}

الوعي: الموضوع الأكثر إشكالية في العلم المعاصر

ماكس تِغمارك 30 يناير 2025
ترجمات الوعي: الموضوع الأكثر إشكالية في العلم المعاصر
(Getty)


ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

شغلت موضوعة الأصل The Origin في الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالًا للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، وأصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الاكثر إثارة ورهبة واستجلابًا للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة الشبح في الماكنة The Ghost in the Machine التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلًا للوعي يتفق مع ثنائية العقل/ الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلًا عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي، فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يومًا بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية، وفي مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...). بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعة تقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة.

أمرٌ آخر تجبُ الإشارة إليه. الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو ميزة عصرنا. ربما يمثل (ماكس تغمارك، كاتب الكلمات التالية، مثالًا شاخصًا بين أمثلة كثيرة؛ فهو مختصّ بالفيزياء النظرية، وقبلها كان قد درس الاقتصاد، ثمّ صار أحد الخبراء العالميين في الذكاء الاصطناعي الذي كتب فيه كتابًا رائعًا نال شهرة عالمية وصار أحد المرجعيات المعتمدة في أدبياته. 

***

المقال:                                                    

بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه بها: الوعي Consciousness. كثرةٌ من العلماء يطردون هذه المفردة من قواميسهم ويحسبونها هراءً كاملًا غير ذي صلة بالعلم المعاصر؛ في حين هناك آخرون كثيرون منهم يرونها مستحقّة لأن تكون مبحثًا مركزيًا عظيم الأهمية، وهم في هذا الشأن لا ينفكّون يعيدون القول: دعونا لا ننسى القلق بشأن الآلات التي قد تصبح واعية في قادم الأيام، وموضوعات أخرى على شاكلتها. ما الذي أفكّر فيه أنا بشأن الوعي؟ أرى من جانبي أنّ موضوعة الوعي لا شأن لها بالتقدّم العلمي المضطرد، وفي الوقت ذاته هي ذات أهمية عظمى بشكل يصعب تصديقه من جانب غير المختصّين. دعوني أبيّن السبب كيف يمكن أن تستقيم هذه الثنائية الإشكالية.

أولًا وقبل كل شيء، تخيّلْ نفسك مطاردًا من قبل مقذوفة تتبع الحرارة المنبعثة منك (مثلما يفعل صاروخ مضاد للطائرات، المترجمة). في هذه الحالة لن تهتمّ كثيرًا بأنْ تكون هذه المقذوفة حائزة على وعي بذاتها أم لا، أو أن تمتلك تجربة ذاتية تجعلها تدرك بأنّها تعمل كمقذوفة تتبع الحرارة المنبعثة من الأجسام. لماذا لن تهتمّ بمثل هذه الأمور؟ لأنّ كلّ ما يهمّك هو ما تفعله المقذوفة وليس ما تشعر به. يكشف لنا هذا الأمر بأنّ شعورك بالأمان من مستقبل الذكاء الاصطناعي فقط لأنّه لا يمتلك وعيًا ليس اكثر من خدعة كاملة. أنت تريد فقط أن تتوثّق من أنّ سلوكه يتوافق تمامًا مع ما ترغب فيه من أهداف.

على الجانب الآخر توجد نافذة للرؤية والتفكّر يكون فيهما الوعي ذا أهمية فائقة، بل وأكثر من هذا. أشعر أحيانًا بأنّ الوعي يمكن أن يكون حافلًا بمستويات عظمى من الإثارة. لو طوينا خلفنا 400 سنة أو ما يقاربها وتبصّرنا فيما حدث حينذاك لشهدنا غاليليو وهو يخبرك بأنّك لو رميتَ تفّاحة وحبّة بندق بزاوية مائلة عن الأرض فستتحرّك الاثنتان في مسار دقيق له شكل قطعٍ مكافئ Parabola، وسيكون بمستطاع غاليليو كتابة كلّ المعادلات الرياضياتية التي تصف هذه الحركة؛ ولكن لن يكون بمستطاعه إخبارك عن السبب في أنّ التفّاحة حمراء اللون وأنّ حبّة البندق بنّية اللون، كذلك لن يقدّم لك أسبابًا معقولة بشأن كون التفّاحة طريّة القوام في حين أنّ حبّة البندق صلبة. ستبدو مثل هذه الموضوعات بالنسبة لغاليليو أشياء خارج نطاق تداول العلم لأنّ العلم بكامله قبل أربعمائة سنة لم يكن قادرًا على تقديم توصيفات دقيقة معقولة (بهيئة رياضياتية في العادة) حول نطاق ضيّق للغاية من الظواهر التي تختصّ بالحركة (الإشارة هنا إلى علم الميكانيك الكلاسيكي، المترجمة). ثمّ قدّم لنا ماكسويل Maxwell معادلاته الأربع الأنيقة التي أخبرتنا شيئًا عن طبيعة الضوء والألوان، وهنا صارت الالوان والضوء شيئًا يندرج تحت مظلّة العلم. ثمّ حلّ علينا الميكانيك الكمومي Quantum Mechanics الذي أخبرنا السبب وراء كون التفّاحة ليّنة القوام بالمقارنة مع صلابة قشرة البندق، كذلك أخبرنا عن كلّ خواص المادة. هكذا أصبح العلم قادرًا شيئًا فشيئًا على اختراق حصون كلّ الظواهر الطبيعية التي ظلّت لغزًا عصيًا لأزمان طويلة. بلغ العلم في عصرنا هذا حدًا صار معه السؤال: ما الذي يستطيع العلم أن يفعله؟ مكتنفًا بالمشقة ويستلزم الكثير من الوقت، والأفضل والأسرع هو صياغة السؤال بطريقة أخرى موفّرة للوقت والجهد: ما القليل الباقي من الظواهر التي ليس بوسع العلم تناولُها بكيفية ذات معنى لنا؟ أرى من جانبي أنّ الحافة النهائية لهذا القليل المتبقي ممّا لم يدخله العلم في حظيرته هي الوعي. يعني الناس بالوعي طائفة متباينة من المعاني؛ لكنني شخصيًا أعني بالوعي التجربة الذاتية Subjective Experience: تجربة الألوان والأصوات والمشاعر وسواها، وكيف يعني شعوري بأنّني أنا - ولستُ أحدًا آخر- وهذا شيء منفصل ومتمايز تمامًا عن سلوكي المرئي.      

