1 ــ لا توجد أي ذكرى في الفراغ. أن تتذكر يعني دائمًا أن تتذكر شيئًا آخر، وأن يتم تذكيرك بشيء آخر بعد، وشيء آخر كذلك. تسلسلات الارتباطات والتذكر هذه تشكّل دعامة لأعماق نفوسنا، ومنها تنمّي عقولنا جذورًا وسيقانًا. وهذه الجذور تشكّل أساس استمرارية ذواتنا، استمرارية حيواتنا الداخلية، وتحافظ عليها.
2 ــ أن تتذكر يعني أن تكون. والتذكر هو ممارسة أن تكون شيئًا ما، أن تكون شخصًا ما، عبر الوقت. "أن تتذكر شيئًا (se souvenir de) يعني في الوقت ذاته أن يتذكر المرء نفسه se souvenir de soi) "(i)) التذكر هو ممارسة أن تكون من يبقى، من يُمنَح فرصة أن يبقى، أن يصبح ذاته، مرة بعد أخرى، حتى عندما يعترضه اضطهاد أو عنف [انظر 9، 16].
3 ــ لماذا نتذكر؟ أن نتذكر يعني أن نغذّي الجذور التي تحافظ على استمرارية المرء كشخص، كذات، عبر الوقت. وهذه الذات متجذرة دائمًا في تربة الجماعة، حيث تدور محادثة بين كل الجذور. أن تتذكر يعني أن تغذّي الجذور التي تحافظ على استمراريتنا كجماعات عبر الوقت: معيدين تشكيل ذواتنا، دائمًا في حالة حوار، نساوم، نصير، حتى عندما يعترضنا اضطهاد أو عنف [انظر 1].
4 ــ لماذا نتذكر؟ أن نتذكر يعني أن نبقى على قيد الحياة، أن نمدّد كينونة ممتدة من الماضي إلى المستقبل. نتذكر لنكرّم موتانا، ثقافتنا، ماضينا، ونمدّد كل ذلك. نتذكر لنصبح من نحن عليهم. لا لنكرّر الماضي فحسب، بل لننتجه أو نعيد بناءه. "الذاكرة... ليست ملَكَة الاحتفاظ بالذكريات في درج، أو نقشها في سجّل"(ii) واسترجاعها ببساطة في وقت لاحق. الذاكرة هي ملَكَة إنتاج الذكريات. [التجربة محجوبة ــ صمت] [انظر 6، 31].
5 ــ إن ماديّة حياة ما ليست مقيدة بحدود جسد المرء. نحن متجذرون واحدنا في الآخر، أحياء كنا أم موتى. ومادية تذكّرِ الموتى من قبل الآخرين تشكّل الحياة الأخرى المادية لهم، في عقول الأحياء وقلوبهم. الموتى يستمرون بالعيش في السرديات المُتَذكَّرة، بغض النظر عن المكان الذي تنتهي إليه ذراتهم. بالنسبة إلى الموتى، أكثر من الأحياء، "الكون مصنوع من قصص، لا من ذرات"(iii). هنالك قتلٌ للجسد، وهنالك قتل لذكرى المرء، لقصص المرء، وهنالك قتل لذكرى الموتى. الموتى يعيشون من خلالنا، نحن "يؤلفنا ما يسبق وما يتجاوز"نا(iv)[التجربة محجوبة ــ صمت].
6 ــ جوهر تمردِ أنتيغون هو الحاجة لتكريم ذكرى الموتى، الحاجة لدفن جثة أخيها المتوفى. يمنع كريون شعائر دفن بولينيسيز، يحظر إحياء ذكراه، لأن الموت الحقيقي هو موت ذكرى المرء. وكل ما تريد أنتيغون فعله هو أن تحزن على موتاها وتكرمهم، بكلمات أخرى، أن تمدّدهم بالإبقاء على ذكراهم حية. إنها مستعدة للمخاطرة بحياتها لتؤدي الطقوس، لتحزن، لتكرّم، علنًا. الحزن هو تكريم الذكرى، تمديد حيوات ما فُقِد، إبقاء روح ما حية في قلوب وعقول من يبقون أحياء بعدها، وبالتالي، الحزن هو مقاومة ثورية ضد كريون. قصة أنتيغون هي قصة عن ثورية الحزن، عن تشكيل رابط حيّ مع ما فُقِد والحفاظ على ذلك الرابط [انظر 31].
