وأول لقاء بين كارل ياسبرس وهايدغر حدث سنة 1920 في فرايبورغ، وبينهما دار نقاش ساخن حول قضايا فلسفية كانت تشغل كل واحد منهما. وفي نهاية ذلك النقاش الذي استمر ثمانية أيام بحضور جرتريد، زوجة ياسبرس اليهودية، تحدث هايدغر عن "مسار غير عاطفي، عنيف بفضله تقدمت الصداقة نحونا". وبعد أن قرأ مؤلف ياسبرس: "سيكولوجية مفاهيم العالم"، قرر هايدغر أن يكتب تعليقًا عليه ثم أرسله إلى ياسبرس بتاريخ 21 أبريل/ نيسان 1921 مخاطبًا إياه بـ "الأستاذ العزيز جدًا". وقد رد عليه ياسبرس برسالة يقول فيها: "بحسب رأيي، أعتقد أن تعليقك هو الذي من بين كل التعاليق التي اطلعت عليها ينغرس عميقًا في جذر المسألة المفكر فيها". ثم يضيف ياسبرس قائلًا: "لقد وجدت بعض الأحكام الخاطئة رغم أنني طرحت كل شيء للنقاش الصريح والعلني. لكن ولا واحدًا من الفلاسفة الشبان يهمني مثلك أنت". أما كارل ياسبرس فقد فكر في بعث مجلة "تعكس فلسفة العصر"، وتهتم بالنقد، ولا يكتب فيها أحد آخر غيرهما لأن النقاش الذي دار بينهما كشف أنهما يمثلان قوة فكرية قادرة على أن تقوم بالمهمة من دون الاستعانة بأي أحد آخر. وقد كتب ياسبرس يقول: "كل واحد منا محمول بمعرفة ليست موجودة فعليًا إلى حد الآن بصورة واضحة ومكشوفة". وبفضل محاضراته عن التأويلات الفينومينولوجية لفلسفة أرسطو في جامعة فرايبورغ والتي كان يحضرها من سيكونون في ما بعد فلاسفة كبارًا من أمثال هربرت ماركوزا، وغادامار، وهانس جوناس، أصبح هايدغر يتمتع بشهرة واسعة في الأوساط الجامعية. وقد ازدادت هذه الشهرة اتساعًا بعد أن أصبح أستاذ كرسي في جامعة ماربورغ. وفي رسائله إلى كارل ياسبرس هو يتحدث بكل ثقة عن نفسه، عازمًا على "تطهير المناهج الفلسفية من خيوط العنكبوت التي تحجب الرؤية فيها"، كما يشير إلى أنه سيكون مثل "هرقل على استعداد لتنظيف الاصطبلات القذرة". وفي رسائله يهاجم هايدغر أيضًا الفلاسفة المعروفين في تلك الفترة، عازمًا على "تدمير الأصنام"، وعلى "فضح السحرة المتربعين على عرش الفلسفة". حتى أستاذه هوسرل لم يسلم من تهجماته: "هوسرل خرج تمامًا عن الترابط المنطقي (...) وهو يتأرجح من هذه الناحية إلى الناحية الأخرى، ويقول أشياء مبتذلة مثيرة للشفقة. وهو يعيش من مهمته كمؤسس للفينومينولوجيا من دون أن يعرف أحد ماذا يعني ذلك".
في سنة 1927 أصدر هايدغر كتابه "الكينونة والزمن". أما كارل ياسبرس فقد أصدر في سنة 1932 كتابًا بعنوان "الفلسفة" اعتبره هايدغر "مرجعًا أساسيًا شاملًا". وقد أحجم كارل ياسبرس عن التعليق على "الكينونة والزمن". وفي ما بعد سيكتب في سيرته: "كنت قليل الميل لقراءته. وفي النهاية استحال علي الاستمرار". وقد ظلت الرسائل المتبادلة بين الفيلسوفين عاكسة للمودة بينهما. وكل واحد منهما كان يتحدث في رسائله عن مشاغله اليومية، وعن الطقس، وعن جولات في الجبل، وعن الاستراتيجيات الجامعية، وعن المحاضرات التي يلقيها، وعن ردود الفعل تجاهها. إلا أن هايدغر تكتم عن إبداء أية إشارة إلى علاقة الغرام بينه وبين حنه أرندت التي نصحها بإعداد أطروحتها تحت إشراف كارل ياسبرس.
