وجاء في بيان لجنة التحكيم: "يثبت بيتر جيزي أن الشعر ليس فقط وسيلة للحداد، بل هو أداة للإحياء والتجديد. هذه القصائد ليست مجرد كلمات على الورق؛ إنها حياة تنبض عبر اللغة".
من جانبه، أعرب جيزي عن دهشته للفوز بجائزة تحمل اسم تي. إس. إليوت، الشاعر الذي لطالما ألهمه. كما أبدى امتنانًا عميقًا للجنة المانحة ولكل من قرأ ديوانه وتواصل معه على مستوى شخصي وعاطفي، مؤكدًا على أهمية الشعر كوسيلة للتعبير عن التجارب الإنسانية العميقة. ويقول جيزي: "الشعر بالنسبة لي ليس مجرد كلمات، بل هو الجسر الذي يمكننا من خلاله أن نلتقي مع أعمق مشاعرنا وأكثرها إنسانية. 'مرثية شرسة' هي شهادة على قوة الفقد، لكنها أيضًا احتفال بقوة الحب الذي يتركه الفقد وراءه".
قصائد من رحم الحزن
ولد بيتر جيزي عام 1965 في بروفيدنس، رود آيلاند، في الولايات المتحدة، ويعتبر من أبرز الأصوات الشعرية التي تُعيد تعريف الشعر الحديث، حيث يدمج بين الإرث الشعري الكلاسيكي والرؤية الحداثية بطريقة بارعة، ما أهّل أعماله للحصول على العديد من الجوائز المرموقة، مثل جائزة بوليتزر للشعر، وجائزة جريفين الدولية. سبق أيضًا أن فازت المرثية بجائزة ماساتشوستس للكتاب في سبتمبر/ أيلول 2024.
وتكشف أعمال جيزي عن رؤيته الفلسفية وميله إلى الترميز كما في ديوانه "قصائد الضوء/ The Light Poems" وطريقة تعامله مع مفاهيم الضوء والظل، وكذلك "الصمت والعاطفة/ Silence & Passion" بقدرته على التقاط الخيوط الرفيعة بين الصمت والحب.
كتب جيزي مرثيته عقب ثلاثة حوادث مروعة، موت شقيقه مايكل الذي كان شاعرًا مثله كما عمل معه في الجريدة نفسها عام 2010، ثم موت توم شقيقه الثاني بعد عدة سنوات، لينتهي المطاف بإصابته بنوع نادر من أمراض الدم في عام 2021.
هذه القصائد إذًا، خرجت من رحم الحزن والوجع، في هذا الصدد تقول خالفاتي إنه ديوان "حزين إلى ما لا نهاية، لكنه حازم، وحيوي للغاية". ويستقصي جيزي الحزن على تنويعات مختلفة:
"الحزن ليس كيانًا ينفصل عنك/ بل هو الطيف الذي يسكن عينيك/ ويُعيد تشكيل ملامح العالم/ كأنك ترى لأول مرة/ ولكن دائمًا من مسافة بعيدة".
في الوقت الذي يلتصق الحزن حتى يغدو طيفًا يسكن العينين، يصنع مسافة بين الشخص الذي تلبّسه والعالم الذي يعيش فيه وكأن ما أضيف إلى الشخصية، تم اقتطاعه من علاقتها بمحيطها الخارجي، فإذا بملامحه تستبين من مسافة بعيدة، غير أننا لا نعلم شيئًا عن طبيعة تلك الملامح بتغيير زاوية الرؤية إلى الوراء كثيرًا.
ويقول في موضع آخر: "الحزن ليس مجرد جدار، إنه باب، تفتحه فتجد عالمًا من الذكريات يمتد بلا نهاية، لكن الطريق فيه وعرة، وكل خطوة بجرح".
فوائد الفقد وتبعات الغياب
غير أن حزن الشاعر ليس من النوع المدمر أو الميؤوس منه كما نستشف من اللغة المليئة بالطاقة والتحدي وتأملاته عن كيفية معالجة الخسارة: "في عالم شرس، يمكن للقلب المكسور أن يتحول إلى قلب شرس، ينبض بقوة رغم الكسور". في قصيدة بعنوان "فكر في الجرح"، يستكشف جيزي العلاقة بين الألم واللغة، وكيف يمكن للجروح العاطفية أن تكون مصدرًا للكلمات وطرقًا إلى التعبير "الألم يفتح كل جرح/ الجرح يفتح كل كلمة".
