دونالد ترامب هو أول رئيس منذ غروفر كليفلاند (1837 - 1908) يصبح رئيسًا مرة أخرى بعد الهزيمة في الانتخابات، فعلها كليفلاند عام 1882، واليوم يعود ترامب من جديد إلى البيت الأبيض وقد وعد بأن الولايات المتحدة ستحقق عودة مذهلة، كما فعل هو بنفسه. في الدقائق الأولى من خطابه، بدا ترامب وكأنه لا يزال في الحملة الانتخابية، وكما حدث في عام 2017 مع خطابه حول "المذبحة الأميركية" الكئيب والصادم، انتقد ترامب الإدارة السابقة بشدة: "حكومة لا تستطيع حتى إدارة أزمة بسيطة مثل حرائق لوس أنجلوس، وإدارة رحبت بالمجرمين القادمين مباشرة من السجون الأجنبية ومصحات المجانين، وعلّمت أطفالنا كراهية وطننا".
لكن ترامب قام بتبديل خطاب الكراهية هذا بشكل ما بعد ذلك، وقد قال معترفًا في خطاب طويل أمام مؤيديه بعد حفل التنصيب، أنه فعل هذا بناءً على نصيحة نائبه فانس، الذي نصحه بأن يبدو "أكثر إيجابية"، كما أن ترامب عام 2025 أكثر قوة وثقة من ترامب عام 2017، فقد كان ترامب آنذاك غير مستعد، ولم يكن لديه سوى القليل من الخطط المحددة، أما اليوم، وبمساعدة مراكز أبحاث ومستشارين من اليمين المتطرف، كان لدى ترامب ما يقرب من 100 مرسوم جاهز للتوقيع في اللحظات الأولى من دخوله إلى البيت الأبيض، ومنذ اليوم الأول، بدأ ترامب وبشكل منهجي في وضع النقاط الرئيسة لهذا السيل من القرارات، بلهجة تهدف إلى إثارة الحسم قبل كل شيء، هو الذي قال قبل أكثر من عام: "في اليوم الأول سأكون ديكتاتورًا"، فهل كان هذا مقصده آنذاك؟!
نعم، هذا ما أوضحه ترامب بلهفة؛ فقد بدأ بإعلان حالة الطوارئ فيما يخص الوضع على الحدود مع المكسيك، وقد كانت نواياه بهذا الشأن واضحة ومعروفة مسبقًا: فهو يريد وقف الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة على الفور، وإبقاء طالبي اللجوء في المكسيك ريثما تتم معالجة قضاياهم، كما لا ينبغي السماح للمعتقلين غير الشرعيين بالبقاء طلقاء في الوقت الحالي، ولذلك يريد ترامب تنظيم مداهمات واسعة النطاق.
بإعلانه حالة طوارئ فيما يخص ملف الهجرة غير الشرعية، فإن دونالد ترامب يمنح لنفسه الحق في اتخاذ إجراءات استثنائية دون موافقة الكونغرس، وعلى رأسها: إنهاء بناء الجدار الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، وإرسال الجيش إلى الحدود الجنوبية، وإعلان عصابات المخدرات المكسيكية منظمات إرهابية، و"القضاء على جميع شبكات المجرمين الأجانب في مدننا". وقد بدا الأمر كما لو كان ترامب يطلب تفويضًا مطلقًا لشن حملة صارمة ضد ملايين المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة، ما يطرح السؤال: إلى أي مدى يريد ترامب أن يذهب في هذه الحرب ضد "الإرهابيين": لقد هدد بالفعل في حملته الانتخابية بعمل عسكري عبر الحدود، ما أثار استياء الحكومة المكسيكية آنذاك.
لم يكن هذا هو التهديد الوحيد الذي تضمّنه خطاب تنصيب ترامب، فقد هدد، وبشكل مباشر أكثر، وحدة أراضي بنما، حين وصف قرار الرئيس جيمي كارتر بالتنازل عن قناة بنما في ذلك الوقت بـ"الغباء"، وكرّر أنه "يتم استغلالنا"... ثم أعلن أنه "سيستعيد القناة"، وقال أيضًا: "للمرة الأولى منذ وقت طويل، سنصبح أمة توسّع أراضيها مجددًا"، دون أن يذكر "غرينلاند" بالاسم هذه المرة. وتناقض هذا بشكل حاد مع نية ترامب في أن يكون "صانعًا للسلام وموحدًا بين الشعوب"، ومع قوله: "يمكن قياس النجاح العسكري أيضًا بالحروب التي نوقفها أو لا نتورط فيها أبدًا". ولم يأتِ على ذكر أوكرانيا والشرق الأوسط إلا قليلًا، على الرغم من أنه نسب الفضل في إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين قبل أيام إلى نفسه.