7 ــ إذا لم يُتَح لنا أن نحزن بنفس درجة الفظائع والفقدان، تستولي التروما (الصدمة النفسية) على الذاكرة. [التجربة محجوبة- صمت] [انظر 9، 16، 18، 23، 29، 31].
8 ــ التروما تشوّش التذكر. إنها تصيب الذكريات الحميدة وتقيم داخلها، بصمت، ببطء، ومع مرور الوقت. إنها تشوّش سلسلة الارتباطات التي تُسحَب، الجذور التي تُغذّى، الكلّ الذي لا يعود موجودًا [انظر 7، 31].
9 ــ عندما يُشوَّش التذكر بالتروما، تتفرع الجذور، تندثر، تفسُد، وتنكسر الاستمرارية. الشعور الترومي (المرافق للتروما) لا يعود يُتَذكر من قبل العقل والجسد بشكل متناغم، أو بشكل واع. "بوسعنا أن نتكلم على الجسد بوصفه حدًّا دائم النمو بين المستقبل والماضي"(v). عندما تستولي التروما بهدوء على الجسد وتلقي بظلها على الماضي، ينكمش المستقبل. يتذكر العقل ما لا يتذكره الجسد، مثل فقدان مهارة ما. أو يتذكر الجسد ما يتجنبه العقل مهما كلّف الثمن: مثلُ ذلك التذكر الجسماني يمكن أن يبدو جديدًا بقدر التجربة. وهذا التمزق يفصل تذكر الشيء عن اختباره. فلا تعود الذات تتبع ذات المسار السابق. بل تتفرع من التسلسل الزمني السابق وينكمش مستقبلها. كما أنها لا تعود متمالكة لذاتها، لا تعود على معرفة بمصادر تجربتها [انظر 2، 7، 11، 16].
10 ــ الذاكرة غير معصومة؛ لأنها حيّة. إنها تتغير وتتأقلم وتجدّد نفسها. جذور معنى أن تكون إنسانًا، التذكر. ماديّةُ الذاكرة بيولوجية وكيميائية، لكنها مع هذا تتبع منطق السرد والأسطورة بقدر ما تتبع منطق الخلايا؛ تجمعات الخلايا، التغصّنات (الزوائد)، النواقل العصبية التي تنظّمها، وتنقل الجسد والعقل من حالة إلى أخرى. يقطن كلا اللوغوس والميثوس (المنطقي العقلي والأسطوري) شبكات الخلايا وحزمها، تلك التي تصبح الذاكرة من خلالها مادية. ورغم أنها تُمفهَم كمواضيع تقص تجريبي من منظور اللوغوس، هذه الشبكات - المادة التي تتألف منها الذاكرة- ليست محكومة باللوغوس. إنها لا تتبع منطق الدارات، البوابات، والترانزيستورات. "المادة والمعنى ليسا عنصرين منفصلين"(vi).
11 ــ منطق الذاكرة هو لبنة بناء عالمنا الداخلي. تتكدس بعض الذكريات لتبني منزلًا هنا، ملعبًا هناك، معبدًا، ومختبرًا تجريبيًا. منطق الذاكرة أسطوري. للذاكرة عالم سفلي، قبو يُحتفظ فيه بالفجائع والوحوش التي لم تتم معالجتها. وكون الذكريات غير معصومة وغامضة - الذكريات التي تعمل من العالم السفلي للتذكر، من الطبيعة اللاواعية، المتوقفة على السياق التي يتسم بها التذكر ــ يمكن أن يجعل ذات المرء غير معصومة وغامضة، له وللآخرين [انظر 1، 32].
12 ــ منطق التذكر هو أن كل ذكرى هي باب لذكرى أخرى، والكثير من الأبواب يمكن أن تفضي إلى ذكرى معينة.
13 ــ منطق التذكر هو أن الكيفية التي تجعلنا ذكرى ما نشعر بها تعتمد على الباب الذي وصلنا منه إلى تلك الذكرى. نحن لا نشعر بالطريقة ذاتها عند تذكر الذكرى ذاتها.
