"وماذا عن الموتى؟/ يتمددون في مراكبهم الحجريّة/ إنهم أقرب إلى الحجر/ من بحر جامد/ وكل ما فيهم من عيون وأحداق وأنامل/ يأبى المباركة"..
اختارت الشاعرة الأميركية آن ساكستون طريقة موتها الأخير، بعيدًا عن كل ما يعكر صفو اللحظات المتبقية في كأس حياتها الشاحب.
قررت إيقاف أنفاسها ونبض قلبها الدائم الانقباض، ماتت مختنقة بثاني أوكسيد الكربون في مرآب منزلها وتحديدًا في سيارتها التي أغلقت أبوابها لتعانق الموت مثلَ ناسكة، وقد تركت وراءها ابنتيها: جويس وليندا. انتحرت آن لتضع حدًا لسلسة انهياراتها العصبية وجرعات الاكتئاب الزائدة، ووحشتها المزمنة. كيف استطاعت آن وضع حدّ لحياتها التي لم ينقصها الأطفال أو الحب أو الشعر؟ وهل اتفقت على الأمر مسبقًا مع الموت؟
"هي تظن أنها تستطيع تحذير النجوم/ المرأة التي تكتب/ في الأصل جاسوسة/ حبيبي أنا تلك الفتاة".
ولدت آن ساكستون في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر في بلدة ماساشوستس، ونالت جائزة بوليتزر الشعر في العام 1967.
كتبت هربًا من الموت الرتيب. كانت الكتابة سبيلها الأمثل لتفريغ الحكايات الطويلة، لكنها راكمت داخلها الأسئلة الوجودية، وما تعيشه مع نفسها من أزمات خالصة، وهي التي لم تصمد أمام تحديات الحياة ومطالبها.
كانت تحيط نفسها بشبكة عنكبوتية محتواها الكلمات والاستعارات والكثير من الحقن وأدوية الأعصاب والتشويش الذي فرضه الواقع الحياتي ولم تستطع كطفلة وشاعرة بين هلالين تحمّله.
نشرت آن ساكستون في العام 1994 كتابًا تحت عنوان "البحث عن ميرسي ستريت: رحلة عودتي إلى أمي". كتبته بعد تجربة مريرة مع العلاج النفسيّ عن الاكتئاب والمرض، فكانت صادقة وبسيطة، عرّت واقعها الشخصيّ على قارعة الطريق، بعيدًا عن الأشكال التقليدية والتعابير المستهلكة.
تعتبر آن شاعرة حداثية بكل ما تحمل هذه العبارة من مضمون، فلغتها تحمل دفقًا شاعريًا ممزوجًا بالصراحة، وليس المقصود هنا الصراحة المجانية، بل المحملة باليقظة الشعرية، والعمق الماورائيّ.
بدأت ساكستون كتابة الشعر إثر محاولة انتحارها الأولى بتحريض من طبيبها النفسي.
نقلت الشاعرة واقعها المليء بالصدمات والصراعات النفسيّة والإشكاليات الكونية التي تراودها كامرأة وأم وطفلة لابنتيها الاثنتين إلى الكتابة. كتبت عن الانتحار وعن حياتها العاطفية المصدعة، فكان لها معجمها الخاص الأنثوي والاعترافيّ. هي التي أتقنت كسر التابوهات في عصرها بطريقة سلسة ومقنعة وعميقة.
أبرز أعمال ساكستون "الطريق إلى بدلام ونصف طريق العودة"، "عش أو مت"، "تحولات"، "كتاب الحماقات"، "يوميات الموت"، "كلمات للدكتور واي"، إضافة إلى أربع قصص للأطفال، شاركها في كتابتها ماكسين كومين.
"كتبت عن أمور مثل الطمث، الإجهاض، سفاح القربى، المخدرات في زمن لم تكن فيه مثل هذه الموضوعات لائقة للشعر"، تعود هذه العبارة للشاعرة ماكسين كومين في مقدمتها عن أعمال ساكستون الشعرية. فهل الطفولة منبع الأمراض النفسية أو أنها الشخصية ذاتها تولد بصبر قليل وهوامات انتحارية؟
عاشت آن الطفلة في بوسطن مع عائلتها، حيث ترعرعت ونشأت وسط مشاكل عائلية. عانت منذ بداية حياتها من مشاكل نفسية، نتيجة حساسيتها المفرطة وصولًا إلى الاكتئاب، ولا يخفى على أحد علاقتها المحتدمة بوالدتها التي منعتها من كتابة الشعر خلال طفولتها. الأم التي كانت تتميز بالسيطرة والتحكم، وهذا ما راكم الأوجاع النفسية في عالم آن التي لم تكن تعرف الكثير عن ذاتها في تلك الفترة المبكرة. وجديرٌ بالذكر آن ساكستون أخبرت معالجها النفسي عن اعتداء والدها الجنسيّ عليها وهي طفلة، ممّا راكم من عذاباتها المتراكمة وجعلها ضحية تعقيدات طفولتها من جهة، ومن جهة أخرى، ضحية شخصيتها المثقلة بالغرف المعتمة والتناقضات المرضية، والتي لم تفلح أدوات التحليل النفسي في سبر أغوارها أو إنقاذها من رفرفة الغربان في فناء رأسها المصدع، "أعرف ما أعرفه/ أنني الطفلة التي كنتها/ أحيا الحياة التي كانت لي/ إنني يافعة شبه نائمة/ إنّه وقت المياه، وقت الأشجار".
تزوجت آن في سن التاسعة عشرة من ألفريد ساكستون، ويبدو أن حياتها الأسرية كانت معقدة هي الأخرى، حيث رافقتها الانهيارات العصبية المتتالية خاصة بعد موت عمتها التي ذكرتها في قصائد كثيرة باسم "نانا".
