في الأيام القليلة المقبلة، سيحصل مئاتُ الآلاف من الشباب اليافعين (في بريطانيا ــ المترجمة) على درجات الامتحانات التي قيل لهم بأنّها هي التي ستحدّدُ مآلات مستقبل كلّ واحد منهم. في حالات كثيرة؛ بل في كلّ الحالات لو شئنا الدقّة، تحدّد هذه النتائج النتيجة النهائية لسنوات عديدة من الدراسة التي تمّ اختزالُها في بضع ساعات امتحانية في قاعة للامتحان. لكن بالنسبة للأكثرية الغالبة من هؤلاء الشباب اليافعين، فإنّهم ما إن يتحصّلوا على نتائج الامتحان فإنّ ذاكرة الامتحانات وكلّ ما يقترن بها لديهم سرعان ما تذوي في قعر النسيان، باستثناء حالات محدودة تطفو فيها على السطح في هيئة حلم يتسبّبُ في نوبة قلق وقتية. الحقيقة الساطعة بعد كلّ تلك الامتحانات الشاقة أنّ كلّ التدريب المصاحب لها، وكلّ ذلك الحشو للمقتبسات، وحفظ الصياغات، قد لا يكون ذا نفع مرة أخرى.
إذًا، لماذا كلّ هذا الضجيج والاهتياج كلّ سنة عقب إعلان نتائج الامتحانات العامة؟ لماذا نضعُ شبابنا اليافعين وسط هذا الأتون الجحيمي من القلق؟ بعضُ الجواب يكمنُ في أنّ الدرجات الامتحانية لم تزل أمرًا ذا أهمية لا يمكن التغافل عنها. أنا مدرّسٌ عملتُ في مهنة التعليم سنوات طويلة، وعندما أخبِرُ طلبتي بأنّ الدرجات التي سيتحصّلون عليها في الامتحانات هي التي ستحدّدُ المسارات الأكاديمية ــ والمهنية بالتبعية ــ لهم في المستقبل فلستُ أغالطُ الحقيقة. أنا أخبرهم الحقيقة المطلقة التي لا مفرّ من التعامل معها. كان اختيارُ مهنٍ مثل التمريض في ما سبق يعدُّ تدريبًا عمليًا لا شأن له بالمتطلبات الأكاديمية؛ لكنه اليوم بات يتطلّبُ شهادة أكاديمية. كلّ طلبة المرحلة السادسة في التعليم الإعدادي (المرحلة النهائية في التعليم ما قبل الجامعي، أو المهني) يتطلّعون للحصول على شهادة اجتياز امتحان الشهادة العامة للتعليم الثانوي GCSE في الرياضيات واللغة الإنكليزية، حتى لو كانوا يسعون لدراسة الفن، أو السباكة. يجب أن لا ننسى دومًا أنّ عملية القبول الجامعي ذاتها هي عملية مبرمجة بدقة شديدة في اختيار الطلبة، مع معايير دقيقة للقبول في كلّ تخصص دراسي، وهي لا تكتفي بنشر معايير القبول في كلّ قسم أكاديمي في الجامعة، بل تضيف لهذه المعايير المهن المتوقعة للخريجين مع معدّل مدخولاتهم السنوية المتوقّعة. ترى الجامعات أنّ هذه الفعاليات جزء من تكريس سطوتها الأكاديمية ونخبويتها المجتمعية.
لكن في سياق اقتصاد ومجتمع (يقصد الاقتصاد والمجتمع البريطاني؛ الحديث دومًا هو عن بريطانيا ــ المترجمة)، حيث الفرص باتت تبدو متضائلة إلى حدود بعيدة، فإنّ عملية حيازة درجات أعلى صارت تنهكُ الطلاب بكيفية تتعاظم وتيرتها سنة بعد أخرى في حمّى المنافسة الساحقة. في خضمّ هذا المدّ المتعاظم من القلق والمنافسة والألم، صارت المدارس البريطانية عُرضةً لنظام تقييمي يدفعنا دفعًا (نحن مسؤولي المدارس ومديريها وأساتذتها) لحثّ طلبتنا بطريقة قاسية لانتزاع آخر درجة ممكنة في الامتحانات، ومن الطبيعي أنّ هذا الحث المستديم الذي لا يخلو من توبيخ وتقريع قاسيين سيقودُ إلى تحريك مكامن القلق لديهم. ثمّة إحساسٌ متنامٍ بأنّ الجيل الحالي يعيشُ في خضمّ أزمة صحية عقلية، ويرى بعضُهم أنّ ثقافة الامتحانات السائدة هي التي يجب أن تكون الملومة عن تفاقم هذه الأزمة.
منحُ تقدير أكبر لعمل الطالب خلال الفصل الدراسي غير عادل، أيضًا، فالمدرّسون الخصوصيون يمكن أن يساعدوا الطالب في إنجاز الواجبات (Getty) |
ثمّ هنالك الحقيقة الصارخة التي تؤكّدُ أنّ الإنجاز الأكاديمي ليس متاحًا للجميع بالكيفية ذاتها، وعلى قدر معقول من المساواة والعدالة. يبدو الطلبة المتحدّرون من خلفيات نخبوية وثرية وكأنهم يتسلّقون منحدرًا ثابت الميل من غير عثرات، أو شواغل، أو تضاريس معيقة؛ في حين أنّ الطلبة المتحدّرين من عوائل منخفضة الدخل، أو من جماعات مهمّشة، يكافحون شتى أنواع الصعاب والمشقات سعيًا إلى بلوغ قمّة التلّ.