إذا لم يُتَح لنا أن نحزن بالدرجة نفسها على الفظائع والفقدان، تستولي التروما (الصدمة النفسية) على الذاكرة (غزة، Getty) |
14 ــ منطق الذاكرة هو أننا نعزّز الذكريات في كل مرة نرجع إليها فيها. لكن، في كل مرة نعزّز ذكرى، فإننا أيضًا ننسى جاراتها قليلًا. وفتح الأبواب المؤدية للخروج من ذكرى مُعزَّزة يصبح أصعب قليلًا كلما ارتحنا لها أكثر. نتعلق بها لزمن أطول. نغرق أعمق. يُعرف هذا على أنه نسيان مُحفَزٌ بالاسترجاع(vii). وهو يعني أن يسبّبَ تذكرُ شيء ما نسيان ذكرى مجاورة. وهذا بدوره يؤدي إلى "المشهد المقلِق الذي يسبّبه إفراط في ذكرى هنا وإفراط في نسيان في مكان آخر... [ما يستلزم] تحصيصًا عادلًا للذاكرة"(viii). لذلك من الضروري أن يذكّر المرء نفسه بالذكريات الموجودة خلف الأبواب المجاورة ويكرّمها، أن يكرّم موتى الجار [التجربة منسية - صمت].
15 ــ في منطق الذاكرة، اثنان زائد اثنان لا يساوي أربعة، واثنان ناقص اثنان لا يساوي دائمًا صفر. أحيانًا، المزيد من التجربة ذاتها يجعلها أقل قابلية للتذكر، وقليل جدًا من تجربة أخرى يجعلها أكثر قابلية للتذكر.
16 ــ التروما اعتداء على الذاكرة. إنها اعتداء على العالم الداخلي. وحسب منطق الذاكرة، إضافة تجربة واحدة مسببة للتروما يمكن أن يساوي ألمًا لا نهائيًا، حياةً كاملة من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). في التروما، واحد زائد واحد زائد واحد لا يساوي ثلاثة، بل مستوى معقد من اضطراب ما بعد الصدمة، فقدان دائم للسلامة، تشويش مدى الحياة لِما كان عليه المرء. إن التروما هي الزائد واحد الذي يمكن أن يجعل الذات مساوية للصفر، والذات التي تُبعث من الرماد هي أخرى. ليست الذات نفسها [انظر 2، 9].
17 ــ البروباغندا (الدعاية والترويج) هي حرب على التذكر؛ تذكر من نحن، تذكر من يعدّ إنسانًا، حيًّا. إنها اعتداء على الذاكرة. [التجربة محجوبة- صمت] [انظر 24].
18 ــ ما الذي يبقى عندما ننجو؟ ما الذي ينجو وما الذي يموت؟ إن من ينجو ليس ذات الشخص الذي أعاقته التروما. وذلك الذي أعيقت ذاكرته بعنف، لا يبقى [التجربة محجوبة ــ صمت].
19 ــ نحن لا نتذكر بمعزل عن غيرنا. الذاكرة ممارسة جمعية. تحتاج الذكرى أن يُعبَّر عنها لكي تبقى حية. الذكريات لا تنجو على جزيرة منعزلة.
20 ــ منطق الذكرى يتطلب الإفصاح. أن يُعبّر عن الذكرى. الذكرى التي تختار الصمت لتنجو لا تبقى. الذكرى التي تبقى صامتة لا تنجو. وإنذار جيمس بالدوين لا يزال ينضح صدقًا: "نحن نعيش في عصر ليس الصمت فيه إجراميًا فحسب، بل انتحاريًا كذلك"(ix). الذكرى التي تبقى صامتة تموت، وتلك التي تنجو متمتعة براحة العمل، المنزل، الأمان، العلاقة التي تطلبت الصمت، هي ذكرى أخرى. والتي تنجو من الصمت تدفع الثمن بفقدان الرغبة. وتلك التي تبقى صامتة، تفقد الحق بنيل رغبتها الخاصة.
21 ــ الجسد لا يبقى صامتًا. إذا لم يتم الحديث عن الذكرى، فإنها تتحدث عبر الجسد. الغضب، نوبات البكاء، الأرق، فقدان الرغبة، التملك.
22 ــ ثمة جرائم ضد الذاكرة وجرائم ضد الذاكرة الجمعية.
23 ــ الشفاء من التروما يحتاج إلى إصلاح الذكريات المشوَّشة بعنف، الفردية منها والجمعية. والتذكر في مواجهة المحو العنيف يتطلب شجاعة. إنه يتطلب مشاركة، إفصاحًا، تعبيرًا. والذكرى التي تعود عند الإصلاح تكون مختلفة عن تلك التي كانت يومًا [التجربة محجوبة ــ صمت].
