}

"بورخيس محاضرًا": في القدرة على نقل متعة الأدب

نجيب مبارك 24 يناير 2025
تغطيات "بورخيس محاضرًا": في القدرة على نقل متعة الأدب
كان بورخيس، قبل كل شيء، قارئا نهما لا يشبع(Getty)
إلى جانب كونه كاتبًا عظيمًا، تشهد أعماله الأدبية على ميزته الفريدة، كان خورخي لويس بورخيس أيضا أستاذًا محاضرًا ملهِمًا، تركت تجربته في التدريس بصمة قد لا تقل أهمية عن إرثه الأدبي. وهذا ما يخرج به القارئ لكتاب "بورخيس محاضرًا: دورة الأدب الإنكليزي بجامعة بوينس آيرس" (لومين، 2020)، الذي حرره مارتن أرياس ومارتن هاديس، وهو تجميع لمحاضرات ألقاها بورخيس في عام 1966 بجامعة بوينس آيرس، وقام طلابه بتدوينها. إنه يتيح فرصة ثمينة للتعمق في تأملات بورخيس حول الأدب الإنكليزي وطريقته في نقلها إلى طلابه. ورغم القيود التي يفرضها السياق الأكاديمي، فإن الكتاب يتميز بغناه الفكري، وقدرته على نقل متعة الأدب، وما يحتويه من ثغرات.
كان بورخيس، قبل كل شيء، قارئا نهما لا يشبع. يظهر هذا الشغف في محاضراته، حيث يُظهر حساسية استثنائية تجاه اللغة، وعبقرية التشبيهات، ودقة النعوت، والإيقاع الأدبي. ويتجلى هذا بشكل خاص في الجزء الأول من الدورة الدراسية المخصصة للأدب الأنجلوسكسوني، حيث يحلل قصيدة "بيوولف" والتشابيه الشعرية المعروفة باسم "كيننغز" بوصفها أدوات شعرية بارعة.
إن اهتمام بورخيس بالأدب الأنجلوسكسوني ليس مفاجئًا إذا أخذنا في الاعتبار افتتانه بالآداب الجرمانية القديمة، وهو ما برز في بعض أعماله السابقة، مثل كتاب " الآداب الجرمانية القديمة" (1951) و"الآداب الجرمانية في العصور الوسطى" (1966). ولا شك في أن تركيزه على سلالات الملوك الجرمانيين والسياق التاريخي لأعمالهم أثرى فهم الطلاب للأدب، ومع ذلك، أظهر نوعا من عدم توازن في الوقت والاهتمام الذي منحه لهذه الفترة على حساب فترات أخرى لا تقل أهمية، لأن من الانتقادات البارزة لهذه الدورة هي الانتقائية في اختيار المواضيع والمؤلفين. فمثلا، تبدأ مرحلة الأدب الحديث مع صامويل جونسون، متجاهلة شخصيات محورية مثل شكسبير، وجون دن، وميلتون. وهذه الثغرة مثيرة للاستغراب، خاصة أن بورخيس أظهر في سياقات أخرى معرفة عميقة وإعجابًا بهؤلاء الكُتّاب.
وأيضا، في القرن التاسع عشر، يتجاهل بورخيس أسماء مثل ماثيو أرنولد، وجون راسكن، وتوماس هاردي، بينما يمنح اهتمامًا خاصًا لويليام موريس، وهو شاعر ذو تأثير محدود في يومنا هذا. ربما يمكن تفسير هذا الاختيار على أنه يعكس أهواء بورخيس الأدبية، الذي غالبًا ما كان يفضل تسليط الضوء على مؤلفين غير تقليديين. ومع ذلك، قد يُنظر إلى ذلك على أنه ضعف في منهجيته، التي تميل إلى إعطاء الأولوية للذوق الشخصي على حساب التحليل الشامل. هل كان هذا التجاهل متعمدًا لتركيز الجهد على مواضيع أقل تناولًا؟ أم كان نتيجة للقيود الزمنية للدورة؟ إن غياب التوضيح يفتح المجال للتكهن.




