ترجمة: لطفية الدليمي
وُلِدتُ لأكون فيزيائيًا نظريًا. أعلمُ أنّ هذه القناعة تبدو عتيقة للغاية؛ غير أنّ هاجسًا في نفسي جعلها أقرب إلى نداء كوني بالنسبة لي، وأنا من جانبي لم أخذل هذه الدعوة أو أدعها تغيب في مجاهل النسيان، ولم تزل متجذّرة بداخلي حتى اليوم. منذ البواكير الأولى لطفولتي - وبالحدود التي أستطيع تذكّرها- أردتُ اتّباع المسار الذي اخترته لاحقًا عندما أدركتُ ما الذي تعنيه الفيزياء النظرية، وكيف يعمل العلم في نطاقه الاحترافي. لا أذكر واقعة محدّدة دفعتني لهذا الخيار مثلما لم يكن مِنْ معلّمين أشعلوا جذوة العلم فيّ أو كانوا بمثابة "الملائكة الحارسين" لي. حصل الأمر بكيفية تلقائية كاملة من غير مداخلة بشرية.
ظنّتْني عائلتي أحمقَ؛ لم يكن العلم خصيصة بيّنة في الميراث الجيني لعائلة ديفيس. أذكر عمّة لي وقد سألتني غير مرّة: "متى ستحصلُ على عمل حقيقي؟". سألتني عمّتي هذا السؤال في حفل زفاف عائلي بعدما حصلتُ على أوّل وظيفة لي كمحاضر في الفيزياء في الكلية الملكية King's College في لندن!!. جدّتي هي الأخرى أرادت أن تُعْلِمَني بطريقتها الخاصة سوء خياري الوظيفي فكانت لا تنفكّ تسألني بطريقة تلمسُ فيها نبرة التوبيخ: "قل لي ما هي الفيزياء بالضبط؟". والدي من جانبه، وهو الرجل الغارق في الحسّ العملي بالحياة، ملأته الشكوك بشأن حياة يقضيها المرء متأمّلًا الوقائع الغامضة في الكون، وكثيرًا ما قال لي: "يا بُنيّ. لا تظُنّنّ أنّ أحدًا في هذا العالم سيمنحك مالًا لمجرّد أن تجلس وتفكّر في الكون". وحدها والدتي منحتني مباركتها الكاملة لأن أكون عالمًا بشرط أن أعمل على تطوير علاج للسرطان!!. بدت الفيزياء لها علمًا غامضًا مكتنفًا بالتعقيد والاستغلاق الكامل وعدم القدرة على التعامل مع المتطلبات اليومية للحياة البشرية. أتساءل دومًا: كيف انتهى الأمر بطفل مرح، يعيشُ حياة اعتيادية وطبيعية في الضواحي اللندنية، لأن يكون فيزيائيًا نظريًا ومتخصصًا بالكوسمولوجيا (علم دراسة الكون وتطوره- المترجمة)؟
كان دومًا ثمة شيء ما عميق في داخلي، شيء غريب، نوعٌ لحوح لا يقبلُ الهدوء من الهاجس الذي يرقى لأن يكون قَدَرًا لا مهرب منه، هو الذي لبث يؤجّج حماستي ويدفعني للفيزياء. إنّه دافعٌ شبيه بأن تشعر بوجود كائنات غير مرئية تجرّك جرًّا نحو قلب الوجود، ويقترن هذا بدافع لا يُقاوَمُ للبحث عن المعنى المخبوء في الكون. حصل هذا كله مصحوبًا بقناعة راسخة بوجود معنى مؤكّد في مكان ما في الكون، وأنّ هذا المعنى يمكن بلوغه وليس عصيًا على الفهم. سأكرّر العبارة بتحوير بسيط شخصاني الطابع هذه المرة: يوجد معنى ما في الكون، وأنّ هذا المعنى ليس عصيًا على فهمي، ويمكنني بلوغه لأنه ليس غولًا يستعصي على نطاق قدراتي في الفهم والمساءلة.