24 ــ غاية من يقوم بالبروباغندا هي "أن يجعل مجموعة من الناس تنسى أن مجموعات ناس أخرى معينة هم بشر" (x). هدف البروباغندا أن تقنعنا أن مجموعة من البشر غير جديرين بالحزن عليهم، ولا يستحقون طقوس الحداد وشعائره. أن تكون إنسانًا يعني أن تكون جديرًا بالحزن عليك. وأن تجعل مجموعة من البشر غير جديرة بالحزن يعني أن تمحو ذكريات حيواتهم البشرية، أن تمحو الدليل على إنسانيتهم، أن تنزع عنهم الصفة الإنسانية. اعتداء البروباغندا على الذاكرة هو اعتداء على إنسانيتنا [انظر 17].
25 ــ "مَن هم أولئك الذين تم تنشئتك اجتماعيًا لئلا ترى في حياتهم أي قيمة؟"- قرأتُ هذه العبارة مكتوبة باللون الأسود، بخط كبير جدًا، من نوع بالاتينو ربما، على خلفية باللون البيج. "يمكن أن نفكر بالحرب على أنها تقسم الشعوب إلى أولئك الجديرين بالحزن عليهم وأولئك الذين ليسوا كذلك. الحياة غير الجديرة بالحزن هي حياة لا يمكن الحداد عليها لأنها لم تُعَش قط، أي أنها لم تُعتبر يومًا حياة على الإطلاق"(xi) [التجربة منسية ــ صمت].
26 ــ منطق الذاكرة ليس خطيًّا. ليس ثمة ماض مضى الآن أو مستقبل ليس هنا. أن تتذكر يعني أن تكون مسافرًا عبر الزمن. أن تنزلق عبر الزمن في أيّة لحظة، إلى نقاط مختلفة في أكثر من ماض ممكن وأكثر من مستقبل ممكن.
27 ــ منطق الذاكرة هو أن الماضي مرن؛ غير منقضٍ، غير حتمي. في كل مرة نتذكر فيها، نغيّر شيئًا في الماضي. في كل مرة نتذكر فيها نخلق مواضي جديدة تتفرع إلى مستقبَلات جديدة، بحسب الباب الذي وصلنا إليها منه.
28 ــ منطق الذاكرة هو أنه ثمة عددًا لا نهائيًا من المواضي. لكل لحظة عدد لا نهائي من المواضي، وعدد لا نهائي من المستقبَلات، والتذكر هو وسيلة السفر بالزمن عبرها كلها.
29 ــ النسيان هبة للمسافر عبر الزمن. من دونه سنكون مدفونين تحت تكاثر العدد اللانهائي من المواضي والعدد اللانهائي من المستقبَلات، وقد نفقد أي حسّ بالاستمرارية. النسيان تذكير بما تم التدرب عليه، ما تكرّر، ما ثُبِّت في الوجود، ما تم تجاهله، ما تم التخلّي عنه، ما وسِم للدمار، ما طُمِس. "أن تعقد السلام يعني أن تنسى. لكي تصالح، من الضروري أن تكون الذاكرة معيوبة ومحدودة"(xii) [التجربة منسية ــ صمت].
30 ــ يعامل العلم الذاكرة على أنها مادة للتقصي التجريبي. نحن نُجري تجارب، نصنّف أنواعًا مختلفة من الذاكرة، نجري مسحًا لأدمغة البشر، نفحص الديدان، باحثين عن منطق الذاكرة؛ اللوغوس الخاص بها. كما أننا نفك شيفرة الذاكرة من الخلايا ونشكّلها باستخدام الرياضيات، نحدّد الدارات والأنماط البيولوجية التي تسبّبها، نتنبأ أو نستحث الذاكرة والنسيان. لكن منطق الذاكرة هو أيضًا أسطوري، والميثوس لا يتعلق بالعملي، التجريبي، أو التنبؤي، بل بالأزلي، بالسرد، بالمعنى الذي يحركنا بعمق(xiii). يعيش كلا الميثوس واللوغوس في ذات الخلايا التي تدخل في ماهية الذاكرة. ومثل الميثوس، يمكن لسردية متكررة أن تحط رحالها على الذاكرة، ولا تفلتها قط، مثل إله غاضب محوِّل للشكل، يأتي على كل تفسير آخر، كل سردية أخرى. ذلك هو منطق التروما التي تحط رحالها على الذاكرة، أسطوريةً. وماهية الذاكرة تتخطى الميثوس واللوغوس الخاصين بها، مبدِّدةً حدودهما الصارمة.