إذًا، ما الخيار البديل؟ يوجد كثير من النماذج (الموديلات) التقييمية الأخرى التي تختلف عن الامتحانات السائدة، والتي كانت لسنوات طويلة ميدان مناقشة بين الساعين لإصلاح نظام التعليم الحالي؛ لكن ليس أيٌّ منها كاملًا كما هو المتوقّع. يبدو عدم الاقتصار على النتيجة النهائية للامتحان، ومنحُ تقدير أكبر لعمل الطالب خلال الفصل الدراسي أحد الخيارات الجذابة؛ لكنّه يُنتَقَدُ لكونه يفتح الباب واسعًا أمام قدر أعظم من اللاعدالة بسبب أنّ الأهل، أو المدرّسين الخصوصيين، يمكن أن يساعدوا الطالب في إنجاز فروض الواجبات الأكاديمية. التقييم المستمر خلال السنة الأكاديمية بدلًا من الاكتفاء بامتحان واحد حاسم في نهايتها يبدو خيارًا ثانيًا له قدره المعقول من المقبولية؛ غير أنّ التدقيق الممحّص في هذه الامتحانات المتوزّعة على مدار السنة ستكشف لنا أنّها لا تفعل شيئًا سوى توزيع ضغط الامتحان النهائي على مسارب مختلفة. بمعنى آخر: هي حيلة للتنفيس عن الضغط بوسائل أخرى. اختلفت الوسيلة، لكنّ النتيجة واحدة.
إحدى السمات المثيرة في كلّ منهاج دراسي يقوم على الامتحان ــ ويتمّ تصميمه وتعليمه بطريقة جيدة ــ تكمنُ في أنّ جعل الامتحان فعالية ختامية في المنهاج إنما يعزّزُ الفهم بوسيلة فعالة ومنتجة، والمناهج المعاكسة (سيئة التصميم والتعليم، ولا تختتم بامتحان نهائي) إنما تفعل العكس تمامًا: تسيء إلى الفهم ولا تحقق المطلوب من كلّ منهاج دراسي كفؤ.
بقدر ما يختصُّ الأمر بي أنهيتُ للتو تدريس منهاج عن الكتابة الإبداعية/ Creative Writing لأحد الصفوف التي ستؤدي امتحان GCSE. أنا أعملُ روائيًا، فضلًا عن كوني مدرّسًا؛ لذا كان من الطبيعي أن أنغمس في تدريس هذا الفصل بكلّ جوارحي؛ لكن عندما تشاركتُ تصحيح أوراق الامتحان لطلبتي صحبة زميل لي أدركتُ كيف جرت معاقبتهم بقسوة بسبب نقص، أو سوء استخدام علامات الترقيم (الفارزة على وجه التخصيص). هذا مثالٌ واحد فحسب يبيّنُ لنا كيف يمكنُ أن تفشل مخططات توزيع ومنح درجات الامتحان المغالية في التخصص، والتي لا تراعي طبيعة ونوع الامتحان. إنّ مثل هذه المخططات لا تضع في حسبانها الفروق الفردية في كيفية محاكمة المعضلات، والقدرة الاحترافية على التعامل المتباين معها بين أفراد مختلفين في تشكلاتهم الذهنية ومنازعهم النفسية.
لكنّ ما ذكرته من وقائع يعزّزُ الحجّة نحو امتحانات أفضل تصميمًا، وليس بيئة دراسية تخلو من امتحانات. الشيء الجوهري في كلّ الموضوع هو ضرورة النظر إلى الامتحانات بوصفها أداة لا أكثر، وهي عندما تكون أداة فسيكون من الطبيعي أن تحقق أشياء بعينها، وتعجز عن تحقيق أخرى. التخلّي عن الامتحانات سيكون أمرًا شبيهًا بأن يبني المرء مشروعًا ميكانيكيًا بنفسه مع عدم توفير أي عدّة ميكانيكية له. المقاربة البديلة الأفضل هي التفكير بالكيفية التي نستطيع بها استخدام كلّ الوسائل المتاحة لنا بأفضل وأمثل طريقة ممكنة.
تخدم الامتحانات الحالية في المملكة المتحدة غرضًا واحدًا: تصنيف الطلاب في فئات متمايزة. انكشف هذا الغرض بطريقة قاسية بوساطة الخوارزمية التي استُخدِمَتْ لمنح الطلاب درجات بعدما ألغيت الامتحانات العامة بسبب وباء كوفيد عام 2020. مع أنّ هذا الخلل خطير، وتمّ تعديله، لكنّه كشف عن هشاشة منطق آلية التقييم المتبعة. نحن في وقتنا الحاضر لا نستخدم الامتحانات أداة أساسية لتقييم المعرفة المتحصلة؛ بل لمعرفة مَنْ مِن الطلبة أفضل من الآخرين في سلسلة تراتبية. إنه نظام يعزّزُ أسطورة الجدارة، أو الاستحقاق/ Meritocracy.