بالطبع لستُ وحيدًا في اختبار مثل هذه المشاعر الحميمة فيما يخصُّ الرغبات ذات الدوافع الكونية؛ لكنّ كثرةً من البشر تطرح مثل هذه الدوافع الكبيرة بعيدًا عن نطاق اهتماماتها فتذوي وتموت في بحر التجاهل والنسيان. ثمّة آخرون يزيحون عبء التساؤل من أذهانهم ويلتمسون الراحة في النزوعات الروحانية السائدة. في سنوات مراهقتي قبلتُ مواضعات الدين التقليدي؛ لكنْ تبقى هناك تساؤلات مفتوحة تقع خارج نطاق الاهتمام الديني وليس مطلوبًا من الدين تقديمُ إجابات حاسمة لها. تعلّمتُ منذ مراهقتي الباكرة أنّ من الأفضل عدمَ خلط الفضاء العلمي مع الفضاء الديني. الفضاءان يعملان في نطاقات مختلفة، ويؤديان أغراضًا متباينة، وليس مطلوبًا منّا قسرُ أحدهما ليؤكّد صحة الآخر. أذكرُ عندما كنتُ بعمر السادسة عشرة كيف كنتُ عُرْضَةً لاضطراب بالغ القسوة عندما تفكّرتُ مليًا في متناقضة الإرادة الحرّة Free Will. تساءلت حينها: لماذا لا تقوم الذرّات في دماغي بعملها المعتاد مثل أيّ ذرّات أخرى في الكون بغضّ النظر عمّا أريد أنا فعله؟ لماذا عليها أن توجّه سلوكها تبعًا لما أريد فعله؟ ومن أين تنبع رغباتي؟ وحتى لو استطعتُ فعل كلّ ما أرغب في فعله بطريقة سحرية ما، كيف لي أن أعرف في المقام الأول الكيفية التي أردتُ بها ما أردت فعله؟ من أين انبثقت رغبة الفعل؟ كان أمرًا صادمًا لي بكلّ المقاييس عندما عرفتُ في سنوات لاحقة أنّ الطريقة الفضلى للإجابة عن تساؤل الثنائية الإشكالية الارادة الحرّة/ الحتمية وكلّ الأسئلة الكبرى The Big Questions هي الفيزياء النظرية. الفيزياء في التحليل المعمّق هي النغمة التي ترقص على وقع قوانينها الذرّاتُ في دماغي والكون معًا.
هكذا صارت الفيزياء النظرية بالنسبة لي، وبمعنى من المعاني الخاصة بي، أملي الأفضل في بلوغ معنى للعالَم ومكانتي فيه؛ لكن لماذا كان هذا الأمر ذا أهمية قصوى لي؟ لماذا لم أتجاهل - ببساطة- هذه الأزمة الوجودية التي يحفّزها تساؤل عنيد لا يهدأ، وأكتفي بدلًا من ذلك بإيجاد "عمل مناسب" لي مثلما فعل أقراني؟
بعضُ الجواب يكمنُ في الضجر Boredom. الضجر الواضح غير المُقَنّع الذي يجتاحُ العقل مثل وخزات إبر حادّة. نشأتُ في منطقة شمال لندن في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث الألعاب شحيحة، والطعام بأصناف محدودة تتكرّر كل يوم، والمدارس أماكن كئيبة. الرحلات إلى شاطئ البحر كانت نادرة للغاية وأقرب إلى هدية غير متوقّعة. لم يكن أحدٌ حينها في منطقتنا يمتلك جهاز تلفاز؛ بل حتى الكتب صارت تسلية كمالية مكلفة. لم يبدُ شيء مثير حينها ممكنًا وقابلًا للتحقق. كنتُ توّاقًا في تلك الأجواء الكئيبة القاحلة لواقعة درامية حقيقية: غزو فضائي من قبل كائنات غريبة للأرض، معيشة مع كائن شبحي، رسالة من أحد الموتى، أو أي شيء من شأنه تخفيف أعراض الرتابة اليومية الكئيبة. أصبح العلم لي حينها مسعى خلاصيًا للهروب من تلك الحياة الفقيرة البائسة. في شتاء عام 1955، عندما