من جهة أخرى، يقدم بورخيس رؤية فريدة في تحليله للرومانسية، حيث يعزو بدايات هذه الحركة إلى الأدب الإنكليزي، وتحديدًا إلى أعمال جيمس مكفرسون. هذا الرأي يتناقض مع آراء نقاد آخرين مثل إشعيا برلين، الذي يعزو ميلاد الرومانسية إلى ألمانيا، مع شخصيات مثل يوهان جورج هامان. إصرار بورخيس على مكفرسون، وهو كاتب مثير للجدل بسبب مصداقية نصوصه، يعكس اهتمامه بالسرديات التأسيسية والأساطير الأدبية. لكن قد يُنظر إلى ذلك أيضًا على أنه تحدٍ للقراءات التقليدية. إن رؤية بورخيس للرومانسية تتسم بتركيزها على الابتكار المجازي والإيقاع، وهما عنصران يعتبرهما أساسيين لعظمة الأدب. هذا النهج يمكنه إبراز جوانب أقل وضوحًا للحركة، لكنه أحيانًا يكون على حساب فهم أكثر شمولية للسياق التاريخي والثقافي.
إن بورخيس، كناقد، يمزج بين مقاربة انطباعية وقدرة حادة على رسم بورتريهات أدبية. ملاحظاته عن صامويل جونسون وبوزويل، على سبيل المثال، تُبرز الطابع الدرامي لحوارهما، بينما يقارن بينهما وبين محادثات غوته التي دونها إيكيرمان، والتي يراها بورخيس "وعظية". وهذه المقارنة تعكس ليس فقط تفضيلاته الجمالية، بل أيضًا ميله إلى تفضيل الحيوية والدرامية في الأدب.
من الجوانب البارزة في "بورخيس محاضرا" أيضا، استخدامه الفكاهة كوسيلة تعليمية. يُظهر بورخيس أن الأدب لا يجب أن يكون جادًا أو مهيبًا، بل مصدرًا للمتعة والاكتشاف. يتجلى هذا مثلا في تعليقاته على ستيفنسون ورواية "الحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد"، حيث يقدم قراءة ذات طابع سينمائي مغاير للتفسيرات التقليدية. كما وصف كوليردج بأنه شخصية أنانية تستخدم محادثيها كجمهور لمونولوجاته مظهرا ذلك بطابع ساخر، ربما يعكس جانبًا من شخصية بورخيس نفسه، الذي كان أستاذًا وكاتبًا يتميز بالعزلة الفكرية. ولا شك في أن الفكاهة ساعدت بورخيس في تسليط الضوء على الجوانب المعقدة للنصوص الأدبية، مما جعل دروسه أكثر سهولة وجاذبية. وهذه القدرة على تحقيق توازن بين الصرامة الفكرية والنهج المرح هي أحد الأسباب التي ما تزال تجعل إرثه التعليمي مؤثرًا.



من المهم الاعتراف بأن "بورخيس محاضرا" ليس كتابًا تقليديًا، بل توثيق لمحاضراته. هذا يعني وجود قيود، مثل غياب الهيكلية المتماسكة وقصور في السرد الموحد. مع ذلك، قام المحرران مارتن أرياس ومارتن هاديس بعمل جدير بالثناء في إعادة بناء النصوص والحفاظ على الأسلوب الشفوي لبورخيس. ومن جهة أخرى، يثير هذا التنسيق تساؤلات حول كيفية تقييم هذا العمل. هل يُعتبر وثيقة تاريخية، أم نصًا تعليميًا، أم امتدادًا لإنتاج بورخيس الأدبي؟ هذا سؤال مهم جدا. والإجابة هي على الأرجح مزيج من الثلاثة، مما يزيد من تعقيد تفسيره. ورغم هذه الحدود، فإن الكتاب وثيقة لا تُقدر بثمن عن عقل أحد أبرز كتّاب القرن العشرين. إذ تقدم محاضراته رؤية فريدة لفكره الأدبي، وأسلوبه التعليمي، وقدرته على إلهام طلابه. وعلى الرغم من الثغرات والاختيارات المثيرة للجدل، يتميز الكتاب بغناه الفكري وإصراره على أن الأدب يجب أن يكون أولًا وقبل كل شيء مصدرًا للمتعة.