المعضلة في هذا النظام التراتبي أنّ المنافحين عنه يتصوّرون أنّ كلّ طفل أو يافع شرع في مسيرته الأكاديمية من نقطة الشروع المتخيلة ذاتها، متناسين اعتبارات الواقع الحقيقي. يمكن أن يكون هذا النظام عادلًا في عالمٍ تتحقق فيه عدالة الفرص، وحيث تقودُ مخرجات النظام التعليمي كلّ فردٍ نحو خيارات مهنية تحقق ما يطمح له الفرد، وإن تخالفت في مساراتها ومداخيلها المالية. المهم في الأمر أنها تحقق للفرد مستوى معيشيًا طيبًا يضمن كرامته الإنسانية الثمينة.
واقعُ الحال يختلف تمامًا عن كلّ هذا. في مجتمعٍ مثل المجتمع البريطاني (أو أي مجتمع آخر؛ فالحالة ليست محلية ضيقة النطاق)، حيث تسود اللامساواة في الفرص المتاحة، فإنّ ما تفعله الامتحانات هو تعزيز الفروقات المجتمعية، وتعظيم حالة التمايز في التراتبية الطبقية. إنّ هذا اللهاث المستديم القاتل من جانب واضعي الامتحانات لفرز الطلاب بطريقة صارمة في توزيعات محددة حسب درجاتهم الامتحانية إنما هو سعي من شأنه لوي عنق عملية التعليم لأسباب عديدة، منها أنّ مهارات أساسية (مثل الطلاقة اللفظية) يجري إنكارُها بسبب كونها تستعصي على التقييم المتبع في الامتحانات، ثم هنالك الإجابات غير القياسية (التي تشذ عن التقييمات المتبعة)، والتي يجري التغافل عنها رغم أنها تنطوي على أصالة فكرية غير متوقعة.
ليس من مسوّغ أبدًا لاستخدام الامتحانات كوسيلة لتعزيز هذه النزعة التنافسية المفرطة بين الطلبة. ماذا لو ــ على سبيل المثال ــ فكّرنا في الامتحانات كونها مثل رُخَص القيادة: محضُ مؤشر على أنك حققت مستوى عالميًا متعارفًا عليه من الكفاءة الأكاديمية؟ أو يمكن ان تكون مثل أحزمة الجودو، حيث تصنيف الأحزمة يعكسُ في الحقيقة كمية الوقت والجهد اللذيْن بذلتهما في التدريب؟
الحقيقة أنّ المعضلة لا تكمنُ في الامتحانات بذاتها، بل في الطريقة التي نستخدمُ فيها الامتحانات لتخصيص كمّ القيمة الاجتماعية التي يستحقها الفرد. لو أننا عملنا حثيثًا على توجيه الأنظار نحو القيمة التعليمية للامتحانات بدلًا من كونها وسيلة في التصنيف وتوزيع المراكز الاجتماعية، ولو أنّ مدارسنا كانت أماكن جيدة في تحقيق الإثراء المعرفي والثقافي للجميع من غير استثناءات طبقية بدلًا من أن تكون أماكن شروع للارتقاء المستقبلي لبعضهم، وأحجار عثرة لبعض آخر، فحينها ستكون تلك بداية طيبة لإصلاح نظامنا التعليمي وعملية الامتحان معًا. لكن ما يمكن أن يحقق تغييرًا أساسيًا شاملًا في الوضع الحالي هو شيء أبعد من النظام التعليمي والامتحانات، إنه توقّعُ أن يحقق كلّ فرد حياة عملية محترمة ومقترنة بالتطور العقلي والروحي والنفسي معًا، بصرف النظر عن كم المدخول المالي الذي تحققه، وبصرف النظر عمّا حققه المرء من إنجاز أكاديمي في الامتحانات العامة عندما كان في عمر يتراوح ما بين السادسة عشرة والثامنة عشرة. في ذلك العالم وحده سيكون وجود الامتحانات، أو عدمها، أو دقتها في التقييم، أو انطواؤها على مثالب معيبة، موضوعات غير ذات أهمية، ويمكن بسهولة فائقة دفعها في هوة التجاهل والنسيان.
قراءات مقترحة:
(*) سامّي رايت Sammy Wright: مدير مدرسة ثانوية في منطقة سندرلاند. عمل رئيسًا للجنة الحكومية الخاصة بدراسة الحراك الاجتماعي من عام 2018 حتى 2021، وأصبح خلال عمله في هذه اللجنة صوتًا جهوريًا في المناقشات الخاصة بنظام الامتحانات العامة البريطانية، وبخاصة خلال وباء كوفيد. عمل مدرسًا لأكثر من عشرين سنة في مدارس بمنطقة أوكسفوردشاير، لندن. نشر عام 2024 كتابًا بعنوان "أمة الامتحانات/ Exam Nation" (المترجمة).
(**) الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 12 آب/ أغسطس 2024 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:
؟Should we abolish exams