ليست فقط كلمات ترامب القاسية بشأن الهجرة هي ما أزعجت المراقبين، بل أيضًا استياء العديد من الأميركيين أنفسهم من ارتفاع الأسعار الذي أدّى إلى فوز ترامب، ذلك التضخم المرتفع الذي شهدته السنوات الأخيرة، والذي أصبح الآن "تحت السيطرة بشكل أفضل عما كان عليه"، كما وصفه ترامب بأنه "حالة طوارئ وطنية"، ووعد بسنوات ذهبية من الازدهار الكبير لجميع الأميركيين، وذلك بفضل نهج ذي شقين؛ الأول أنه يريد البدء في الاستفادة من "الذهب السائل تحت أقدامنا" مرة أخرى دون قيود، قائلًا للنفط والغاز: "احفر يا عزيزي... احفر"، إذن ستكون هذه هي السياسة الجديدة، يريد ترامب أن يتراجع عن كل جهود بايدن للتحول الأخضر، كما يريد تمويل الازدهار الأميركي من الدخل القادم من الخارج، من خلال فرض ضرائب على الواردات وعلى جميع مصادر الدخل ذات الأصول الأجنبية.
كما بدت بعض "الإجراءات" الجديدة التي اتخذها ترامب للاستعراض السياسي، فعلى سبيل المثال أعلن عن أسماء جديدة لخليج المكسيك ولجبل "دينالي" أعلى جبل في البلاد، إذ سيصبحان "خليج أميركا" وجبل "ماكينلي"، كان هذا هو اسم الجبل في ألاسكا لفترة طويلة، حتى أعاد باراك أوباما اسمه الأصلي، لكن ويليام ماكينلي هو الرئيس السابق المفضل لدى ترامب، وتغيير الاسم هو خير مثال على صراعه الواسع ضد كل ما يفوح منه رائحة "الروعة والتنوع". وبشكل روتيني، ظهر رثاء ترامب لذاته قائلًا: "لم يتلقَّ أحد من قبل رد فعل عنيف وغير عادل مثلما تلقيت أنا". كما انتقد ترامب، وهو أول رئيس على الإطلاق لديه سجل جنائي، مرة أخرى "إساءة استخدام الحكومة للسلطة في ملاحقة الناس بشكل غير عادل". لكنه التزم بالنص المكتوب مسبقًا، مقدمًا المضمون القاتم لرسالته على أنه "مجرد انتصار للحس السليم"، وأن أميركا عادت أخيرًا إلى "المركز الأول".
وقد وصلت تلك الرسالة كالحلوى على موائد القلة المختارة في القاعة المستديرة في مبنى الكابيتول والبالغ عددهم 600 شخص، وقد تم اختيار هؤلاء أيضًا إلى حد كبير بسبب ولائهم لترامب، إذ ضمت القاعة مجموعة متنوعة من المتبرعين الأثرياء ومليارديرات التكنولوجيا والسياسيين الأجانب من اليمين المتطرف وحتى بعض الديمقراطيين: عمدة نيويورك إريك آدمز، وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية بنسلفانيا جون فيترمان، وقد سافر كلاهما مؤخرًا إلى "مار آ لاغو" لتقبيل خاتم ترامب.
في خطاب إضافي ألقاه أمام معجبيه عقب حفل التنصيب، عاد ترامب إلى طبيعته مرة أخرى، ولم يعد يتغنى بالخطط المستقبلية، بل بالشفقة على الذات وتوجيه اللكمات اللاذعة لجميع خصومه، وفي هذه المرة اعترف قائلًا: "كان هذا هو الخطاب الذي كنت أرغب بالفعل في إلقائه في القاعة المستديرة". ومن هناك، توجه إلى القاعة الرئاسية في مجلس الشيوخ، حيث بدأ بالتوقيع على مراسيمه العديدة. وبحلول ذلك الوقت، كان التطبيق الإلكتروني الخاص بالهجرة يلغي جميع المواعيد المبرمجة، وتم إبلاغ المتقدمين الذين كانت لديهم مواعيد بالفعل بإلغاء مواعيدهم.