ولا يعني الفقد، انقطاع الصلة بالآخر، فالعلاقة تتناوب بين الطرفين على النحو التالي: "إن كنتَ نارًا، فأنا الريح التي تحملك بعيدًا، وإن كنتَ ذكرى، فأنا الصوت الذي يُعيدك إلى السمع".
العلاقات ما زالت قائمة، لا من خلال الذكرى فحسب، بل يحضر الغائبون في تفاصيل الحياة اليومية "أنا هنا في الضوء الذي تركته خلفك، أرتدي ظل الغياب كمعطف في الشتاء".
كما أن "الغيوم تتحدث بلغة من رحلوا/ كل قطرة مطر هي رسالة/ لكننا لا نعرف كيف نقرأها/ لذا نقف تحتها صامتين، نتركها تغسلنا/ كأننا نستعيد طهارة قديمة".
وتعكس القصائد بلغتها المكثفة وإيقاعها غير التقليدي ومزجها الأبعاد الشخصية بالكونية، مدى قدرة الإنسان على التحمل والتكيف مع الصعاب، وكيف يمكن للألم أن يكون مصدرًا لاستجلاب الكلمات. يقول في قصيدة بعنوان "فكر في الجرح": "الألم يفتح كل جرح/ الجرح يفتح كل كلمة".
هذه الكلمات التي تتفتح هي وسيلة الشاعر للمعرفة والاستكشاف بما يحميه من كل ضروب الانسلاخ.
على الرغم من تصدير الديوان باعتباره مرثية، كما نستدل من العنوان، واستكشافه لمواضيع كبرى مثل الزمن، الذاكرة، الحياة، والموت، فإن جيزي يكتب قصائده بنظرة متفائلة، تمزج بين تفاصيل بسيطة وأفكار وجودية وهو ما رآه النقاد عملًا يُجسد روح تي. إس. إليوت في المزج بين الفلسفة والشعر. إنها بحق مرثية عن الألم والأمل فـ "حتى في أقسى الليالي/ هناك شعلة صغيرة تتوهج/ تذكرنا أن الظلام/ ليس إلا رقعة بين النجوم".
إلى ذكرى الذين رحلوا
تنافست "مرثية شرسة" مع تسعة عناوين أخرى من ضمنها "علامات وموسيقى" للشاعر ريموند أنتروبس المعروف بتلاعبه بالزمن، والمجموعة الشعرية المؤثرة "آدم" التي يستلهم فيها غبويغا أودوبانجو حادثة العثور على جثة صبي مجهول في نهر التايمز عام 2001، مازجًا بين قصة الخلق وثقافة اليوروبا، وكذلك مجموعة قصائد غوستاف باركر هييت "القفز عاليًا كما في حكاية إيكاروس" وغيرها من الدواوين القوية. هذه الدواوين العشرة تم اختيارها بعناية من بين 187 عنوانًا قُدِّمت من ناشرين بريطانيين وأيرلنديين للتنافس على الجائزة التي تبلغ قيمتها 25 ألف جنيه إسترليني، علاوة على مبلغ 1500 جنيه إسترليني لكل شاعر في القائمة القصيرة ولم يحالفه الحظ هذا العام.
وتُعتبر جائزة تي. إس. إليوت من أبرز الجوائز الشعرية في العالم الناطق بالإنكليزية، وتُمنح سنويًا لأفضل مجموعة شعرية جديدة، حيث يتم الإعلان عن الفائزين وتكريمهم في حفل يقام في يناير/ كانون الثاني في أحد الأماكن الثقافية المرموقة في لندن، مثل قاعة ساوث بانك أو المكتبة الوطنية، بحضور نخبة من الشعراء والنقاد والمهتمين بالأدب.
وعندما صعد بيتر جيزي على المنصة لاستلام جائزته ضجت القاعة بالتصفيق الحاد بينما كان يبتسم بخجل وتواضع شديد، ويبدو أن الكلمات خانته للحظة فوقف ثابتًا ينظر إلى الجمهور. إلى أن واتته الشجاعة وعبر عن امتنانه للجميع ومن بينهم الشعر الذي مكنه من التعبير عن الألم والخسارة، واصفًا ديوانه بأنه محاولة "لإيجاد معنى وسط الفوضى". في ختام كلمته أهدى جيزي الجائزة إلى ذكرى أحبائه الذين رحلوا، مشيرًا إلى أن القصائد نُسجت من فرط حزنه عليهم.