بعد تنصيبه عميدًا لجامعة فرايبورغ سنة 1933، انطلق هايدغر إلى هايدلبرغ لإلقاء محاضرة بعنوان: "الجامعة في الرايخ الجديد". وبعدها، وتحديدًا في 30 حزيران/ يونيو من السنة المذكورة، التقى كارل ياسبرس، وبينهما دار نقاش ساخن حول توجهات صاحب "الكينونة والزمن". وكان ياسبرس قد رفض الانفصال عن زوجته اليهودية رغم الضغوط التي سلطت عليه. كما أنه دان بشدة عمليات القمع والاضطهاد التي شملت العديد من المثقفين والمبدعين والمفكرين المناهضين للنازية من اليهود ومن غير اليهود. وفي سيرته، أشار ياسبرس إلى ذلك اللقاء قائلًا: "تحدثت عن المسألة اليهودية وتساءلت: كيف يمكن لرجل فظ وجاهل أن يحكم ألمانيا؟". وقد رد عليه هايدغر قائلًا: "الثقافة لا أهمية لها إطلاقًا... أنظر فقط إلى يديه الرائعتين. استبدت بي الحيرة، ولم يكن هايدغر قد حدثني أبدًا قبل سنة 1933 عن ترتيباته مع القومية الاشتراكية".
بعد انهيار النازية، كتب هايدغر رسالة إلى ياسبرس يحاول فيها تبرير قبوله منصب العمادة: "لقد دُفعت غصبًا عني، ومن كل النواحي، إلى منصب العمادة. وفي يوم الانتخاب، وصلت إلى الجامعة في الصباح، وقلت للعميد الذي تمت إقالته بأنه ليس بإمكاني تحمل مسؤولية العمادة ولا قبولها. والاثنان ردا علي قائلين بأنه غير مسموح لي بالعودة إلى الوراء. لكن حتى عندما قلت 'نعم' فإني لم أكن أنظر إلى الخارج، أي خارج الجامعة، ولم أكن واعيًا بما سيحدث فعلًا. حتى ولو لثانية واحدة لم يرد إلى ذهني أن اسمي سيكون له منذ ذلك الحين، مثل هذا الوقع على الرأي العام الألماني والعالمي، ولعدد كبير من الشبان. وفي نفس الوقت وجدت نفسي في قلب العمل الوظيفي... وكانت هناك تأثيرات، وصراعات من أجل السلطة، وأحزاب... كنت ضائعًا. وعلى مدى أشهر قليلة، وجدت نفسي مأخوذًا بنشوة السلطة وسحرها". عند تلقيه نص الخطاب الذي ألقاه هايدغر بمناسبة تنصيبه عميدًا لجامعة فرايبورغ، تحدث ياسبرس عن "رنينه الأجوف"، وعن "جانب متصنع لبعض الجمل". في الآن نفسه أشار إلى أنه "يشعر بالسعادة لأن أحدًا ما استطاع أن يتكلم بتلك الطريقة ليبلغ الحدود والمصادر الأصيلة". بل إنه عبر عن مساندته لإصلاح الجامعة بحسب "مبدأ أرستقراطي". ورغم أنهما ظلا يتبادلان الرسائل، إلا أن الفيلسوفين لم يلتقيا أبدًا بعد لقاء هايدلبرغ.