سيكون بمستطاع غاليليو كتابة كلّ المعادلات الرياضياتية التي تصف هذه الحركة؛ ولكن لن يكون بمستطاعه إخبارك عن السبب في أنّ التفّاحة حمراء اللون وأنّ حبّة البندق بنّية اللون


لماذا يتوجّبُ عليّ أن أهتمّ بأمر الوعي؟ أوّلًا يجب عليّ هذا لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي أعرفه بشأن العالَم: تجاربي My Experiences، ومن الطبيعي أنني أحبّ أن أفهم - بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا الوعي هو البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. أحبّ هذا وأتوق إليه بدلًا من تركه ليختصّ به الفلاسفة. ثانيًا: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضًا في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. شخصيًا أشعرُ أن علينا أن لا نتطلّع إلى كوننا ليمنحنا معنى لحياتنا؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لم يعتدْ كوننا أن يكون واعيًا، هو اعتاد فحسب أن يكون كتلة ضخمة من المادة Stuff التي تتحرّك دومًا بكيفيات معقّدة، ومن هذه الحركات المعقّدة نشأت وعلى نحو تدريجي تشكّلاتٌ تنتظمُ في هيئة معقّدة هي الأخرى، ومنها أدمغتنا على سبيل المثال. لدينا هنالك بعيدًا في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. نراها في مناظيرنا (تلسكوباتنا). هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعيًا يخبرنا أنها جميلة. تخيّلْ مثلًا في المستقبل لو تطوّرت تقنيتنا وبلغت حدودًا تسبّبت في انقراض كلّ أشكال الحياة في عالمنا (ومنها نحن أيضًا)؛ فما الذي سيكون عليه كوننا بكلّ مجرّاته؟ هل ستبقى تلك المجرات جميلة؟ كلا. لن يكون الكون أكثر من شيء عديم المعنى، ولن تكون المجرات سوى كتلٍ هائلة من القمامة الكونية المتناثرة في الفضاء الشاسع. هكذا أرى الأمر، وأظنّ كثيرين يشاركونني رؤيتي. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة. عندما أخبرني زميلٌ لي بأنّه لا يرى في الوعي سوى علم رفيع عرضتُ أمامه تحدّيًا: قل لي ما السوء في جرائم الاغتصاب والتعذيب من غير اللجوء إلى مفردة الوعي أو مفردة التجربة البشرية. من غير الوعي أو التجربة البشرية لن نرى في جرائم الاغتصاب أو التعذيب سوى سلوكٍ ناشئ عن دماغ تشكّل بفعل ترتيب محدّد شديد التعقيد لمجموعة هائلة من الالكترونيات والكواركات التي تتحرّك بطريقة ما دون سواها من الطرق، ولو تحرّكت بكيفية مخالفة أو تشكّلت بتنظيم مختلف لما كان الدماغ الناشئ عنها يميلُ لارتكاب جرائم الاغتصاب أو التعذيب. الأمر بهذه البساطة. هل ثمّة سوءٌ فيه؟ المقاربة الاختزالية ودراسة أهمية الوعي لا يجتمعان معًا. 

