}

في إرث المخرج الأميركي ديفيد لينش

سمير رمان سمير رمان 27 يناير 2025
تغطيات في إرث المخرج الأميركي ديفيد لينش
ديفيد لينش (1946 ــ 2025)

توفي في مدينة لوس أنجلس المنكوبة بحرائق غير مسبوقة، وقبل أيام قليلة من عيد ميلاده التاسع والسبعين، المخرج والرسام والموسيقي الأميركي ديفيد لينش/ David Lynch، الذي سبق له أن احتفل بأنوار تلك المدينة الغامضة في فيلمه الرائع "طريق مولهولاند/ Mullholland Drive" عام 2001 (بطولة النجمتين ناعومي واتس، ولورا هارينغ)، الذي وضعه النقاد ضمن قائمة أفضل روائع السينما في القرن الواحد والعشرين، حيث رسم فيه لينش الحدود الفاصلة بين الواقع والحلم من خلال العلاقة بين الممثلة الطموحة بيتي وريتا، المرأة التي تعاني من فقدان الذاكرة. بيد أنّ المخرج كان قبل وقتٍ طويل من هذا الفيلم قد احتلّ مكانة فريدة في ثقافة سينما النصف الثاني من القرن العشرين، باعتباره مؤسس التيار الرئيس في السينما التجريبية. يمكن القول إنّ التجارب المبكرة لديفيد لينش المخرج قد بلغت ذروتها في فيلمه السوريالي "رأس الممحاة" Eraserhead (1977)، والذي وصفه النقاد بأنّه "آخر تحف السينما الطليعية". يدور الفيلم حول رجلٍ متجهمٍ على الدوام وصديقته العصبية وطفلهما المتحول. إنّه قصة مظلمة تعالج المخاوف والأمومة، وتدور أحداثها في مجتمعٍ قمعي، ويجسّد بحقّ جوهر السوريالية اللينشية. في عام 1980، صدر أول عمل سينمائي في الاستوديو للمخرج "الرجل الفيل" The Elephant man (1980)، وهو فيلم عن روحٍ بشرية رقيقة تعاني من كون غلافها الجسدي يبدو قبيحًا في نظر الناس. يركز هذا الفيلم على موضوعات الرحمة، والكرامة الإنسانية، والكفاح لنيل القبول في مجتمعٍ محكوم بالمظاهر.
في معرض حديثه عن الانتقادات التي وجهت للفيلم، أطلق لينش شعاره الشهير: "لا أعرف لماذا يجب أن يكون للفنّ معنىً. فقد تقبّل الجميع بطريقةٍ أو أُخرى مقولة أنّ الحياة ليس لها معنى". في الواقع، لم يضع لينش في أفلامه أيّ محتوى اجتماعيّ، أو وجوديّ، بل توجّه مباشرةً إلى باطن الحياة اليومية، واستخرج منها كميات هائلة من "الرعب الصوفي".
في عام 1986، ظهر فيلم لينش "المخمل الأزرق/ Blue Velvet الذي يتحدث عن ازدواجية الحياة في الضواحي الأميركية، موضحًا كيف تتوارى الأسرار المظلمة خلف واجهاتٍ شاعرية. يبدأ الفيلم بعثور الشابّ جيفري (الممثل كايل ماكلاشان) على أُذنٍ بشرية مقطوعة مرميةً بين الأعشاب. تقوده محاولاته لكشف اللغز إلى اكتشاف عالم مجهول من العنف والانحراف. أثناء محاولاته، وجد جيفري نفسه في شركة عمل فيها في البداية كـ"وكيل لقوى الخير"، ولكنّه سمح أخيرًا للشرّ أن يجرّه إلى دوامته. يظهر الفيلم أنّ صورة السلام والهدوء والازدهار التي تباهت بها أميركا في ثمانينيات القرن العشرين ليست سوى صورة خادعة، فالشرّ والعنف ليسا قريبين منها وحسب، بل إنّهما موجودان فيها مباشرة.