في 1937، مُنع كارل ياسبرس من التدريس. وفي كل يوم كان يخشى أن يتم إيقافه وإيقاف زوجته ليُرسلا معًا إلى معسكرات الموت. لذلك حرص كل واحد منهما على حمل عقاقير السم لأنهما كانا يفضلان الانتحار على مصير مجهول ينتظرهما بعد الاعتقال. وخلال الحرب، فكر ياسبرس في مراسلة هايدغر، أو في لقائه إلا أنه كان يحجم عن ذلك في اللحظة الأخيرة. وبعد الحرب، وتحديدًا في شهر مارس/ آذار 1948، كتب له يقول: "في 1945، بعد زوال الخطر الذي تمثله رقابة القومية- الاشتراكية، كنت أنتظر رسالة منك توضح لي ما لم أتوصل إلى فهمه. وبما أنك أضمرت سنة 1933 عدم لقائي، وفي النهاية عدم مخاطبتي، فإني كنت آمل أن أتلقى منك تفسيرًا حول ما هو ممكن مستقبلًا ومن دون أفكار مسبقة". غير أن ياسبرس لم يرسل هذه الرسالة. وعلينا أن ننتظر سنة 1949 لكي يقرر الفيلسوفان إعادة فتح الحوار بينهما. وقبل ذلك، وتحديدًا في 1946، أعيد كارل ياسبرس لمباشرة التدريس في جامعة هايدلبرغ ملقيًا سلسلة من المحاضرات سوف تصدر في ما بعد في كتاب حمل عنوان "الذنب الألماني". غير أنه لم يلبث أن غادر بلاده مفضلًا الإقامة في سويسرا بعد أن تبين له أن أنصار النازية من الأكاديميين قد عادوا ليبسطوا نفوذهم من جديد على الجامعات الألمانية بتأييد من الحلفاء بدعوى مقاومة المد الشيوعي. أما هايدغر فقد وجد نفسه متهمًا من قبل الحلفاء بالتعاون مع النظام النازي. وخشية أن يزداد وضعه سوءًا طلب من كارل ياسبرس أن يكتب تقريرًا يخفف عنه ثقل التهمة الموجهة إليه، فامتثل هذا الأخير، وكتب في تقريره يقول: "إن طريقة هايدغر في التفكير التي تبدو لي خسيسة، وديكتاتورية، وخالية من التواصل، ستكون بحسب رأيي اليوم مضرة. وهذه الطريقة تبدو لي أكثر أهمية من الأحكام السياسية التي يمكن أن تغير وجهتها بسهولة. وطالما لم تتوفر عنده ولادة جديدة تكون جلية في أعماله، فإن أستاذًا كهذا لا يمكنه بحسب رأيي أن يكون اليوم في حضور الشبيبة الفاقدة تقريبًا للمقاومة الداخلية". واعتمادًا على هذا التقرير، تم منع هايدغر من التدريس، وحرم من راتبه التقاعدي. وقد ظل على هذا الوضع إلى حدود بداية الخمسينيات. وفي تلك الفترة، شرع الفيلسوفان في تبادل الرسائل من جديد. وكل هذه الرسائل كانت مثقلة بسوء الفهم، وبالأكاذيب، وبالتهم، وبالجدل الفلسفي، وبذكريات الصداقة القديمة. وانطلاقًا من بداية الخمسينيات، استعاد هايدغر شهرته خصوصًا في فرنسا، ولمع نجمه في العديد من الندوات والمؤتمرات الفلسفية في جميع أنحاء العالم ليكون جديرًا بحمل لقب "ملك الفلسفة". أما كارل ياسبرس الذي وصفه هابرماس بـ"المهاجر الداخلي" فقد تحول إلى "معلم" حامل لوعي يعكس وجه ألمانيا ما بعد الحرب الكونية الثانية، تلك التي ترغب في محاسبة نفسها، والاعتراف بذنبها، والحفر عميقًا في جراح الماضي لكي تتعافى من أمراضها المدمرة.
وفي أول سنة 1950 كتب هايدغر يقول: "عزيزي ياسبرس: لم آت إلى بيتك منذ سنة 1933، وليس ذلك لأن امرأة يهودية تسكنه، وإنما لأني خجل من نفسي"، غير أن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة لصاحب "الذنب الألماني" خصوصًا وأن صاحب "الكينونة والزمن" لم يتطرق ولو بكلمة واحدة لـ"الهولوكوست". وفي رسالة أخرى بتاريخ 8 أبريل/ نيسان من نفس السنة، كتب هايدغر يقول: "إن ذنب الفرد يظل قائمًا، وهو يظل قائمًا خصوصًا وأنه فردي. لكن ما هو في علاقة مع الشر، لم يبلغ نهايته بعد، وإنما هو يدخل فقط في مرحلته العالمية. وفي 1933، وحتى قبل ذلك، وربما لأنهم كانوا مهددين مباشرة، فإن اليهود وأهل اليسار كانت لهم نظرة أكثر صوابًا ودقة وبُعدًا. أما الآن فإن الأمر موكول لنا نحن. لم يعد لستالين حرب لشنها. وفي كل يوم هو يكسب معركة. إلا أنهم لا يرون ذلك. بالنسبة لنا نحن، ليس لنا تهرب أو زوغان محتمل. وكل كلمة، وكل نص هو في حد ذاته هجوم مضاد حتى ولو أن كل هذا يدور في فلك السياسة التي هي نفسها خارج اللعبة منذ أمد طويل من قبل عوامل أخرى لتعيش حياة وهمية. لكن رغم كل شيء يا عزيزي ياسبرس، رغم الموت والدموع، والألم والقسوة، والضيق والشقاء، فإن الافتقار إلى الأرض والمنفى، ليس شيئًا يحدث في هذا الافتقار إلى الوطن. فيه تتخفى مقدمات قد نكون لا زلنا قادرين على الشعور بها في نفَس خفيف، ويتوجب علينا أن نقطف علاماتها".
