الفاصل بين التسويق وتجربة المنتج غير واضح بشكل متزايد، مما يخلق فرصًا لتجارب العلامة التجارية الغامرة حقًا.

لقد رأيتُ مثالًا رائعًا لكيفية عمل ذلك في تقرير إخباري تناول هذه المشكلة من خلال التقاط صور لعرض نموذج أوّلي لكتاب فضائي. كان أحد الناشرين يروج لرواية خيال علمي جديدة بطريقة تسمح للزوار "بالدخول" إلى مشهد رئيسي من الكتاب، والتفاعل مع الشخصيات، واستكشاف العالم الذي أنشأه المؤلف. وكان طابور المتحمسين لخوض التجربة طويلا أمام جناح العرض. قال مدير التسويق بالناشر: "هذا ليس مجرد تسويق، بل هو امتداد للتجربة السردية".

مستقبل التنوّع

أُجريت تجارب مثيرة للاهتمام على الأشخاص الذين يعانون من عسر القراءة والذين لديهم قدرة منخفضة على الاستمرار في القراءة لفترة طويلة. وبعد الخضوع لتجارب القراءة مع نموذج أولي للكتاب الفضائي المتكيّف، حيث تمّ تعديل النص تلقائيًا ليناسب وتيرة القراءة ويقدّم مساعدات بصرية سياقية، اختفت هذه الحواجز، مما أدّى إلى زيادة كبيرة في وقت القراءة وفهم النصّ.

إنّ إمكانية التخصيص وسهولة الوصول هذه يمكن أن تؤدّي إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على القراءة بطريقة غير مسبوقة. تخيّلوا هذه الكتب التي لا تتكيّف فقط مع احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة، ولكن أيضًا مع أنماط التعلّم المختلفة والتفضيلات الثقافية أو حتى الحالات المزاجية.

وبطبيعة الحال، مع القوة العظيمة تصير المسؤولية أكبر. يطرح تطبيق الكتب الفضائية تحديات فنية وأخلاقية كبيرة.  كيف نضمن خصوصية القارئ في مثل هذه البيئة الغامرة؟ كيف نصدّ التعب الرقمي ونحمي صحّة العين؟ كيف نحافظ على السلامة الفنية للعمل الأصلي في مثل هذه الوسيلة المرنة؟

هذه أسئلة يجب علينا معالجتها بشكل استباقي، "يراكم العلم المعارف بشكل أسرع من المجتمع الذي يراكم الحكمة"، كما قال إسحق عظيموف في كتابه "الآلهة ذاتها" (1972) وتقع على عاتقنا كمحترفين في قطاع النشر ليس فقط الترويج لهذه التكنولوجيا الجديدة، ولكن أيضًا المشاركة بنشاط في الحوار حول تطبيقها الأخلاقي والمسؤول.

الكتاب الفضائي والكتاب التقليدي

نحن في زمن يتعيّن علينا فيه إعادة تصوّر ما تعنيه "القراءة" في عصر الحوسبة الفضائية.  في مقابلة نشرت في مجلة "الإيكونوميست" في عام 2003، قال الكاتب ويليام جيبسون بذكاء: "يوجد المستقبل هنا بالفعل، ولكنه ليس موزّعًا بالتساوي". ومهمّتنا في النشر هي المساعدة في تحقيق هذا المستقبل، وضمان ليس بقاء سحر القراءة فحسب، بل ازدهاره في هذه الحدود الرقمية الجديدة.

ليس الكتاب الفضائي نهايةً للكتاب التقليدي، بل هو امتداد لما هو ممكن في فنّ سرد القصص.  ومن واجبنا كأوصياء على الكلمة المكتوبة أن نحتضن هذا التطوّر، ونرشد مؤلّفينا وقرّاءنا من خلاله، ونتأكّد من أنّ جوهر ما يجعل الكتاب مميزًا يظلّ سليمًا في هذا العالم الجديد ذي الإمكانيات اللانهائية.

إنّ مستقبل القراءة فضائيٌّ، غامر، وساحر، وفي نهاية المطاف، يظل هدفنا كناشرين كما هو: ربط القرّاء بالقصص التي تأسرهم وتلهمهم وتغيّرهم. إنّ الحوسبة الفضائية هي ببساطة أداة جديدة قويّة في ترسانتنا لتحقيق هذا الهدف.

لقد بدأت الرحلة للتوّ، وهي تَعِد بأن تكون مغامَرة ستضع في مأزق النّاشرين الذين لم يجهّزوا أنفسهم.

 

*عازف قيثارة ومغني وممثل إسباني شهير (1931-2013).

 

 

راوول ألونسو: حاصل على شهادة في الفلسفة من جامعة UNED وخبير في البرمجة باستخدام تقنيات الويب من جامعة أليكانتي (إسبانيا). مؤسس ومدير منشورات Editorial Cántico، وهو متخصص في التسويق الرقمي والذكاء الاصطناعي المطبق على صناعة النشر.

نُشر هذا المقال في موقع مجلة "إلكولتورال" الإسبانية، يوم 18 يوليو/ تموز 2024.

 

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
13 أغسطس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.