بالمقارنة بين محاضرات بورخيس في جامعة بوينس آيرس عام 1966، كما هي ماثلة في كتاب "بورخيس محاضرا"، وبين محاضراته في جامعة هارفرد (خريف 1967) في كتاب "صنعة الشعر" (الذي ترجمه إلى العربية الراحل صالح علماني)، نلاحظ بعض الاختلافات المثيرة في طريقة تعاطي بورخيس مع الأدب وموضوعاته، بالإضافة إلى التباين في السياقات الثقافية التي كان يتفاعل معها.
في محاضراته في بوينس آيرس، يتناول بورخيس الأدب الإنكليزي بشكل موسع ويغطي فترات تاريخية متعددة، من الأدب الأنجلوساكسوني إلى الأدب المعاصر. بينما في "صنعة الشعر"، تركز المحاضرات على الشعر بشكل خاص، مع تحليل عميق لكيفية صناعة الشعر وصياغته، والأدوات اللغوية التي يستخدمها الشاعر لبناء عالمه الشعري. يركز بورخيس في "صنعة الشعر" على الجوانب التقنية للأدب، مثل اختيار الكلمات، الإيقاع، والأنماط الشعرية، بينما في محاضراته في جامعة بوينس آيرس، كان يولي أهمية أكبر للأدباء الفرديين والأفكار الفلسفية التي تحكم أدبهم. في كتاب "صنعة الشعر"، يبرز اهتمام بورخيس بالأدب الكلاسيكي ويعرض كيف أن الشعر لا يتغير، بل يعيد اكتشاف نفسه في كل حقبة زمنية. هذا التأكيد على "الخلود" الأدبي يعكس طريقة بورخيس في النظر إلى الأدب كأداة لاكتشاف معاني الحياة الكونية.
أما في جانب المفاهيم الأدبية، فقد كان بورخيس في محاضراته في جامعة بوينس آيرس يميل إلى الغموض والتعقيد الفلسفي، ويميل أكثر إلى التحليل الرمزي للأعمال الأدبية. على العكس من ذلك، في محاضراته في "صنعة الشعر"، نجد بورخيس يتناول الشعر بشكل أكثر واقعية ويميل إلى نقاش الأساليب الشعرية وتقنيات الكتابة التي تساهم في صناعة النصوص الشعرية المتميزة. ففي محاضرة عن الشاعر الإنكليزي جون كيتس، يناقش بورخيس كيف أن الشعر لا يقتصر على التعبير عن الأحاسيس، بل هو عملية عقلية وتنظيم دقيق للكلمات التي تنبع من روح الشاعر. هنا، يظهر بورخيس في صورة الشاعر المعلم الذي يوجه الطلاب إلى كيفية الوصول إلى الكمال الشعري من خلال الاستمرار في ممارسة وتقنيات الكتابة. من ناحية أخرى، كان بورخيس في محاضراته في بوينس آيرس يدمج بين الأدب الإنكليزي والأدب الإسباني والعالمي، حيث كان دائمًا يربط بين الأدباء المختلفين من مختلف الفترات والأماكن. هذا التفاعل بين الثقافات كان يغني الفهم لدى طلابه حول كيفية تشكيل الأدب وتأثيراته المتبادلة.
في الختام، يمكن القول إن "صنعة الشعر" تركز أكثر على التقنيات الشعرية والتفاصيل الدقيقة لعملية الكتابة، بينما يقدم "بورخيس محاضرا" تحليلًا أوسع يشمل جوانب فلسفية وتاريخية للأدب الإنكليزي، بما يتيح للطلاب تذوق الأدب ككل بما فيه من غموض وأساطير ورؤى فكرية. وبالرغم من الاختلافات بين الكتابين، إلا أن كلا منهما يعكس قدرة بورخيس على التفاعل مع الأدب بشكل عميق ومعقد، إلى جانب موهبته في إلقاء المحاضرات الأكاديمية، ما أتاح لطلابه، ولقرائه من بعدهم، فهمًا أوسع للأدب كأداة لاكتشاف الذات والعالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.