عاشت آن مع أشباح الموت التي كانت تناديها وتحثها على الغياب هروبًا من كل ما هو آني وبائس. وقد اعترفت بذلك سواء لأطبائها النفسيين أو حتى في قصائدها وخاصة الأخيرة حيث يظهر شبح الموت مسيطرًا بقوة على وجودها وشكلها وتصرفاتها، بأنها لم تكن أمًّا ناجحة، وكان مزاجها المتقلب وعدم تحملها للمسؤوليات يوسع الخراب في هذا الحيز من حياتها الشخصية، الذي يطغى عليه قلة الاحترام ومعاملتها السيئة لعائلتها.
كتبت حيث فشلت، لكن محاولات الانتحار لاحقتها من المطبخ إلى الغرفة إلى الشرفة، ليفلح الموت في عناقها في مرآب منزلها، حيث تركت الهاتف يرن في الأعلى بالقرب من العقاقير والوسادة المكتئبة وخزانات الطفولة الممتلئة بالأسباب والنتائج والمصير المحتوم.
في قصيدتها "قالت الشاعرة للمحلل النفسي"، التي ترجمها الشاعر سامر أبو هواش، تقول آن:
"ميداني الكلمات/ كلمات أشبه بالطوابع البريدية/ بقطع العملة المعدنية/ أو أحسن من ذلك/ بأسراب النحل/ وعليّ الاعتراف: لا تكسرني إلا ينابيع الأشياء/ كأنما يمكن عدّ الكلمات كنحلات ميتة في العليّة/ بعد أن فارقتها عيونها الصفراء وأجنحتها الجافة/ وعليّ أن أنسى دائمًا كيف في وسع كلمة واحدة أن تنتقي كلمة أخرى/ أن تجاور كلمة أخرى/ حتى يتكون شيء ما ربما كنت قد قلته../ لكنني لم أقله أبدًا".
تسلمت آن منصبًا تعليميًا في جامعة هارفرد، وعلى الرغم من نشاطاتها وقدرتها اللامتناهية على قراءة الشعر وإنشاده بطريقة ساحرة، لكن التعب وشدة المرض لطالما أثرا على مسارها المهنيّ وحدّا من قدرتها على الاستمرار.
ظهر هيكل الموت في أكثر نصوصها الاعترافية الأخيرة. وعلى الرغم من استساغة الجمهور لكتاباتها وثناء النقاد عليها، فقد غابت مشاهد الحنين والعذوبة وسرد اليوميات ولو بطريقة لاذعة، ليطغى اليأس والتشويش والفراغ وسحر الموت على نصوصها الأخيرة.
ربطت آن والشاعرة سيلفيا بلاث صداقةٌ ومصيرٌ متشابهٌ، لقد فلسفا الموت سويًا، باعتباره المنقذ من الرتابة وهباء الحب ومعاناتهما المشتركة من الروتين المترتب على واجبات الحياة الزوجية التي لا تشبه ميلهما للحب الهلاميّ، بعيدًا عن ضجيج الأطفال وطقطقة الأواني وترتيب السرير الزوجي المثقل بالخيانات.
فهل وطدّت صداقتها أواصر الانتحار، أو أنّه الشّعر يحدد مسبقًا مصير الشاعرات المحاطات بالسحر وشعوذة النصوص القادمة من الغيب؟
"ثمة حيوان في داخلي/يتشبث بقلبي/ سلطعون ضخم/ أطباء بوسطن رفعوا أيديهم عنه/ جربوا المباضع والإبر/ والغازات السامة وكل شيء/ وبقي السلطعون../ رأيت حلمًا مرة/ ربما كان حلمًا/ ولم يكن هذا السلطعون سوى جهلي بالرب: لكن من أنا لأصدق الأحلام؟".
لا يمكننا أن نذكر الشعر الأميركي دون أن نأتي على ذكر الرائدة في نقل الذاتي والخاص بطريقة احترافية إلى العلن. آن ساكستون التي سبرت أغوار المرأة وسردت طبيعتها بتلقائية وجنوح وعمق ومثالية، وهذا ما ظهر في سيرة حياتها التي ألفها ديان وود ميدلبروك.
"ضع أذنك على مقربة من روحك واسمع بدقة"، نعم يا آن بوسع العالم الآن وكل يوم أن يسمع قصائدك المغناة أو المكتوبة، فروحك تحلق في المجال الجويّ للشعر، فهل اخترت الموت أم هو الذي اختارك؟ وهل "التجديف المروع نحو الرب" و"يوميات الموت" خفّفا من ضجيج حياتك المؤلمة؟
"أي مكان بارد وغريب هذا؟ الحياة تصطخب في داخلي. لقد كذبت/ أجل كذبت. أو ربما في لحظة جبن ملعونة/ لم يرض جسدي مفارقتي../ إذًا هذا هو الجحيم، فهو ليس بكثير/ ولا بالرائع أو البشع/ كما قيل لي".
لا أعرف بماذا يشعر الموتى، لكنني أشعر بما تحس به شاعرة بعد الموت وهي تضع قصيدة في الجنة وأخرى في النار وتغادر من باب موارب تاركة دفاترها للموت، "إلا أني أحترق/ مثلما يحترق المال: هباءً".
يأتي الكثير من الشعراء إلى العالم، لكن الإشكالية الوجودية سواء في الشكل أو المحتوى أو الإلهام، تبقى ملتصقة بالموهبة والخلق والصفعة الكهرومغناطيسية التي تولدها طاقة الشاعر أو الشاعرة؛ آن ساكستون تلذع القارئ بشخصيّتها ونصها، تاركة له حرية التخاطر مع عالم الوحي المقدس.