يتملّكُني شعورٌ طاغٍ بأنّ الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها حقًا حيازة أساس منطقي وعلمي لكلّ من الأخلاقيات الرفيعة والمعنى والغاية في الحياة لا تكون إلّا باللجوء إلى التجربة، وهذه تحيلنا بكيفية تلقائية إلى الوعي لأنّها مقترنة اقترانًا شرطيًا به. لا تجربة من غير وعي. هذا هو بالضبط ما يجعل الوعي عظيم الأهمية من حيث محاولة فهمه عند الإعداد لتشكيل مستقبلنا. ثمّة موضوعان يجب الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يومًا مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ لا أظنّ ذلك. لستُ أرى الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعًا من مصدر للحياة السرية فيه وهذا هو كلّ الفرق. لستُ أرى الأمر على هذه الشاكلة. أرى الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكسارًا أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة. بكيفية متماثلة أرى أنّ ما يجعلُ دماغي واعيًا هو الطعام الذي أتناوله والذي يُعادُ ترتيبه في دماغي؛ لكنّ انتبه! طعامي ليس واعيًا. ليس ثمّة طعامٌ في العالم يمتلك وعيًا كالوعي البشري. إنّ ما يجعلُ دماغي يمتلك وعيًا ليس تكوّنه من ذرّات تختلف عن ذرّات المادة التي يتكوّن منها طعامي: إنّها ذات الإلكترونات والكواركات. أليس هذا صحيحًا؟ الأمر النوعي الفارق يكمنُ في إعادة ترتيب الذرّات في دماغي. هنا سينشأ السؤال العلمي: ما الخواص التي يمتلكها هذا النمط الدماغي من معالجة المعلومات ليجعلني قادرًا على امتلاك تجربة ذاتية خاصة بي؟

قد يفضّلُ بعض الناس أن يكون روبوتُ مساعدُ المنزل المستقبلي الخاص بهم كائنًا بشع الملامح (زومبيًا Zombie)، مفتقدًا للمسة البشرية، فاقدًا للوعي، حتى لا يشعروا بالذنب إزاء تحميله أعباءً مملة أو إيقاف تشغيله عندما يرغبون، وقد يفضّلُ بعض الناس أن يكون ذلك الروبوت واعيًا حتى يمكن أن يتحصّلوا على تجربة إيجابية من إمكانية التشارك بالوعي مع آخرين، وحتى لا يشعروا بالانزعاج من هذه الآلة التي تتظاهر بالوعي على الرغم من أنها لا تعدو أكثر من زومبي قميء. الأكثر أهمية من ذلك، في المستقبل البعيد جدًا، لو كانت لدينا حياةٌ (بمعنى مضمر مفاده لو كان لنا وعي، المترجمة) تنتشر من الأرض إلى مجرات أخرى حتى لكانّها تشملُ الكون بأكمله، ولو ثبت لنا بشواهد مؤكّدة أنّ هذا الوعي الكوني يجترحُ أفعالًا مذهلة في المجاهل الكونية السحيقة، ألن يكون الأمر سيئًا لنا في وقتنا الحاضر لو علمنا أنّ كل هذه الأفاعيل الكونية العظيمة هي نتاجُ (زومبي) ميكانيكي بلا وعي، وأنّ كلّ ما شعرنا بالرضا عنه قبل وفاتنا لم يكنْ أكثر من لعبة؟

أشعر -بمسؤولية كبرى- أننا يجب أن نتعامل حقًّا مع مثل هذه الحدود البعيدة للجهل العلمي، أعني بذلك معضلة الوعي، وأن نحاول فهم مثل هذه الموضوعات الإشكالية حتى نتمكن من تشكيل مستقبل رائع حقًّا – مستقبل لا يبدو وكأنّ الأشياء الرائعة فيه تحدث من خارج نطاق التجربة المباشرة؛ بل مستقبلٌ يكون بوسع الفرد تجربة مكامن الروعة فيه وهو ماكث في منزله ولا يكتفي بالتطلّع إلى الأشياء الرائعة التي تحدث خارجه هناك في الآفاق البعيدة.

* ماكس تِغمارك Max Tegmark: فيزيائي أميركي من أصل سويدي. غادر السويد عقب حصوله على البكالوريوس في الفيزياء من المعهد الملكي للتكنولوجيا عام 1990، وكان قد حصل على بكالوريوس في الاقتصاد قبل هذا من مدرسة ستوكهولم للاقتصاد. حطّ رحاله في كاليفورنيا حيث درس الفيزياء في جامعة كاليفورنيا (بركلي) وحصل منها على الماجستير عام 1992، والدكتوراه عام 1994. شغل منصب أستاذ فيزياء في جامعات أميركية عديدة (منها بنسلفانيا) حتى انتهى أستاذًا في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT. له ثلاثة كتب منشورة أهمها كتاباه الأخيران:

- Our Mathematical Universe: My Quest for the Ultimatate
Nature of Reality   

- Life 3.0: Being Human in the Age of Artificial Intelligence     
الكتاب الأخير مترجم إلى العربية. 

- الموضوع  أعلاه ترجمة لمعظم الحديث الفيديوي المنشور في موقع Bigthink بعنوان:

Why consciousness is one of the most divisive issues in science today?

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.