وفي رسالة بتاريخ 24 يوليو/ تموز 1952، رد كارل ياسبرس على هايدغر قائلًا: "أنت تطلق حكمًا جازمًا على مسار الأحداث الراهنة، لكن ما هو في علاقة مع الشر لم يبلغ نهايته بعد. وأنا مثلك كنت أعتقد ذلك منذ 1945. لكن هذا الشر أنت تراه في "مرحلته العالمية"، وفي ستالين، وفي حقائق مماثلة. لكن قوة الشر هذه، أليست موجودة في ألمانيا أيضًا، وهذا الذي لا ينقطع عن التنامي، والذي يهيئ لانتصار ستالين فعليًا: حجاب النسيان الملقى على الماضي، وعلى الذي نسميه القومية- الاشتراكية الجديدة، وعلى عودة السكك القديمة وكل الأشباح التي تضيعنا رغم ضحالتها؟ (...) إن فلسفة تحدس وتمنح لجملك نفسًا شعريًا في رسالتك، والتي تنتج شيئًا فظيعًا ومرعبًا، ألا تعد هي أيضًا لانتصار ما هو شمولي بما أنها تنفصل عن الواقع؟ وفي فقرة أخرى من رسالتك أنت تكتب: "في الافتقار للوطن... تتخفى مقدمات". لقد ازداد هلعي حين قرأت هذا. وإذا ما أنا اعتقدت أني قادر على التفكير، فإن هذه مجرد هواجس وأحلام تمضي في نفس خط هواجس وأحلام كثيرة، كل واحدة منها خدعتنا في الساعة المخصصة لها على مدى نصف القرن هذا. فهل أنت تعد نفسك للعب دور النبي الذي يبرز ما هو خارق وموحى به انطلاقًا من معرفة سحرية، ولفيلسوف تائه بعيدًا عن الواقع؟ والذي يريد أن يعوض ما هو محتمل بالتخيلات؟".
في التاسع عشر من شهر فبراير/ شباط 1953، بعث هايدغر بتهانيه إلى كارل ياسبرس بمناسبة بلوغه السبعين من عمره، وكتب له يقول: "جامعات، والعالم الأدبي، ومنظمات علمية جميعهم سوف يبرزون في هذا اليوم أعمالك للأجيال القادمة. وفي جانب آخر، هناك من سيقتدي بتجربتك ويسير في طريقك، وفي نفس الوقت يضع تجربته على المحك. وسوف يتذكر الأيام المشتركة والأحداث المؤلمة ويتقبل مصيرًا فيه تحدث تجارب تفكير مختلفة تسعى من فرط تأكيدها على طرح السؤال، إلى إظهار الجوهري والأساسي في عالم مضطرب ومترنح". وآخر رسالة كتبها كارل ياسبرس إلى هايدغر كانت في مارس/ آذار 1963، وفيها يقول: "أبعث لك بصداقتي من أفق بعيد، بدون أن أنسى، ولا أنسى شيئًا، ودائمًا في القلق من أنه قد يكون ممكنًا، ضد كل المظاهر، من خلال تحديد المناقشة حول التفاصيل والحقائق، العثور من جديد على مكانة الإنسانية التي وفقًا للرسائل التي قرأتها مؤخرًا، بدت لنا للحظة وجيزة سنة 1923، جامعة بيننا"... غير أن كارل ياسبرس احتفظ بهذه الرسالة ولم يرسلها إلى هايدغر.