هدف البروباغندا أن تقنعنا أن مجموعة من البشر غير جديرين بالحزن عليهم، ولا يستحقون طقوس الحداد وشعائره (غزة، Getty) |
31 ــ منطق الذاكرة مشابه لمنطق السفر عبر الزمن في أكوان متعددة. مع خيارات مماثلة، مخاطر وعواقب مماثلة. ليس بتغيير الماضي فحسب يمكنك أن تغيّر المستقبل، بل بالتنقل في الزمن عبر الأكوان المتعددة يمكنك أن تغير شيئًا في المعنى الأوسع للشيء كله؛ ذلك المزيج من كل التسلسلات الزمنية والأكوان المتعددة، فما هو ذلك الشيء؟ ما هو ذلك الـ"ذلك"، الذي يتفرع إلى عدد لا نهائي من المواضي والمستقبَلات؟ ما هي الكلمة الملائمة له؟
32 ــ تكريم الذكرى يغيّر مجرى ذلك، مجرى تلك الشبكة من احتمالات الكينونة الدائمة التفرع، الدائمة التوسع. الحزن ثوري، لأن له القدرة على إعادة تشكيل "ذلك". بالاتساع اللانهائي الذي هو عليه [انظر 6].
33 ــ منطق الحزن هو منطق الذاكرة. قد تهرب، بابًا إثر باب، بعيدًا بقدر ما تستطيع. لكن، مهما ابتعدتَ عن الغرفة التي يعيش فيها الحزن، يظل هنالك دائمًا باب، بوابة تُرجعك إليها.
34 ــ في كل مرة تزور فيها مواضيع الحزن لا تكون أنت ذاتك. ولا تكون الذكرى هي ذاتها. أنتما تتطوران. معًا. ببطء. عبر الزمن. إما نحو الشفاء أو نحو أعماق الجنون.
35 ــ منطق الذاكرة أسطوري. للذاكرة عالم سفلي، قبو، تعيش فيه الفجائع والوحوش المنسية والتي لم تتم معالجتها. "نفتح عندها امبراطورية النسيان، مدفونةً تحت دعسة الذاكرة والتاريخ(xiv). يتطلب العالم السفلي زيارات طقسية وتضحية. وإذا لم يُبجّل، ينميّ العالم السفلي وحوشًا أكبر تتربص في الخفاء؛ في كل غرفة، في كل زاوية، ملقية بظلالها على الواقع، غير معلَنة، لا يلاحظها أحد.
36 ــ العالم السفلي يولّد الكوابيس. إنه يُطارد مثل شبح، يستحوذ، ويتحدث من خلال ألسنتنا وأجسادنا إلى أن نقوم بزيارة الموتى. إلى أن نكرّم كل فاجعة، واحدة تلو الأخرى، إلى أن يُكرَّم الموتى، وتكتمل مهمة الحزن. إلى أن نعيد تشكيل الماضي والمستقبل وصولًا إلى إدراكنا للبشرية بوصفها جديرة بالحزن عليها، أي جديرة بالحداد، بأن تُقام طقوس الحداد، جديرة بوقفة حزن". "أحد طرق طرح سؤال من 'نحن' في أوقات الحرب هذه هي بأن نسأل: أيّة حيوات تُعتَبر ذات قيمة، حيوات مَن يمكن الحداد عليها، وحيوات مَن تُعتَبر غير جديرة بالحزن عليها؟"(xv). الحزن ثوري. الحزن له القدرة على إعادة تشكيل ذلك الـ"ذلك". بالاتساع اللانهائي الذي هو عليه [صمت].
مراجع:
(i) ــ بول ريكور (2004) ــ "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، ص3.
Ricoeur, Paul. 2004. Memory, History, Forgetting, p 3. University of Chicago Press.
(ii) ــ هنري برغسون (1928) ــ "التطور الخلاق"، ص5.
Bergson, Henry. 1928. Creative Evolution, p 5. Edited by Arthur Mitchell.