كنتُ في الثامنة، اصطحبني والدي وكنوع من المعاملة التفضيلية الخاصة لي لمشاهدة فيلم Benny Goodman Story في دار السينما المحلية. قفلنا عائدين للمنزل مشيًا على الأقدام في الظلمة الحالكة عبر طريق فرعي يخترق غابة صغيرة. توقفنا في أحد الأجزاء من الطريق وأشار والدي إلى نجمة براقة تدعى Sirius وبعض التشكيلات النجمية الصغيرة الملحقة بها. أتذكّر الحبور الذي ملأ قلبي عندما شاهدتُ تلك النقاط المضيئة في الظلام الحالك عبر الأشجار التي تساقطت أوراقها فبدت هياكل خاوية. ثم رأينا شيئًا ما يتحرّك سريعًا في السماء ويختفي. سبق لي أن رأيتُ مثل هذه الأجسام المبحرة سريعًا في السماء من الباحة الخلفية لحديقة منزلنا؛ لكني حسبتها أشكالًا غير مألوفة من ألعاب نارية غريبة عمّا عرفناه. أوضح لي والدي أنّ هذه الأجسام المتحرّكة هي نيازك تخترق الغلاف الأرضي وتصبح شهبًا محترقة.
كانت تجربتي تلك كأنها السحر الخالص بعيدًا عن العالم ومحدّداته. كلّ ما فعلتُه هو النظر إلى الأعلى، وحينها استطعتُ الهرب نحو عالم عجائبي من الأجسام غير الأرضية. كلّ هذا السحر العجائبي كان يقبع فوق رأسي؛ وبرغم هذا فهو غالبًا ما يمضي من غير أن يختبره كثيرون من البشر الذي يشاركونني تجربة العيش على الأرض. يبدو هؤلاء البشر دومًا مأسورين بقبضة إنشغالاتهم العادية.
منذ تلك الواقعة صحبة والدي أسَرَني العلمُ بمهابته وجماله. الضوء والكهرباء هما أكثرُ ما بعثا الحيرة والرهبة بداخلي. لم أزل أشعر بحس الإنجاز عندما كنتُ في تلك الأيام أصنع تركيبات مختلفة من مصابيح كهربائية وأجعلها تضيء بطرق مختلفة من كيفيات ربط الأسلاك والبطاريات. ما أدهشني كثيرًا في تلك الأيام هو أنّ طائفة كاملة من القوى والظواهر الخبيئة عن عيوننا وعقولنا يمكن أن نتلمّس آثارها بالاستعانة بمواد بسيطة يمكن أن توجد في غرفة كلّ منّا. كلّ ما يحتاجه المرء هو أن يتبع الخطوات الصحيحة للكشف عن هذه القوى والظواهر الفيزيائية. عمدتُ منذ ذلك الحين لجمع كلّ ما تقع عليه عيناي من مواد مهملة لا تصلح إلّا للقمامة: عدسات قديمة مثلومة، أسطوانات معدنية، مفرقعات نارية مهملة، أسلاك كهربائية متهالكة، مصابيح كهربائية ملقاة في طريق عودتي من المدرسة. كنت أفعل هذا وتساؤلٌ ملحّ يعبث بعقلي: "ما الفعل الذي أستطيع أن أجعل هذا الشيء الذي بين يديّ أن يفعله؟"
في عيد ميلادي الثاني عشر أهداني والديّ عدّة تحميض صور فوتوغرافية. لم أكن أمتلك كاميرا حينها؛ ومع هذا استعرتُ كاميرا والدي واعتدتُ الوقوف تحت النُدَف الثلجية المتساقطة من السماء لأجل تصوير مصابيح السيارات المتحرّكة سريعًا. لم أزل أتذكّرُ ذلك الإحساس المهيب عندما شاهدتُ أولى ملامح الصور الفوتوغرافية وهي تظهر في وعاء التحميض. كانت صورة للباب الأمامي لمنزلنا وقد ظهر عليه ضوء المصباح المنعكس عن طبقة الجليد المتكدّس على الأرض. عندما أخرجتُ الصورة من وعاء التحميض شعرتُ كساحر يتلاعبُ بقوى خفية مرعبة.