للمرة الأولى، تعزف في فيلم "المخمل الأزرق" موسيقى الأميركي ذي الأصول الإيطالية أنجيلو بادالامينتي/ Angelo Badalammenti الغامضة والبسيطة والمثيرة في الوقت نفسه. لقد وجد لينش في بادالامينتي شخصًا فنيًّا يتمتع بعقلية مماثلة لعقليته، وهو الذي يتمتع بحسٍّ موسيقيّ رائع، وكان قد سبق له أن صمّم بنفسه الموسيقى التصويرية لفيلم "رأس الممحاة/Eraserhead". بعد الفيلم، أصبح التعاون بين الموسيقار والمخرج وثيقًا وطويل الأمد.





إن كان فيلم Blue Velvet قد رفض من قبل لجان مسابقة مهرجان كان السينمائي لأسبابٍ "تطهرية"، فإنّ المخرج الأميركي جاء عام 1990 بفيلم "Wild at Heart" إلى الريفيرا الفرنسية، وحصل على جائزة السعفة الذهبية. أثناء صعوده المنصة، أطلق معارضو المخرج صيحات الاستهجان، ولكنّها تلاشت في بحر فرحة عشّاقه ومريديه المرحبين بظهوره على الخشبة برفقة "صديقته التي تشع جمالًا"، إيزابيلا روسيفيللي (وكان هذا الظهور الأخير لهما معًا قبل الانفصال).
في فيلم "الوحش في القلب" Wild at Heart (1990)، يدور الحديث عن العاشقين: الشابٍّ البحّار (ريبلي)، والفتاة لولا، اللذين يطاردهما قتلة مأجورون وظفهم والد لولا. على عكس أبطال "المخمل الأزرق" (تلعب دور البطولة لورا ديرن نفسها بطلة فيلم "المخمل الأزرق"، في حين استبدل ماكلاشلان بالممثل نيكولاس كايج)، لم يكن أبطال هذا الفيلم في حاجةٍ إلى اكتشاف الجانب الجهنمي للحياة، فهم جزءٌ منه، وفي الوقت نفسه يظلون نظيفين إلى حدّ الغباء التام، كما في قصص الخيال.
البحّار ولولا طفلان حقيقيان من الأساطير الشعبية الأميركية. وفي حين يمكننا أن نتلمّس خلف (البحار) أسطورة ألفيس بريسلي، فإنّ خلف لولا هناك ولا شكّ شخصية الأسطورة الأميركية الأُخرى مارلين مونرو. إنّهم، أيضًا، كلّ أبناء أميركا القديمة الطيبة الساذجة، ولكن القوية، الذين لم يفسدهم التحليل النفسي، وجلسات التأمّل. تلك هي أميركا، حيث كان الغرب المتوحش هو منطقة التطهّر، وكانت كاليفورنيا هي الجنّة الموعودة. إنّهم أولئك الأميركيون الذين يعرفون الحبّ والكرم، ولكنّهم قد يتحولون في لحظة واحدة إلى برابرة قساة القلوب. يقوم البحار، دفاعًا عن النفس، بقتل خصمه بطريقة تليق بأبطال ملحمة هوميروس. وفي نهاية الأمر تتغلب قوة النور على الرذيلة المظلمة. يردّ لينش على منتقديه الذي اتهموه بانعدام الأخلاق قائلًا: اصمتوا وشاهدوا، فأنا أعرض عليكم عمدًا كيف نحافظ على البراءة. بالطبع، هنالك في هذه العبارة كثير من التهكّم. ومع ذلك، كاد عام 1990 أن يعلن رسميًّا باعتباره "عام لينش".