(iii) ــ موريل روكايزر (2006) ــ "سرعة الظلام".
Rukeyser, Muriel. 2006. “The Speed of Darkness.” In The Collected Poems of Muriel Rukeyser, edited by Janet E. Kaufman, Anne F. Herzog, Jan Heller Levi. University of Pittsburgh Press.
(iv) ــ جوديث بتلر (2005) ــ "الذات تصف نفسها"، ص82.
Butler, Judith. 2005. Giving an Account of Oneself, p 82. Fordham Univ Press.
(v) ــ هنري برغسون (1896) ــ "المادة والذاكرة"، ص88.
Bergson, Henri.1896. Matter and Memory (trans: Paul NM, Palmer WS 1911), p 88. Macmillan, New York.
(vi) ــ كارين بِراد (2007) "مقابلة الكون في منتصف الطريق: فيزياء الكم وتشابك المادة والمعنى"، ص3.
Barad, Karen. 2007. Meeting the Universe Halfway: Quantum Physics and the Entanglement of Matter and Meaning, p 3. Duke University Press.
(vii) ــ مايكل سي أندرسون، روبرت إي. بيورك، وإليزابيث إل. بيورك (1994) "التذكر يمكن أن يسبب النسيان: ديناميكيات الاستعادة في الذاكرة بعيدة الأمد".
Anderson, Michael C., Robert A. Bjork, and Elizabeth L. Bjork. 1994. “Remembering Can Cause Forgetting: Retrieval Dynamics in Long-Term Memory.” Journal of Experimental Psychology. Learning, Memory, and Cognition 20 (5): 1063–87.
(viii) ــ بول ريكور (2004) "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، صxv.
Ricoeur, Paul. 2004. Memory, History, Forgetting, p xv. University of Chicago Press.
(ix) ــ جيمس بالدوين (1970) ــ "رسالة مفتوحة إلى أختي، الآنسة أنجيلا ديفيس".
Baldwin, James. 1970. An Open Letter to My Sister, Miss Angela Davis. New York Committee to Free Angela Davis.
(x) ــ ألدوس هكسلي (1936) ــ "شجرة الزيتون ومقالات أخرى". ص102.
Huxley, Aldous. 1936. The Olive Tree, and Other Essays, p 102. Chatto & Windus.
(xi) ــ جوديث بتلر (2016) ــ "أطر الحرب: متى تكون الحياة جديرة بالحزن؟"، ص38.
Butler, Judith. 2016. Frames of War: When Is Life Grievable? p 38. Verso Books.
(xii) ــ سوزان سونتاغ (2003) ــ "الالتفات إلى ألم الآخرين"، ص126.
Sontag, Susan. 2003. Regarding the Pain of Others, p 126. Penguin Books, Limited (UK).
(xiii) ــ كارِن أرمسترونغ (2022) ــ "الطبيعة المقدسة: استعادة رابطنا القديم مع العالم الطبيعي"، ص20 ــ21.
Armstrong, Karen. 2022. Sacred Nature: Restoring Our Ancient Bond with the Natural World, pp 20-21. Knopf Doubleday Publishing Group.
(xiv) ــ بول ريكور (2004) ــ "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، صxvi.
Ricoeur, Paul. 2004. Memory, History, Forgetting, p xvi. University of Chicago Press.
(xv) ــ جوديث بتلر (2016) ــ "أطر الحرب: متى تكون الحياة جديرة بالحزن؟"، ص38.
Butler, Judith. 2016. Frames of War: When Is Life Grievable? p 38. Verso Books.
(*) إيدا مومينْنِجاد: كاتبة وباحثة. تجمع بين الفلسفة والعلم من أجل فهم الذاكرة: من أسسها المادية ونماذجها الرياضية إلى ترابط الذاكرة الفردية والجمعية، وكيف تشكلان الذات والمستقبل. نشرت أكثر من خمسين مقالة وفصول كتب في مجلات عدة. تعمل حاليًا على رواية تخييلية تأملية، وكتاب غير تخييلي، يضمان تأملات حول مسألة الذاكرة في سياق العلم، النسب، والحرب؛ تأملات تطمس حدود اللوغوس والميثوس، الشخصي والسياسي.
رابط النص الأصلي:
https://thephilosophicalsalon.com/the-logic-of-memory