في إطار استلهام الفن والتزامه بالصراعات المعاصرة، وتضامنًا مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة منذ عام وشهرين، يعرض مسرح الكنال بمدريد مسرحية "كل الطيور" ليتناول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ليس في منظوره الحربي، وإنما ما يخلّفه ذلك في البعد الإنساني.
المسرحية التي كتبها الدراماتورج اللبناني الكندي وجدي معوض (لبنان 1968- كندا) تستلهم أسطورة فارسية حول طائر يحلم بالسباحة مع الأسماك لكنه لا يتمتع بخياشيم لتحقيق هذا الحلم.
وفي العمل المسرحي ثمة حكاية رئيسية عن عاشقين، فتاة أميركية من أصول عربية (وحيدة) وعالم يهودي ألماني (إيتان)، يلتقيان في نيويورك، وهناك تبدأ قصة حب بعيدًا عن العداء بين أجدادهما، غير أنهما يواجهان هذا الصراع حين يعيشان في السياق نفسه مع سفرهما إلى القدس وعندما يعترض طريقهما انفجار قنبلة. إنها لحظة فاصلة في التراجيديا: العاشقان يعلنان أن الألم والكراهية لا ينتقلان بالوراثة عبر الجينات، لكن هذا الإرث يسحقهما في نهاية المطاف.
تشير القصة إلى زمنين، بحسب الناقد المسرحي خوسيه ميغيل بيلا: "الأول عام 1967، عام دفعت فيه إسرائيل بمائة ألف فلسطيني نحو لبنان، لتهز بذلك مزيجًا اجتماعيًا كان يضم مسلمين ومسيحيين ويهودًا. والثاني، زمننا نفسه، هذه اللحظة الآنية، بعد نصف قرن من حروب متكررة ومذابح للفلسطينيين وتهجيرهم من أراضيهم. أحداث جعلت من المستحيل التعايش في سلام في المنطقة، وقمته ما يحدث هذه الأيام بدون أي أمل في مستقبل متفائل".
وفي تصريح لماريو غاس، مخرج المسرحية، أدلى به لصحيفة الكولتورال الإسبانية، ورد أن التصعيد بين الشعبين "والغزو والاعتداء والإبادة التي ترتكبها إسرائيل على مرأى من الجميع، تعطي لهذا العمل أهمية خاصة، ليس على المدى البعيد فحسب، وإنما بشكل فوري". من هذا المنطلق تحمّس غاس، مخرج مسرحية أخرى لمعوض هي "حرائق" (2016)، للتعاون مع المسرحي اللبناني مجددًا.
اعتمد العمل، كعناصر مكملة وذات تأثير، على الموسيقى والغناء، كما ضم شاشة في الخلفية استعرضت بشكل مستمر صورًا مفهومية وفيديوهات للمناظر والطيور والأسماك، بالإضافة إلى عمليات القصف ونشرات الأخبار. وجاءت السينوغرافيا المتقشفة في محلها تمامًا ومعبّرة عن النص.
روميو وجولييت جديدة
كما يحدث في قصص مستلهمة من قصة روميو وجولييت، تتناول "كل الطيور" موجة من الانتحار عاطفية لشباب عشاق فلسطينيين وإسرائيليين، تمتد لتشمل البلد بأسره. لكن العمل ليس فحسب قصة حب مستحيلة داخل سياق حرب "ستمتد ألف عام"، كما تقول إحدى الشخصيات. إنه كذلك مفارقة أن تكون في مكان بدون أن تدرك المكان المواجه لك. ومعوض نفسه كتب هذه القصة عن القطيعة: "يؤرقني اليوم كل ما يقال عن زمننا وعالمنا وعلاقتنا بالآخر، العدو بالأحرى".
وهذا "اللقاء المحرج" هو ما تضعه "كل الطيور" على المنضدة". يقول غاس: "لسنا الأفضل ولا يجب أن نتعالى. علينا أن نمد يدنا للآخر لأننا متساوون جميعًا". ثمة رسالة مؤثرة في المسرحية، تحليق الأمل كما تحليق الطائر الذي يحلم بخياشيم تسمح له بالسباحة مع الأسماك والاختلاط بها. من أجل ذلك، لا يرسم معوض قصة خطية: "الشخصيات العشر لديها ما تحكيه من دون تشويش"، يقول مخرج العمل.
تستعرض "كل الطيور" المأساة بشكل رمزي ومفتوح، مسلطة الضوء على صراع الشخصيات وتطوّر الحكاية. يفجر معوض المشهد التقليدي ويقفز على الوضع والفترة والمكان عبر فلاش باكات شديدة الانفتاح، يضيف غاس. بهذه الطريقة، يختار المؤلف الواقع المطعّم بعناصر واقعية لعرض واحدة من أطول الصراعات المعاصرة.
يعتبر وجدي معوض واحدًا من أبرز المسرحيين في البانوراما العالمية. وفي أعماله، يستعيد مفهوم التراجيديا الاغريقية الإنسانوية ويطبّقها على الصراع الجاري في المنطقة الجغرافية والتاريخية التي يعرفها (الشرق الأوسط)، ويطرح على المشاهد الغربي مشكلات مشتعلة بالفعل. لكنه في هذا الاختيار، لا يذهب إلى المستوى السطحي والأولي للصراعات، وإنما يتعمق في الانحدار الداخلي للروح الإنسانية وإلى تناقضات الفرد والعمى الجماعي الذي يؤدي إلى الصراع والحروب. وهو يفعل كل ذلك بلغة شعرية يلعب فيها المجاز ما يلعبه الالتزام. ولعل ما يميز معوض ميله إلى شرح الأحداث سرديًا بهذه اللغة المؤثرة، المجازية. وقدرته على استعراض الصراع بشكل متفتح. هنا يتجسد صراع الهويات والألم الإنساني والصراع على السلطة، كذلك السكاكين المغروزة في رقاب الأفراد والجماعات على طول أجيال.
ورغم أن العمل سبق عرضه في باريس، على مسرح كولين، في عام 2017، إلا أنه الآن، بالإسبانية، وبعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يكتسب أهمية خاصة.