في فيلم "الوحش في القلب/ Wild at Heart" تجمّعت تناقضات لينش كلّها: التصوف الموقر، والجنون الشعبي، والإيمان الطفولي بالمعجزات، والنفور الشديد من الرذيلة، ومتعة التصميم، وكذلك بالطبع الانجذاب إلى الرخيص والربح التجاري. هذا الفيلم، وعلى عكس أيّ فيلمٍ آخر، فيلمٌ مشبعٌ بالحيوية يخلق على الفور انفعالاتٍ شديدة لدى جمهور المشاهدين.
لم يقتصر عمل ديفيد لينش على السينما، بل صنع مسلسلات أهمّها: "القمم التوأم/ Twins Peaks الذي امتد تأثيره على مدار عقودٍ عدّة، ولا يزال تأثيره مستمرًا حتى يومنا هذا. إنّه عملٌ ينتمي بالفعل إلى عصرٍ آخر. بعد أن لعب لينش دور دكتاتور الأناقة طيلة عقدٍ كامل، يتحول مرةً أُخرى إلى ذئبٍ منفرد، يلتهم الهامبرغر على الطريقة الأميركية، ويحوّله إلى كائناتٍ خيالية رائعة بشكلٍ مدهش.
أدخلت حبكة فيلم "إمبراطورية الداخل/ Inland Empiere" محبّي لينش القدامى في مأزق بسبب الغموض الذي يكتنفها. فآذان أرانب لينش التي تجلس في غرفة صغيرة، تضجّ في أرجائها قهقهات عالية، تسببت في قلق لكثيرين. مثل هذه الغرفة بالذات هي التي تظهر في بعض رسومات لينش، التي تشبه تمامًا الغرف في أفلامه، ولكنّ هذا لا يثير أيّ استغراب. تزخر أفلام لينش بالألغاز، التي طلب منه غير مرّةٍ أن يفككها، ولكنّه كان يردّ على هكذا تساؤلات متملصًا من الإجابة: "تصوروا أنّكم تتعاملون مع كتابٍ مات مؤلفه. تصوروا فقط أنني غير موجود".
نشأ لينش في ظل شجرة الرومانسية، وبقي رومانسيًا حتى غزا الشيب رأسه. وكلما كان ابتعاده، في السنوات الأخيرة، عن نهجه الرومانسي الرئيسي، كلما كانت عودته إلى ذاته من زمن الشباب أكثر وضوحًا. لم يمنعه النجاح في هوليوود من الحفاظ على وجهة نظره المنتقدة لهذه الإمبراطورية السينمائية، فكان مثل الناقد الناظر إليها من الخارج، وليس من داخلها.
لم تكن أفلام لينش اللاحقة مرتبطة بالواقع، لكن موضوعاتها الرئيسة كانت في غاية التركيز لدرجة النرجسية أحيانًا. هذه هي السينما الفنية بنسبة 100%.
فيلم "إمبراطورية الداخل" فيلم كارثيّ: رياح شيطانية تهبّ، تمتلئء شوارع المدينة بالمشردين، ومدمني الكحول، وتفشل محاولات شخصٍ للاختباء فيها، ويواجه التفكك والوعي المنقسم على نفسه. لم تعد هذه المرحلة الجديدة من أعمال لينش تحدد اتجاهات الفنّ الأساسية، ولكنّ الأراضي التي غزاها وسكنها بقيت إقطاعيته الشخصية. لقد كان لينش ملكًا بلا مملكة، وإمبراطورًا من دون إمبراطورية، يعيش في منفىً مشرّف يستدعيه من حينٍ لآخر ليمنح مكافأةً ما على خدماته السابقة.
إنّه لا يزال يتربّع على عرش إمبراطوريته الداخلية، فقد اتضح أنّ هنالك كثيرًا من رعايا هذه الدولة الخيالية في جميع أرجاء العالم، ينعون اليوم ملكهم. هو ملك وعضوٌ في العائلة، وعلى الرغم من أنّه مخيفٌ، فإنّه لن يأتي بعد الآن إلى منزلهم ليخبرهم عن الطقس في لوس أنجلس. رحل لينش، وبقيت أفلامه وإرثه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.