"القدر المحتوم"... انتظر لحظة: دونالد ترامب؟
رجل "أميركا أولًا"، والانكفاء على الذات وإنهاء التدخلات الخارجية، أليس كذلك؟ من المؤكد أن خطاب تنصيبه الذي كان متناقضًا في بعض الأحيان قد ترك بقايا من هذا كله، فقد وصف نفسه بأنه "صانع سلام"، وقال إن النجاح العسكري يجب أن يقاس أيضًا بالحروب التي أوقفها، أو التي رفض المشاركة فيها.
لكن ترامب من ناحية أخرى، يريد أن يجعل من الولايات المتحدة الأميركية دولة توسّع أراضيها "للمرة الأولى منذ فترة طويلة"، مهددًا بـ"استعادة" قناة بنما. في جزء واسع من الخطاب - الذي لم يكتبه ترامب بنفسه، ويشك العديد من المحللين في أن يكون ستيفن ميلر، الذي يشغل حاليًا منصب مستشار الأمن الداخلي الأميركي ونائب رئيس هيئة الأركان للسياسة، هو الذي كتبه- تحدث ترامب عن العقلية الأميركية الرائدة عبر العصور، واصفًا إياها بـ"القدر المحتوم" Manifest destiny الذي سيزرع في المستقبل القريب نجومًا وخطوطًا على المريخ.
"القدر المحتوم"؟ لا بدّ من أن الأميركيين والمكسيكيين الأصليين وغيرهم قد انتابتهم القشعريرة عند سماع هذا المصطلح: فقد شكّل الأسس الدينية للإمبريالية الأميركية الوحشية في القرن التاسع عشر.
اخترع المصطلح في عام 1845 على يد كاتب المقالات المحافظ جون أوسوليفان، الذي كتب أن الله وهب الولايات المتحدة الشابة المسيحية الليبرالية "قدرًا محتومًا" للسيطرة على أميركا الشمالية "من المحيط إلى المحيط"، ولذلك فقد شجع الأمة على الاستيلاء على ولاية تكساس المكسيكية وولاية أوريغون التي كانت تحت سيطرة بريطانيا (أكبر بكثير من ولاية أوريغون اليوم) بقوة السلاح إذا لزم الأمر، باسم الديمقراطية.
وخلال الحرب الأميركية المكسيكية (1846 - 1848)، استخدمت الصحافية الأيرلندية الأميركية جين كازنو المصطلح من جديد، داعية الولايات المتحدة إلى ضم المكسيك بأكملها، لم يصل الأمر إلى هذه الدرجة: فقد استولى الجيش الأميركي على مدينة مكسيكو سيتي، وفرض على المكسيكيين التنازل عن 55% من أراضيهم، ومنها الولايات الأميركية الحالية: كاليفورنيا ونيفادا ويوتا وكولورادو وأريزونا ونيو مكسيكو، وأجزاء من ثلاث ولايات أخرى.
كما تذرّع المورمون وغيرهم من الرواد والمستوطنين بحماس بـ"المثل الأعلى الأخلاقي" للتقدم غربًا دون عوائق، بل وطرد السكان الأصليين أو حتى إبادتهم، في لوحة شهيرة في ذلك الوقت حملت عنوان "التقدم الأميركي" للرسام الأميركي جون غاست (1842 - 1896) تقود الملاك "كولومبيا" – أميركا هنا - قوافل المستوطنين إلى الغرب المتوحش، وقد تم استنساخ اللوحة في آلاف النسخ الطباعية التي كانت تحظى بشعبية كبيرة بين المستوطنين، كطمأنة بأن الله كان يرافقهم في رحلتهم المحفوفة بالمخاطر.