عندما بلغتُ الرابعة عشرة اعتزمتُ بناء تلسكوب (مرقاب) خاص بي. شراءُ تلكسوب جاهز في تلك الأيام المقترنة بالشحة لم يكن أمرًا يمكن التفكير فيه حتى في الأحلام بعيدة المنال. كلّ ما اشتريته هو مرآة بنصف قطر أربع بوصات (إنجات. الإنج (البوصة)= 2.54 ميللمتر- المترجمة). كل شيء آخر كان عليّ تدبيرُهُ من المواد التي أحتفظ بها كمهملات. استعنتُ ببعض القطع الخشبية المهملة في مطبخنا لتكون قاعدة حاملة للتلسكوب، وأعارني بعض أفراد العائلة والأصدقاء عددًا كافيًا من الصواميل والبراغي (اللوالب) اللازمة لعملي، وكان كل هذا كافيًا للبدء بأوّل مشاريعي في حقل علم الفلك الرصدي. بعد النجاح الذي أصبته في هذا التلسكوب اعتزمتُ بناء تلسكوب بمقياس أكبر؛ فكان عليّ تحضير المرآة الخاصة به بنفسي وهي بمقياس ثماني بوصات هذه المرّة. صنعتُ التلسكوب، واختبرتُ عمله وقد عمل بالفعل؛ لكنّه لم يكن بالكفاءة التي أردتها له. لكن برغم محدودية كفاءته فقد كان كافيًا لرصد القمر والكواكب.
تحققت ذروة عملي كفلكي مراهق عام 1963 عندما قدّمت لي مارغريت تاتشر جائزة هي نسخة من أطلس نورتون للنجوم Norton's Star Atlas. كانت السيدة تاتشر حينها عضوة في البرلمان البريطاني عن منطقة فنتشلي Finchley حيث كنتُ طالبًا في إحدى مدارس تلك المنطقة حينذاك. كانت الجائزة هدية نهاية السنة الدراسية للطلبة الأفضل في نتائج اختبارات العلوم. بعد سنوات عديدة، وعقب حصولي على جائزة تمبلتون Templeton Prize - التي مُنِحَتْ لي تقديرًا لأعمالي الساعية للتقريب بين العلم والدين- كانت البارونة تاتشر واحدة بين طاقم اللجنة التي وافقت على منحي الجائزة، كما وافقت بكلّ لطفٍ على وضع توقيع ثانٍ لها جنب توقيعها الأوّل على نسخة كتاب أطلس نورتون الذي قدّمته لي عام 1963.
*****
* بول سي. دبليو. ديفيس Paul C. W. Davies: فيزيائي نظري وكاتب ومروّج للعلم وتأثيراته. ولد عام 1946. عمل أستاذًا في جامعة ولاية أريزونا ومديرًا لمركز BEYOND الخاص بدراسة المفاهيم الأساسية في العلم. شغل وظائف أكاديمية في كلّ من جامعات كامبردج، لندن، نيوكاسل، أديلايد (الأسترالية). اهتماماته البحثية هي في حقول الكوسمولوجيا، ونظرية المجال الكمومية، والبيولوجيا الفلكية. له كتب منشورة عديدة منها: The Fifth Miracle، About Time، The Mind of God، The Last Three Minutes.
آخر كتبه المنشورة عنوانه What is Eating the Universe? (And Other Cosmic Questions) وقد نشره عام 2021 (المترجمة)
- الموضوع ترجمة للفصل المعنون Cosmology Calls من الكتاب الذي حرّره الكاتب جون بروكمان John Brockman وأصدره عام 2004 بعنوان:
?Curious Minds: How a Child Becomes a Scientist