|
معركة ريو سان گبرييل، كانت معركة حاسمة في الحرب المكسيكية الأميركية (1846-1848) كجزء من غزو الولايات المتحدة لكاليفورنيا |
وهكذا كان "القدر المحتوم" هو الأساس الديني للإمبريالية الأميركية، ناهيك عن امتيازات البيض التي منحوها لأنفسهم مقابل السكان الأصليين. لكن الرأي العام الأميركي، باستثناء الأوساط الأكاديمية، لم يرغب أبدًا في مواجهة هذه النقطة، ليتم التغاضي مرارًا وتكرارًا عن محاولة "الأمة الاستثنائية" نشر أفكارها، كما تحدث رونالد ريغان فجأة عن "القدر المحتوم" مرة أخرى في الثمانينيات، ولكن دائمًا ما كان هناك بُعد أخلاقي (معتد بنفسه) كلما تذرع السياسيون بذلك "القدر المحتوم"، وهذا ما جعل الأمر أكثر إثارة حين استخدم ترامب المصطلح الآن في خطاب تنصيبه، فمع رجل مثل ترامب تسقط الأقنعة، فهو لا يفكر أو يتحدث أبدًا وفقًا للقيم الأخلاقية، كل شيء في قاموسه هو الصفقات والسلطة.
ماغي هابرمان، من صحيفة "نيويورك تايمز"، والتي اعترف ترامب نفسه بأنها تعرفه أكثر من أي صحافي أميركي آخر، تذكرت في مقال نشرته مؤخرًا كيف كان ترامب يتصرف في شبابه كرجل أعمال عندما كان يريد شيئًا ما، فعندما اشترى مبنىً مكوّنًا من 15 طابقًا في نيويورك وأراد هدمه، لم يعوّض المستأجرين ليقتصد، بل قام بإخافتهم. وعندما كانت المنازل القديمة بالقرب من أكبر كازينوهاته في أتلانتيك سيتي تمثل "قذارة بشعة" في عينيه، قام بإعادة طلائها بألوان زاهية، بدون أن يطلب من أصحابها أي شيء!
لطالما رأى ترامب أن إرادته هي القانون، وهذا ما يفسر أيضًا لماذا لا يعي حجم الخروقات الشائنة التي سيرتكبها ضد القانون الدولي إذا سمح لجيشه، في حربه ضد عصابات المخدرات المكسيكية، بغزو الأراضي المكسيكية، كما يفسر أيضًا رغبة ترامب الآن في استعادة قناة بنما، ولماذا يريد الاستيلاء على "غرينلاند"، لقد قال للصحافيين حرفيًا: "انظروا كم هي كبيرة... إنها ضخمة، يجب أن تكون ملكًا للولايات المتحدة"!
يبدو أن من أدرج الإشارة إلى "القدر المحتوم" في خطاب تنصيب ترامب، يريد أن يستحضر تبريرًا إلهيًا للتوسع الأميركي، إذ نادرًا ما يبحث ترامب نفسه عن أعذار عندما يدّعي شيئًا ما، ولكن هناك في حاشيته الآن من يجد مثل هذه التبريرات مفيدة، حتى لو كان ذلك باستعادة مصطلح له تاريخ سياسي ملتهب.
هامش:
(*) ستيفن ده فور (1965): كاتب ومحلّل بلجيكي مختص بالتأريخ لتحوّلات المجتمع الأميركي المعاصر، قدم ثلاثة كتب لافتة عن التاريخ الأميركي، بدأت عام 2016 بكتابه "هوليوود بوليفارد" وهو كتاب عن سنوات مجد السينما ونجومها الكبار، ثم أصدر كتابه الثاني: "الأميركيون" (2020)، والذي احتل قوائم الأفضل مبيعًا لشهور، ثم أعقبه بكتابه الثالث "المخربون" (2024)، وهو من نواحٍ كثيرة تكملة لكتابه الأول، ولكنه أكثر تركيزًا حول الحزب الجمهوري الذي أسسه أبراهام لينكولن، قبل أن ينحدر إلى هذا المستوى الأخلاقي المتدني، لدرجة أن يسمح بأن يختطفه رجل مثل دونالد ترامب. يبحث ده فور عبر التاريخ عن الأشخاص الذين مهدوا الطريق لترامب، من تشارلز ليندبيرغ رائد الطيران الذي وقع تحت سحر النازية، إلى "الصياد الشيوعي" سيء السمعة جوزيف مكارثي الذي تسبب في منع تشارلي شابلن من دخول الولايات المتحدة، ونيكسون "المخادع"، وصولًا إلى الشخصيات الرئيسة التي حولت الحزب الجمهوري في الآونة الأخيرة من حزب محافظ محترم، إلى وسيلة للشعبويين والكذابين وأصحاب نظريات المؤامرة.